رحلة الرحلات..

مكة في مائة رحلة مغربية ورحلة

كتاب من تأليف الدكتور عبد الهادي التازي، صدر عن مؤسسة الفرقان للتراث الاسلامي عام 1426هـ ـ 2005، ويأتي الكتاب في سياق الاصدارات التتويجية لمكة المكرمة بوصفها عاصمة الثقافة الاسلامية للعام المذكور. وقد طالعنا الجزء الأول من الكتاب وقد حوى من التراجم لمائة رحالة مغربي زاروا مكة المكرمة ودوّنوا مشاهداتهم.

وتعود مرويات التاريخ المغربي الى أول وفادة توجّهت منذ الايام الاولى لظهور نبي الاسلام الى مكة المكرمة للاجتماع به صلى الله عليه وسلم والاستماع اليه قبل أن يهاجر الى المدينة المنورة، ويتعلق الأمر بجماعة تتألف من سبعة رجال من قبيلة رجراجة، أشراف قبائل مصمودة كان شاكر بن يعلي بن واصل على رأسها.. وعن طريق هذه الوفادة سمعت بلاد المغرب بالاسلام أول الأمر على ما ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي المتوفي سنة 1089هـ/1678م.

ومما يستأنس به في هذا الصدد ما يوجد في صحيح الامام مسلم عن نافع بن عقبة قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب عليهم ثياب الصوف فوافوه عند أكمة، فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد، قالت لي نفسي: إئتهم فقم بينهم لا يغتالونه، قال: قلت لعله نجيّ معهم، فقمت بينهم وبينه.. الحديث.

وقد ظلت تجربة الوفادة هذه عالقة بأذهان المغاربة الى اليوم، أمراء وعلماء، وهو ما يفسر انشغال السلطان المولى إسماعيل بن الشريف 1082 ـ 1139هـ/1671 ـ 1727م الذي جمع علماء المغرب لمدارسة الموضوع وإبداء رأيهم فيه.

ومن المعروف أن المغاربة ـ منذ كانوا ـ مولعون بالرحلة الى المشرق.. يبحثون بذلك عن ذاتهم، عن منابعهم وأصولهم.. وقد سجلت تلك الاتصالات من خلال مدونات التاريخ، وكتب الفهارس، وتراجم العلماء ورجال الفضل.. من خلال كل هذه المصادر المهتمة بالغرب الاسلامي نكشف الكثير عن حياتها الاقتصادية والاجتماعية كذلك، صيفاً وشتاءً، ربيعاً وخريفاً، لماذا؟ لأن موسم الحج ـ وهو تابع للسنة القمرية ـ كان يختلف من حر الى قر، الى اعتدال..

كل مصادر تاريخ الغرب الاسلامي ـ وما أكثرها ـ كانت تهتم بلقب (الحاج)، وهي عادة معروفة من قديم لدى المغاربة، وخاصة منهم غير المنتسبين الى آل البيت، فإن هؤلاء لا يحملون عادة لقب (الحاج) بالمغرب، لأنهم لا يحتاجون الى هذا اللقب الذي هو الحاج. كان المغاربة ـ ومايزالون ـ يحرصون على أن يضيفوا الى نعوتهم الشخصية نعت (الحاج).. لأن المسافة الفاصلة بينهم وبين مكة المكرمة لم تكن مسافة قصيرة ولا سهلة ولا حتى آمنة.. فالذين كانوا يستطيعون أن يجتازوا إقليم برقة في ليبيا كأنهم كانوا روّاد فضاء بإصطلاح اليوم!! برقة التي ضربت بها الأمثال في الصعوبة والامتناع، هذا الى سبب آخر له ـ أحياناً ـ علاقة بالطموح الى الزعامة السياسية!! فإن هذا اللقب قد يصبح مرجعية للذين يتوقون الى منصب قيادي..!

وقد مرّت مجموعة كبيرة من رجالات الغرب الاسلامي ممن كانوا يرون أن شخصياتهم لم تكتمل عندما يذكرون أن لهم رحلة الى المشرق، وأنهم قصدوا مكة المكرمة بالذات، وحرصوا على أن (يأخذوا) عن شيوخها، وهنا تسنح الفرصة لذكر بعض الشيوخ ممن كانوا يتصدون للتدريس هناك في البيت المعمور.. وقد كانت كتب التراجم والفهارس حافلة بذكر طائفة من الرواد الذين طبعوا حياة الغرب الاسلامي بما نقلوه وبثوه في صدور الرجال. وفي صدر هؤلاء رجال عاشوا منذ القرن الثاني الهجري والثالث، وطوