ضوء على التاريخ المغيب لعلماء الحجاز

هناك الكثير من الموضوعات الهامّة التي تطرح للنقاش في مواقع سعودية على شبكة الإنترنت، حيث يفصح المتحاورون عن بعض من مكنوناتهم الداخلية وضمن هامش معقول من الحرية، بحيث يمكن رصد هذه الحوارات واعتبارها بشكل عام مؤشراً على اتجاهات الرأي العام السعودي، بأكثر مما تعبر عنه الصحافة والإعلام المحليين.هناك على شبكة الإنترنت، يقوم أفراد ممن يمكن اعتبارهم منتمين الى الطبقة الوسطى العريضة في المملكة بالتعبير عن اتجاهاتهم وميولهم وآرائهم. هؤلاء في مجملهم وكما يبدو من الحوارات العديدة مسكونين بأنواع مختلفة من الهموم الجمعية، لم تجد لها متنفساً في الإعلام المحلي، ولا يمكن طرحها إلا بكثير من الحذر حتى لا يحظر الموقع محلياً، مع أن أكثر المواقع الحوارية السعودية أصبحت محظورة.

ما يهمنا هنا، هو استجلاء للآراء المختلفة بين السعوديين في قضايا وطنية مصيرية بالغة الحساسية. وسنقوم في كل عدد بعرض قضية من القضايا، وآراء المختلفين، الذين لم يجدوا إلاّ مواقع الإنترنت لطرحها على بساط النقاش. الموضوع التالي منقول عن
http://bb.tuwaa.com/showthread.phps=&threadid=39560&perpage=20&pagenumber=1

* * *

هذه وقفات عابرة عند بعض الشخصيات الفكرية والأدبية في أهم مدينتين في الحجاز مكة والمدينة، التي اضطلعت بدور رائد في المجالات العلمية والثقافية بدءا من القرن الحادي عشر الهجري فهي الفترة التي تحتاج إلى قدر كبير من البحث والدراسة والتحليل لما أصابها من إغفال ولحق بها من نقص. وما ذلك إلا لوقوعها في فترة ما يسمى بعصور الانحطاط الفكري، مع أن الشواهد التاريخية تثبت ان المدينة ممثلة في مسجدها النبوي الشريف ظلت تؤدي دورا هاما في نشر العلم والثقافة الإسلامية. وليس أدل على ذلك من بروز عالم متمكن في علوم الشريعة الإسلامية وهـو الشيـخ إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين الكردي الكوراني (1025/1103هـ) الذي تتلمذ على أحد العلماء المجاورين بالمدينة وهو الشيخ أحمد القشاشي ثم درّس بالمسجد النبوي، وتلقى العلم عنه عدد كبير من أبناء الأمة الإسلامية، وترك ثروة علمية تقدر بما يزيد على مائة كتاب كما يذكر المؤرخ المرادي. إضافة إلى ذرية صالحة حملت العلم عنه، وكان منهم الشيخ محمد سعيد بن إبراهيم الكوراني (1134/1196هـ) والشيخ محمد أبو الطاهر الكوراني (1085/1145هـ) وقد أخذ العلم عن هذا الأخير العلامة المجدد الشيخ ولي الله الدهلوي ـ صاحب: ''حجة الله البالغـة'' الذي استقـر بالمدينة في الفتـرة 1143/1145هـ، وكـان ملازمـا طـوال تـلك الفتـرة للشيـخ أبي الطاهر الكوراني.

كما حفل الحرم النبوي الشريف في القرن الثاني عشر الهجري بحلقاته العلمية المتعددة. ومن هذه الحلقات ما كان مختصا بعلم اللغة والأدب مثل حلقة الشيخ محمد بن محمد الطيب الفاسي الذي كان تلميذا من تلامذة الشيخ محمد أبي الطاهر الكوراني، ولقد كان الفاسي إماما في اللغة العربية في وقته، ومحققا متضلعا في كثير من العلوم كما تدل على ذلك قائمة الكتب التي تنسب إليه. كشرحه على معجم القاموس، وشرح ''نظم الفصيح'' وشرح ''كافية بن مالك'' وشرح ''شواهد الكشاف'' للزمخشري.

كما حفل المسجد ـ في الفترة نفسها ـ بحلقات أخرى كانت مختصة بالحديث وعلومه، ومنها حلقة الشيخ محمد حياة السندي الذي تلقى علومه من مشائخ عدة يأتي في مقدمتهم الشيخ أبو الحسن بن عبد الهادي السندي والشيخ محمد أبو الطاهر الكوراني، ثم تصدى للتدريس بعد وفاة شيخه السندي، وأثمرت هذه الدروس، عن تأليفه لكتب هامة منها شرح الترهيب والترغيب، ومختصر الزواجر لابن حجر، وشرح الأربعين، ولعله من المفيد هنا أن ننقل عبارات الدكتور عبد الله العثيمين أستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض في كتابه (الشيخ محمد بن عبد الوهاي ـ حياته وفكره ـ عن الشيخ محمد حياة السندي)، أما محمد حياة السندي فكان حجة في الحديث وعلومه صاحب مؤلفات مشهورة في هذا الحقل، وكان أستاذا لعدد من الطلاب الذين أصبح بعضهم دعاة إصلاح أوشخصيات علمية مشهورة في مناطق إسلامية متعددة ويؤكد الدكتور العثيمين أثر الشيخين محمد بن حياة السندي، والشيخ عبد الله بن سيف على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ لا بالنسبة لتحصيله العلمي فقط وإنما بالنسبة لاتجاهه الإصلاحي أيضا.

* * *

نحن بحاجة الى مثل هذه البحوث، لتسليط الضوء على زوايا من ماضينا، اجتهد محبو الظلام في طمرها و طمسها لئلا يتعرف عليها الناس. أخي: بطرحك هذا سوف تغضب من لا يرى في الوطن سوى الوهابية المقيتة التي تحقد على من لا يسير مكبلا في أصفادها.

* * *

هذا تاريخ.. حقائق ووقائع. فليغضب من يغضب. انه بغضبه لن يستطيع أن يحجب التاريخ.

* * *

تنقسم جوقة الإرهاب التكفيرية الى أقسام: قسم يخطب في الجوامع، وقسم يعلم في المدارس والجامعات، وقسم يجمع الرعاع والأموال، وقسم يفخخ ويفجر، وقسم يدعو إلى فكرهم في الساحات وغيرها من مواخير الإرهاب، وقسم يستميت دفاعا عنهم بقلب الحقائق في طوى وغيرها من مواقع تحترم آدمية الإنسان.

* * *

عزيزي: ياريتها راحت وجات على العلماء! ياسيدي هذه حاجات أكثر بكثير، وما نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل. ليس هناك ليلٌ إلا بعده فجر وشروق وضحى ونهار؛ ومن يعش رجباً يرى عجباً؟!

* * *

اذا تكرمت، أود معرفة معلومات عن الشيخ علوي المالكي (الأب) والشيخ عبدالله خياط والشيخ الفاهاشم (غيرمتأكدة من الإسم) رحمهم الله.. مذاهبهم دراستهم.. تلاميذهم.. كان الوالد يحكي عنهم ولكن اريد معلومات أكثر عنهم.

* * *

كم نحن بحاجة الى معرفة علمائنا.. كم يؤسفني أنه لو سألني أحد عن علماء الشريعة والدين من أهل الحجاز المعاصرين أنني لا أستطيع الاجابة. ليت الاخوة يسلطون الضوء على العلماء المعاصرين.

* * *

ليس العلماء فقط. ولكن هناك رواد كثيرون في مختلف المجالات. حتى في حائل لديكم. قل لي من من جيل (ستار أكاديمي) يعرف النبيل الفاره فهد العريفي! ان واجبنا الاحتفاء برموزنا الأنقياء.

* * *

من علماء المدينة في هذه الحقبة المؤرخ عبد الرحمن بن عبد الكريم الأنصاري (1124/1197هـ) الذي تلقى علومه في مدرسة الحديث التي نشأت في المدينة خلال القرن الثاني عشر الهجري، حيث نعرف من ترجمته انه تلقى العلـم على الشيـخ أبي الطاهر الكوراني، وأبي الطيب السندي، ومحمد بن الطيب الفاسي.

ينعته المرادي في كتابه ''سلك الدرر'' بمؤرخ المدينة في عصره كما يذكر عمر الداغستاني وهو معاصر له بالمدينة، أنه ألف تاريخا جمع فيه بيوتات أهل المدينة وعبارة المرادي على قصرها تحمل دلالة واضحة على أهمية كتاب الأنصاري المسمى ''تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من أنساب'' فهو كما ذكر محقق الكتاب الأستاذ محمد العروسي المطوي ليس مجرد كتاب أنساب فقط كما يدل عليه عنوانه، بل هو بالإضافة إلى ذلك يصور مجتمع المدينة في القرن الثاني عشر من مختلف أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يمكن الدارس وبخاصة الاجتماعي من تلمس العناصر والمعطيات للدراسة والتحليل والإنتاج.

لم يذكر الأنصاري سببا لتأليفه كتابه التحفة إلا أنه يشير عند ترجمته لآل الأنصاري إلى أن المؤرخ السخاوي أهمل كثيرا في كتابيه ''التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة'' و ''الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع'' من فروع هذا المجموع ـ أي آل الأنصـاري ـ وذلك من قلـة العـلم بأصولـهم وعدم تفصيلهم، ولعل هذا ما حدا بالأنصاري أن يؤلف كتابه هذا وكتابا آخرا في تاريخ أنساب اهل المدينة لا نعرف عنه إلا اسمه وهو ''نشر كمائم الأزهار المستطابة في نشر تراجم أنصار طابة''.

والأنصاري من خلال الترجمة التي كتبها لنفسه يبدو أنه أحد أولئك العلماء الذين تجولوا في بعض البلاد العربية والإسلامية، يحدوهم في ذلك الرغبة في طلب العلم والاستزادة من معطيات المعرفة، فهو يسافر إلى بلاد اليمن سنة 1172هـ، ويدون وقائع رحلته في كتابه المعروف باسم ''قرة العيون في الرحلة إلى اليمن الميمون'' كما يشير إلى اهتمامه بالأدب والشعر خاصة، وذلك عند ذكره للزيارة التي قام بها لإمام اليمن ''المهدي العباسي'' حيث مدحه بقصيدة بائية في سبعين بيتا، وهذا يؤكد ما نذهب إليه من احتكاك علماء الحرمين الشريفين ـ في تلك الفترة ـ واتصالهم بنظرائهم في البلاد العربية والإسلامية وهو اتصال كانت له ثمراته المباركة وآثاره الحسنة.

وكتاب الأنصاري ـ التحفة ـ يعتبر دليلا واقعيا على خطأ الرأي الذي ذهب إليه بعض الباحثين وخصوصا المستشرق ''فرانز روزنتال'' من أن كتابة تاريخ المدينة المنورة لم تحظ بالجانب السيري، ويعتبر مؤلف الأنصاري حلقة في سلسلة من الكتب التي عنيت بتدوين تراجم رجال البلدة الطاهرة، بدءا من القرن الثامن الهجري، وكان من اهمها كتاب ابن فرحون المعروف باسم ''نصيحة المشاور وتعزية المجاور'' وكتاب ''الأعلام فيمن دخل المدينة من الأعلام'' للمطري، ثم تبع هذين المؤلفين المؤرخ السخاوي فألف كتابه ''التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة'' وعني فيه بتراجم رجال المدينة مـنذ عهد الـرسول صلى الله عليه وسلم حتى عهد المؤلف وهو القرن التاسع الهجري.

* * *

وممن برز في المدينة من العلماء، في حقبة القرن الثاني عشر، محمد بن زين العابدين بن عبد الله بن عبد الكريم الخليفتي وعالمنا هذا كما يذكر المرادي تلقى علومه الدينية على يد عدد من مشائخ العصر الأجلاء كالشيخ محمد حياة السندي، والسيد إبراهيم أسعد وبعد أن تكونت مقومات شخصيته العلمية أخذ في تدريس العلوم مما هيأ له بعد فترة من المراس والدربة أن يتولى وظيفة الخطابة والإمامة كما تولى منصب الإفتاء في المدينة.

أما من حيث إنتاج الخليفتي العلمي فنجد مصدرا ككتاب تراجم أعيان المدينة، يذكر أنه كان ناظما وناثرا فإنه الوحيد بين المصادر التي ترجمت له نجده ينفرد بذكر مؤلفه في تاريخ المدينة، ولا نجد ذكرا لهذا الكتاب عند معاصره عبد الرحمن الأنصاري وهو أمر غريب، فلقد عني الأخير بتدوين معظم الآثار العلمية التي دونها اصحابها إبان القرن الثاني عشر الهجري.

أما كتابه في تاريخ المدينة فهو ''نتيجة الفكر في خبر مدينة سيد البشر'' وهو كتاب لا يزال مخطوطا توجد نسخة منه في مكتبة فضيلة الشيخ جعفر فقيه ـرحمه الله (والد الوزير اسامة فقيه) وفي مقدمة هذه النسخة نجد المؤلف يذكر أنه وضع مؤلفه استجابة لرغبة قاضي المدينة وابن قاضي البلد الحرام محمد أمين أفندي ابن المرحوم صالح افندي، الذي طلب منه أن يجمع له نبذة عن محاسن المدينة الزاهرة، وآثارها الفائقة، فكان هذا الكتاب الذي رتبه على خمسة أبواب وخاتمة:

الباب الأول: في فضل المدينة.

الثـانـي: في فضل مسجدها الأنور وروضتها الشريفة.

الثـالـث: في من يُزار بها من الصحابة الأخيار.

الـرابـع: في مشاهدها ومآثرها.

الخـامس: في فضل المجاورة بها.

* * *

اتمنى ايضا أن أجد تفصيلا عن ابو بكر الجزائري والالباني رحمه الله.

* * *

سؤال بعد الاستئذان والاعتذار: هل الشيخ ابي الطيب السندي هو الشيخ الذي درس على يديه

الشيخ محمد بن عبدالوهاب، عندما ذهب يطلب العلم في طيبه الطيبة؟

* * *

إسمه الفاتاني وكان يطلق عليه لقب مسند الحجاز وقد كتب عنه الدكتور عبدالوهاب أبو سليمان.

* * *

وشهدت بيئة المدينة المنورة الأدبية في حقبة القرن الثاني عشر الهجري حركة شعرية حاولت أن ترتفع إلى أفق الأحداث التي عاشها المجتمع في تلك الفترة. وإذا كانت الملحمة كجنس أدبي عند الأمم الأخرى قد عرفت السرد وسيلة فنية قبل أن تصبح سمة من سمات الرواية والتي يعتبرها بعض النقاد ''الحفيد الوليد للملحمة'' فإن القصائد الحماسية في الأدب العربي كقصائد الكميت وأبي الطيب المتنبي عرفت أيضا هذا الأسلوب الفني، وشعراء المدينة في القرن الثاني عشر الهجري كالبيتي، وسَفَر، والجـامي، نزعوا إل هذا الألوب الفني ـ السرد ـ في أشعارهم التي ضمنوها وصفا حيا لبعض الوقائع والأحداث الاجتماعية. فهذه قصيدة الشاعر محمد سعيد سفر يقوم بناؤها الفني على أسلوب السرد، حيث يقول الشاعر:

كم قتـَّلوا من صناديد مُكرَّمـةٍ

كم قتـَّلوا من شجـاعٍ باسلٍ بطل

كم هتكوا عِرض ربّات الخُـدورِ

وقد خرجن من فعلة الأوغاد والسـَّفلِ

هَلكى حفايا عرايا في مكـابـدة

من بعد ما كُنَّ في الأثـواب والحُللِ

أصبن في المال والأهلينَ مع ولدٍ

وفي النفـوس وهذا حكمـة الأزلِ

رجالهنَّ غـدوا أسـرى كأنـهم

رجالهنَّ غـدوا أسـرى كأنـهم

* * *

واتخذ بعض شعراء هذه الحقبة التصوير أداة لتجسيد الوضع السيء الذي أضحت عليه مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك الحقبة، فهذا الشاعر أحمد الجامي يجسِّد الخراب والدمار والقتل الذي حلَّ بالمدينة من خلال هذه الصور الشعرية التي تجعل القارىء يتلمَّس عن قـرب الوضع المأساوي للناس وهو في منازلهم، أو في صلاتهم لخالقهم. وفي سبيل تكثيف هذه الصور الشعرية وشحنها بالدلالات القوية والمؤثرة، يستخدم الشاعر من الأساليب اللغوية ما هو ملائم لذلك وهذا يتبدى في كثرة ورود الفعل مبنيا للمجهول، ومعلوم أن تنبه الشاعر لما يمكن أن تحدثه هذه الصيغة من تأثير فينفس القارىء، يدل على وعي الشاعر بدور الصورة في البناء الشعري. يقول الجامي مصورا وضع المدينة في نهاية القرن الثاني عشر الهجري وبالتحديد أثناء فتنة سنة 1189هـ:

فـَبَـلْدَتـُك الغَرَّاء زاد خرابهـا

وقامت للدغ الناس حَيَّاتـُهـا الجُـرْبُ

وقـُطـّعَت الأسباب فيها وعُطـِّلَت

وحقَّ عليها الحزن والنـّوح والنـَّدبُ

وصار يحل الأمر خوفـاً وحالها

غدا حالكاً والخـَلـْقُ عمَّهـم الكـَرْبُ

وجُرِّدَ سيف البغي والمنكر الذي به

الله لا يـرضى ولا أنت يـا حِبُّ

إذا كان في حال السجود لجمعـةٍ

وبين يـدي من لا سـواه لنا رَبُّ

تدور رحى الهيجـا لا دَرُّهـا

وتطحن ذا ذنبٍ ومَن لا له ذنبُ

لقد وجدنا شعراء تلك الفترة يحسنون الاستفادة من بعض الآيات القرآنية، فالشاعر جعفر البيتي يستفيد من ألفاظ السورة القرآنية الكريمة ''العاديات'' فيقول:

الموريات العاديات ضوابحاً

الصَّافنات الزافرات الجـُفّـلِ

وجاء هذا التضمين متلائما مع حادثة أيوب أغا سنة 1134هـ التي وقعت بين أهل المدينة والأغوات ونشأ عنها قتل السيد عبد الكريم البرزخي وابنه السيد حسن البرزخي، وهو يدل أيضا على إلمام شعراء تلك الفترة بالثقافة الدينية التي كانت تشكل أساسا في منطلقاتهم الفكرية والأدبية، وهذا الترابط بين الشاعر وثقافته الدينية يعود إلى بيئة المدينة التي عرفت بمسجدها الشريف وحلقات العلوم الدينية فيها، وكان الكثير من علماء القرون الماضية يجمعون بين الثقافتين الدينية والأدبية. كما نجد الشاعر جعفر البيتي يستشهد بالحوادث التاريخية المعروفة، كسيرة تيمورلنك، وجنكيزخان، وبختنصر، ليدلل على فظاعة الأعمال التي ارتكبت في حق المدينة وأهلها:

عادت لنا سيرة تيمور في حلَبٍ

أيـام صبيـانها شابـَتْ نواصيهـا

ويومه وهو في بغدادَ يَهتِكها

ويوم ''جنكيز'' بالتـتـار يرميهـا

وبختنصَّر من قبل الذي ذكـروا

في مصر والقدس تقريباً وتشبيها

وهذه الاستفادة من الآثار القرآنية والحوادث التاريخية تندمج في إطار العمل الشعري، وتلتحم بكيانه الفني التحاماً كاملاً، وغالباً ما يكون هدفها الإلماح وتحفيز ذهن القارىء وتحريك خياله.

وفي عمود القصيدة التي أبدعها شعراء المدينة في تلك الحقبة محاولات بعض الشعراء التخلص من المقدمة الغزلية والطللية، كما في قصيدة البيتي التي يفتتحها:

المجد تحت ظلال سمر الذبـل وظبا القواضب والجياد القفل

الموريات العاديات ضوابحاً الصافنـات الزافرات الجفل

وهذا التخلص يعد ظاهرة فنية جيدة، ولعل تأثر الشاعر البيتي ببعض شعراء العصور الذهبية في الأدب العربي وخصوصا (المتنبي) جعل الشاعر البيتي ينتهج في قصائده نهجا مختلفا عن شعراء الحقبة العثمانية، بل إن انصراف الشاعر البيتي إلى الشعر انصرافا كاملا جعله يبتعد عما يسمى (الشعر التعليمي) حيث تظهر مصطلحات العلم الشرعي ''من تحليل وتحريم، وواجب ومكروه، ومباح، وناسخ ومنسوخ، وغريب مُرسل''

يحاول شعراء تلك الفترة استعادة تاريخ المدينة الماضي في محاولة ذكية لمقارنته بالوضع المأساوي الذي تعيشه المدينة في الحقبة العثمانية. فهذا الشاعر جعفر البيتي يحاول في أسلوب تهكمي وساخر أن يصور جهل حاكم المدينة وضعف الوازع الديني لديه في تلك الحقبة، الذي اعتقد جهلا وباطلا أنه بفعلته الشنيعة ضد المدينة وسكانها، يرجو ثواب أهل (بدر) الذين كان جهادهم ضد الكفرة والمشركين وليس ضد المؤمنين من سكان المدينة المنورة كما فعل هذا الحاكم في تلك الحقبة السيئة.

كما أن للقاموس الشعري لشعراء المدينة المنورة الذين عرضنا لبعض قصائدهم، ألفاظه وعباراته التي تدل على الروح الإسلامية التي كانت تسري في نفوس هؤلاء المبدعين، فعبارات مثل: نداء، سيرة، ثواب، يندب، يشـكو إلى الله العظـيم، يرغب، الحـبْر، العليم، أهل العلم، الشرف، علم، قِسط، حـُرمة، السجود، رب ، أمـَّنَ، العدل، الإحسان. هذه الألفاظ والعبارات استخدمت استخداما فنيا نأى بها عن التقريرية والنثرية التي تتحول معها القصيدة إلى ما يشبه المنظومة العلمية التي هي أبعد ما تكون عن روح الشعر القائم على التصوير والتجسيد الذي يعتمد على الخيال وما يقوم عليه من صور بلاغية يكون للاستعارة والمجاز دورهما في تقريبها إلى ذهن القارىء، كما يكون لهذه الصور دورها في الإلماح إلى الحالة التي يسعى الشاعر لجذب الانتباه إليها، والتأثر بها وبالتالي الالتحام معها، والتعاطف مع لمضمون الشعري الذي ترتكز عليه القصيدة في بنيتها وتركيبها ودلالاتها المعنوية.

* * *

وإذا ما بلغت بنا الرحلة العلمية القرن الثالث عشر الهجري نجد أن العلم في الحرمين الشريفين ترتبط فيه العلوم الدينية بالعلوم الفكرية والأدبية، والأمثلة على ذلك كثيرة.

ومن أبرز الشخصيات العلمية في هذا المنحى العلمي والفكري الهام الشيخ عبد الجليل بن عبد السلام برادة المدني المتوفى سنة (1327هـ ـ 1909م) حيث يتحدث عنه الأديب والناقد السيد عبيد عبد الله مدني (رحمه الله) فيقول: (كان عبد الجليل برادة من أبرز أعلام المدينة المنورة علماً وأدباً ووجاهةً، وازدوجت في شخصيته سمات من الفضائل متعددة الجوانب والشكول، ولم ينحجز صدى سمعته بين ساكني المدينة وحدها بل ولا في الحجاز ـ وحده ـ فقد تجاوزتهما إلى آفاق أبعد مدى فدوت في الأوساط الإسلامية وتردد ذكره في مجتمعات العلم وأندية الأدب، والشخصيات المبرزة لا تعرف معنى للإقليمية المحددة).

وبالرجوع إلى كتب الإثبات وأسفار الإسناد العلمي الموثق نجد أن قول السيد عبيد مدني بأن البرادة كان شخصية معروفة في جميع الأوساط الإسلامية هو قول غير مبالغ فيه، فهذا الشيخ عبد الحي بن عبد الكريم الكتاني يذكره في مشائخه الذين تلقى عليهم حديث المسلسل بالأولية فيروي عنه قائـلا : حدثني بـه أديب الحجاز الشاعر المفلق والمعمر الشيخ عبد الجليـل بن عبد السـلام بـرادة المدني سماعاً منه بمكة المكرمة عام 1323هـ.

ولقد كان لبيئة المدينة المنورة العلمية وما تتميز به من خصائص حضارية أثره في احتضان المواهب العلمية المتميزة ودمجها في المجتمع ـ نفسه ـ بحيث تصبح جزءاً منه من ناحية، وكذلك قدرتها على تهيئة الأجواء الملائمة لبروز أسماء لامعة تجمع بين العلم الشرعي ومناحي الفكر والثقافة المتعددة.

ونستطيع أن نبرهن على ذلك من خلال شخصية الشاعر المجدد، رائد الشعر السياسي في جزيرة العرب، إبراهيم بن حسن بن حسين الأسكوبي المدني (1264 ـ1331هـ).

ولقد دفع الشيخ الأسكوبي والذي كان فقيهاً حنفياً، ضريبة انفتاحه على الأدب المعاصر في حقبة عرفت بشيء من التقليد والمحافظة، وعدم القدرة على الخروج من أسْرهما، يقول الأستاذ المرحوم عبد القدوس الأنصاري عنه: ''وليس الشيخ من أولئك العلماء النظامين الملتزمين إنه يعجبه البيان ممن كان وفي أي مكان كان، فيضفي عليه برود التقدير والثناء، وقد ساعده على هذا الخلق السمح طبيعته الاجتماعية المتوثبة من فن إلى فن''.

وعلى هذه الوتيرة امتدح الشيخ سليمان البستاني اللبناني العربي المسيحي صاحب ''الإلياذة'' و ''دائرة المعارف'' بمقطوعتين من أجود ما نظم، لأنهما عبرتـا عن خلجات نفسـه الحساسة والطروب لنغمات الأدب من أية قيثارة أرسلت.

وكان عمل البستاني الذي اجتذب أنظار عالم المدينة المنورة وشاعرها ''الأسكوبي'' عملاً فكرياً وأدبياً هاماً، بعد أن أشاح مترجمو العصر العباسي عن ترجمة الإلياذة لـ ''هوميروس''، لأسباب متعددة، فلقد قدم (البستاني) في ترجمته بمقدمة نقدية أتت في مائتي صفحة، تناول فيها أهم مشاكل الأدب العربي بالنظر إلى الأدب العالمي والأدب اليوناني خاصة، وقد جاءت في ستة أقسام: هوميروس حياته وشعره، الإلياذة موضوعها وصحة نسبها (التعريب وأصله)، الإلياذة والشعر العربي الملاحم، ملاحم الجاهليين العرب وملاحم الإفرنج، فعل الحضارة وخاتمة تعبر عن نظرة إجمالية في مستقبل اللغة العربية وواجبات الشاعر إزاءها.

* * *

في بيئة مكة المكرمة العلمية أمثلة أخرى متعددة وثيقة الصلة بما سبق. حيث يمتزج الإبداع العلمي بالفكري والأدبي، بعيداً عما شاهدناه في العصور المتأخرة من تجزئةٍ ثقافية وهذه التجزئة هي غريبة وطارئة على الثقافة الإسلامية والعربية، فنجد في ترجمـة الشيـخ خليفة النبهاني (1301 ـ1370هـ)، بأنه إضافة إلى تخصصه في علوم الحديث والتاريخ، فهو باحث في علوم الجغرافيا (وهو ما يسمى بتخطيط المدن)، وكذلك علم الفلك الذي كان يدرس بالمسجد الحرام.

كما إننا نلاحظ أن تدريس المذاهب الإسلامية المتعمدة سمة حضارية أصلية في بيئة مكة المكرمة والمدينة المنورة العلميتين، فالمذهب الحنبلي كانت مرجعيته في آل حميد منذ القدم، ولقد وجد في بعض كتب الأسانيد المعتمدة، اسم الشيخ عبد الله حميد الشركي (مفتي الحنابلة بمكة)، ويبدو أن التشابـه أو التماثل في أسماء الشخصيات العلمية أمر وارد، فلقد عرف الحرم المكـي الشريف حلقة فضيلة الشيخ المجتهد عبـد الله بن محمد بن عبد العزيـز حميـد (1329 ـ1402هـ)، والد فضيلة الدكتور صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى وإمام وخطيب المسجد الحرام، إلا أن المؤرخ عمر عبد الجبار يورد ترجمة لشخصية أخرى تحمل نفس الاسم وهو الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الله بن علي بن عثمان بن حميد مفتي الحنابلة بمكة (1290 ـ1346هـ) ويذكر أنه ولد في القصيم، وقد انتقل مع والده إلى مكة وأخذ العلم عن مشائخ مكة وعنيزة، وأنه تولى في عام 1326هـ الإفتاء وامامه المقام الحنبلي فظل (رحمه الله) في منصب الإفتاء بجانب التدريس والإمامة إلى أول عهد الحكومة السعودية.

ولقد كان المذهب الشافعي هو الأكثر انتشاراً في مكة المكرمة ومن أعلامه المشهورين الشيخ محمد سعيد اليماني (1270 ـ1354هـ) وابنه الشيخ حسن والد السيد أحمد زكي يماني، وكذلك من أئمته الشيخ حسين بن محمد حسين الحبشي العلوي.

ولا بد من الإشارة إلى السيد الفاضل أحمد بن حسين حبشي فهو الذي أهداني مصورة للمخطوطة القيمة (الدليل المشير)، وقد طبع هذا المخطـوط، وقد اعتمدت في نقـل هذه المعلومات من مـُصـَوَّرة المخطوطة المذكورة.

ومن العلماء الذين اشتهروا بسعة علمهم الفقيه الشافعي الشيخ أحمد ناضريـن (1299 ـ1370هـ)، والسيد علي بن عثمان شطا (1288 ـ1249هـ). وقد أخذ السيد أحمد بن حسين الحبشي (رحمه الله) كثيراً من مروياته عن أحد أئمة الشافعية بالمدينة المـنورة وهو السيـد محمد بن زكي بن السيد أحمد بن إسماعيل بن زين العابدين بن محمد الهادي بن حسن بن عبد الكريم بن محمد بن عبد الرسول الحسيني الشافـعي المدني (1294 ـ1365هـ).

وكان هذا التعاطي والتبادل في العلم أمر شائع في دائرة الفكر الإسلامي الأصيل، وخاصة وان السيد زكي برزنجي الذي تبوأ منصب إفتاء الشافعيـة بالمدينـة المنـورة، جاور بمكة المكرمة وعينـه الملك ـ آنذاك ـ الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود (رحمه الله) رئيساً للمحكمة الشرعية بمكة المكرمة، وظل بهذا المنصب القضائي حتى وفاته.

* * *

شيء رائع، بداية مشروع يمكن للجميع المشاركة فيه واستخراج كنوز المعلومات من بيوتات الحجاز.

* * *

وحدي.. دون أحد! شكراً على إحياء عبق الحجاز.

* * *

شيوع المذهب الشافعي في بيئة مكة المكرمة العلمية لم يحل دون انتشار المذاهب الأخرى، وقد كان لوجود مدارس علمية متخصصة مثل (الصـولتية) التي تأسست سنة 1292هـ، و''الفلاح'' التي أسسها المصلح محمد علي زينل في سنة 1333هـ، أثره في نشر المذهبين الحنفي والمالكي، فنجد في المذهب الحنيفي مشائخ من أمثال الإمام عيسى بن محمد بن عيسى روّاس المكي الحنفي (1292 ـ1365هـ) والشيخ محمد يحيى بن أمان عبد الله الكتبي الحنفي المولود بمكة المكرمة 1312هـ، والشيخ سالم بن عبد الحميد شفي المولود بمكة عام 1306هـ وتوفي بها كذلك 1373هـ، وممن أدركت في مطلع العمر من العلماء الأحناف بمكة فضيلة السيد محمد أمين كتبي، والشيخ محمد مرداد وغيرهم وبرزت أسماء عدة في مدرسة الفقه المالكي مثل: المشايخ: محمد علي المالكي (1287 ـ1367هـ)، وجمال مالكي (1285 ـ1349هـ)، ومُحدِّث الحرمين عمر حمدان المَحْرسي (1291 ـ1368هـ).

ومع أن الكتب والدراسات التي تعرضت لحياته العلمية في مكة والمدينة، ومنها الدراسة المستفيضة التي نشرها عنه الزميل الفاضل الدكتور رضا محمد صـفي الدين السنوسي (58) تدعوه بـ (المحرسي) نسبة إلى مدينة محرس في تونس، إلا أن الباحث أحمد العيساوي من الجزائر يذكر أن نسبته هي المحرشي وليس المحرسي.

ومن المدرسـة المالكية أيضا الشيخ محمد العربي التباني (1315 ـ1390هـ) وهو من العلمـاء الذين أكرمهم الله بالإقامة في الحرمين المكي والمدني، فهو يذكر في الترجمة التي كتبها بخط يده ''وزودني بمصورتها فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، انه وصل قادما من تونس إلى المدينة سنة 1332هـ''، ومن مشائخه فيها محمد بن خيرات الشنقيطي، والعلامة المعروف عبد العزيز الوزير التونسي.

* * *

وممن أدركت من أعلام المدرسة المالكية فضيلة الشيخ حسن بن محمد المشاط (1317 ـ1399هـ) وفضيلـة السيد علوي بن عباس بن عبد العزيز المالكي المتوفى سنة 1391هـ، وابنه المحدث فضيلة السيد محمد علوي المالكي وكذلك فضيلة شيخنا محمد نور سيف بن هلال والذي قرأت عليه في الحرم المدني سنة 1391هـ كتاب رياض الصالحين، ثم في مكة وفي حلقته المعروفة بباب العمرة.

ولقد حفل الحرم المكي بشخصيات علمية مهمة من أمثال المشائخ محمد بن مانـع ومحمد يـاسين الفاداني وعبد الرزاق حمزة وعبد المهيمـن وعبد الظاهر أبو السمح وزكريـا بيلا، وعبد الله الخليفي وعبد الله اللحجي، إسمـاعيل الزيـن وعبد الفتاح راوه وعبد السلام البسام وصالح بلـلـو وعبد الله خياط وحمد الشـعْلان.

* * *

وأين كانت هذه الكنوز مخبأه ولماذا لا تبرز؟ اليست من علامات الوطن المضيئه؟ أما الزبد فيذهب جفاءا وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

* * *

كان الراحل محمد حسين زيدان ـ رحمه الله ـ يصف مجتمعنا بأنه (مجتمع دفان).. كثير من الرموز والقيادات التاريخية والرواد في كل المجالات تراكمت عليهم رمال النسيان. فنشأت أجيال منقطعة عن رموزها كأنها نبت شيطاني. خذ في الموسيقى والغناء ـ مثلا ـ من يعرف أو يذكر العمالقة (حسن جاوا وسعيد أبو خشبة، والشريف محمد بن شاهين، وعمر العيوني، وعبد العزيز شحاتة، ومحمد علي سندي، وفوزي محسون، وغازي علي ـ أول دارس أكاديمي للموسيقى في السعودية ـ وعبد الله محمد). لن أذكر أسماء الأدباء والمهنين والأطباء والمهندسين وغيرهم من المبدعين. هناك مأزق حقيقي نعيشه في بلادنا من حيث التوثيق والتدوين لرجال أضاؤوا الدرب أمام الأجيال قبل الاختطاف الكبير للمجتمع.

ويمكن استخلاص الخصائص والمعطيات الثقافية والفكرية مما ذكرناه عن العلماء في الحرمين الشريفين والدراسة الموجزة عن حياتهم العلمية وفقاً لما يلي:

أولاً: الأفق العلمي الواسع الذي كان يتمتع به العلماء. فتجد العالم أو طالب الدرس يأخذ من جميع المدارس الفقهية، ولا يلتزم حرفياً بالمذهب الذي ينتمي إليه. وهذا محدث الحرمين الشيخ عمر حمدان يخالف معاصريه من علماء المذهب المالكي وخصوصاً في مسألة الإسبال في الصلاة.

ثانياً: الانتماء إلى الإسلام كهويـة حقيقية للعالم أو طالب العلم، فهذا الشيخ عبد الله مرداد يورد في كتابه أسماء شخصيات علمية لا تجد بأساً ولا حرجاً من ذكر المواطن التي قدمت منها رغم إقامتها الطويلة بمكة، مثل: يوسف البلقيني ويوسف البنقالي ويوسف الجبرتي ويونس الصعيدي، ثم يضاف بعد هذه النسبة عبارة المكي أو المدني وذلك تشرفاً بالإقامة في أرض الحرمين الشريفين.

ثالثاً: تقدير العلماء بعضهم بعضاً تنم عن الأدب الرفيع والسلوك الإسلامي الرائع الذي يأتي تجسده حقيقة من خلال الإيمان بأن اختلاف العلماء في كثير من فروع الشريعة الإسلامية هو أمر طبيعي ولا يستدعي بالضرورة أي شكل من أشكال التعصب المقيت، والإنجاز للرأي الشخصي دون سواه. فلقد كان مشائخنا من أمثال: السيد حسن المشاط والسيد علوي المالكي، والذين ينتمون للمدرسة المالكية في الفقه إذا ما قامـوا بزيارة لدور العلماء والمنتمين للمدرسة الشافعية كالسادة آل البار مثلاً، حيث تنعقد حلقات علمية خاصة في علم الحديث الشريف أو يقومون كذلك في دورهم تلك بإعطاء دروس في الفقه الشافعي، فإنهم يسعون لتقدير الفهم الشرعي لمضيفيهم. ونضرب مثالاً على ذلك بدعاء القنوت الذي يؤديه أتباع المدرسة الشافعية في صلاة الصبح، فإذا ما دعي عالم من علماء المدرسة المالكية للإمامة بالناس فإنه يسلك مسلك المدرسة الشافعية في هذا الباب تقديراً واحتراماً لنظرائهم ورصفائهم من أهل العلم.

وممـا يروي في هذا الباب أن العلامة الفقيه المالكي السيد حسن بن محمد المشاط (1317 ـ1399هـ) كان إذا كتب إلى فضيلة الشيخ والفقيه الحنبلي عبد الله بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء ''سابقاً'' (1329 ـ1402هـ) مزكياً أحد طلبة العلم فإن الشيخ ابن حميد (رحمه الله) يعتبر تلك التزكية شهادة موثقة ومعتمدة. ولقد كتب إليه كما أعلم بشأن أحد طلابه وهو المرحوم إدريس بن عبد الله كنو وكان ملازماً له في آخر حياته، والذي كان يتطلع لأداء المهنة الشريفة في الحرم المكي وهو الأذان. ومعلوم أن لهذه المهنة ضوابطها الخاصة بها، فحقق الشيخ ابن حميد رغبة ''الكنو''، وظل يرفع الأذان من الحرم المكي الشريف حتى أخريات حياته.

وحدث فضيلة الشيخ محمد بن سبيل ''إمام وخطيب الحرم المكي'' بأن فضيلة شيخ القراء بالمدينة المنورة حسن بن إبراهيم الشاعر (1291 ـ1400هـ) ـوالد الوزير علي الشاعر ـ قدم إلى مكة المكرمة في أواخر الثمانينيات الهجرية للعمرة وكان برفقته معالي الشيخ صالح قزاز الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي (الأسبق)، وصلى صلاة العشاء ـوصلى الشيخ الشاعر ـ خلف الشيخ ابن سبيل ـ حتى إذا ما انتهت الصلاة سعى إلى الشيخ ابن سبيل وقال له: لقد أجدت في قرائتك، فعلق الشيخ القزاز قائلا: هذه شهادة لك يا شيخ محمد. والمثال الرائع في هذه القصة التي رواها الشيخ ابن سبيل هو سرور فضيلة الشيخ الشاعر بترتيل القرآن من إمام الحرم المكي وثنائه عليه، وافتخار الشيخ السبيل بهذه الشهادة العلمية.

ومعلوم أن عدداً من أئمة الحرم النبوي الشريف وفي مقدمتهم فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله (1328ـ 1415هـ) والشيخ إبراهيم الأخضر، وغيرهم قد حفظوا كتاب الله على يد هذا العالم الذي كانت تشد الرحال من جميع أنحاء العالم الإسلامي لأخذ علوم القرآن وأحكام التجويد عليه. وقد طبع كتاب الشيخ الشاعر (أحكام تجويد القرآن) عام (1329 هـ ـ 1911م) في الطبعة العلمية بالمدينة المنورة.

* * *

حين ضجت مكة لرحيل العلامة.. وأفرغت حلقات الحرم من (المعتدلين)!

في الخامس والعشرين من شهر صفر سنة 1391 هـ عم الحزن مكة المكرمة التي خرجت عن بكرة أبيها تشيعه إلى مثواه الأخير، مخلفا وراءه فراغا علميا واجتماعيا كبيرين، رغم أن ابنه خلفه في مقعده في حلقة العلم في الجهة اليسرى من باب السلام، حتى حيل بينه وبين التدريس بالمسجد الحرام، وكان آخر من طويت صفحاتهم في الدرس الديني المتسامح والحاني، حيث غاب من علماء البلد الحرام فضيلة الشيخ حسن بن محمد المشاط وفضيلة الشيخ محمد نور سيف.

لم يكن الشيخ الراحل السيد علوي بن عباس المالكي (1328 ـ1391 هـ) أحد أكابر علماء البلد الحرام في القرن الرابع عشر الهجري فقط، بل كان درة مضيئة في جبين تاريخها العلمي، بل كان شخصية اجتماعية لم تضع حواجز بينها وبين العامة، كان شخصية محبوبة من المجتمع المكي، فهو على جلالة قدره متواضع تواضعا جما، لا يترفع على أحد مهما كانت منزلته الاجتماعية، يمتطي النقل العام (خط البلدة).. يجلس إلى جوار سائق الأتوبيس، يرفع عمامته عن رأسه ويتباسط معه في الحديث، حتى لا يحسبه من يراه وهو لا يعرفه أنه ذلك العالم الجليل الذي يملك أكبر حلقة للعلم في المسجد الحرام.

يشارك أفراد المجتمع أفراحهم ـ من أبنائه السيد عباس المنشد والحادي المعروف في مكة بصوته العذب وأدائه للابتهالات وغيرها من الفنون المكية كالصهبة والدانات والمجس ـ، صاحب نكتة وطرفة تذكر له في المجالس، يؤنس المجالس بحديثه العذب ونكته الطريفة، ولا يخلو مجلس من المجالس العلمية والاجتماعية في مكة المكرمة في الوقت الحاضر من ذكر مآثره وذكرياته وترديد ما يروى عنه بحب واعجاب.

جمع إلى علوم الدين كفاءة أدبية في نظم الشعر. وكان من الميزات الجميلة فيه والتي يندر أن تراه الآن في علماء الدين حرص أبناء مكة من الموظفين والكادحين والمتعلمين والعامة على حضور درسه العام، حيث يزدحم بهم رواق باب السلام، حيث يجدون ما يناسبهم من خطاب هادئ معتدل، وبأسلوب ينفذ إلى قلوبهم.. لهذا ليس من المبالغ فيه أن يقال (عوام مكة علماء) كما يروي عضو هيئة كبار العلماء حاليا الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والذي تتلمذ على يديه.

كان رحمه الله في مجلسه يتحدث وتسعفه ذاكرة مواتية، وبديهة حاضرة تسعفه بكل ما له علاقة بالموضوع الذي يعرضه، أو يتحث فيه، سواء من نصوص الشريعة أو من آثار السلف واشعار العرب أو كلام العلماء المعاصرين أو الفلسفة، إذ كان له اطلاع واسع على المؤلفات الحديثة حيث لم يحصر معرفته في كتب السلف فقط. فكانت المكتبات بباب السلام المطلة على الرحبة الرخامية البيضاء في طريقه إلى منزله المجاور لها، يشتري من مكتبة الثقافة وغيرها من المكتبات ما يصلها من كتب حديثة من مصر والشام لبنان يعكف على قراءتها، تتجلى آثارها في أحاديثه واجتماعاته ن فهو ليس بمعزل عن عصره..

رحم الله عالما فذا.. قدم الدين في اعتدال.. في زمن لم نبتل فيه بالتطرف والتنطع الذي أفسد علينا حياتنا/ ديننا.

* * *

معلوم أن عدداً من أئمة الحرم النبوي الشريف وفي مقدمتهم فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله (1328ـ 1415هـ) والشيخ إبراهيم الأخضر، وغيرهم قد حفظوا كتاب الله على يد هذا العالم (الشاعر) الذي كانت تشد الرحال من جميع أنحاء العالم الإسلامي لأخذ علوم القرآن وأحكام التجويد عليه. وقد طبع كتاب الشيخ الشاعر (أحكام تجويد القرآن) عام (1329 هـ ـ 1911م) في الطبعة العلمية بالمدينة المنورة.

رابعاً: جذبت الأجواء العلمية للحرمين الشريفين، المعروفة بقوتها وزخمها وانفتاحها على جميع مدارس الفكر لإسلامي، عدداً من العلماء الذين قدموا للاستزادة من العلم الذي كانت تتمتع به شخصيات علمائها. فنجد أن الشيخ محمد رحمة الله (1291 ـ1308هـ)، والذي اشتهر بمناظرته لرئيس البعثة التبشيرية بالهند واسمه فدرين وانتصر عليه في تلك المناظرة وعند وقوع الهند تحت الاستعمار الانجليزي، ثار الشيخ (رحمة الله) على هذه القوة البريطانية الغاشمة فصادر الاستعمار ممتلكاته فهاجر إلى مكة عام 1857م، وحصل عند وصوله إليها على إجازة للتدريس في المسجد الحرام. ويذكر أن من تلاميذه الشريف حسين بن علي (أمير مكة) سابقاً، وعبد الله سراج قاضي القضاء وعبد الرحمن دهان شيخ العلماء وغيرهم وعندما أبدت السيدة العظيمة المجاورة (صولت النساء) رغبتها في فعل أمر خيري بمكة المكرمة، أخبرها الشيخ بأنه لا ينقص مكة سوى مدرسة تعنى بتعليم أبناء المسلمين، فعهدت إليه إنشاء المدرسة فاشترى رحمة الله قطعة أرض بحارة الباب وبـنيت عليها المدرسة التي حملت اسم تلك المرأة الجليلة، وهي الصـَّولتية والتي كانت بدايتها العلمية سنة 1292م، ومازالت مستمرة في أداء رسالتها العلمية بالبلد الحرام..

* * *

خلال فترة الدولتين السعودية الأولى والسعودية الثانية غالبية الشعب لا يعرف من تاريخ هذه البلاد إلا تاريخ هاتين الدولتين، ولا يعرف من علمائها إلا الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. الخلاصة التغييب أو الإهمال أو الجهل موجود على نطاق واسع، وفي كل أمارات المملكة. من المقترح قيام وجهاء كل أمارة أو ناديها الأدبي بتمويل ونشر دراسات أو أوراق تتناول ماضي أماراتهم القريب.

الصفحة السابقة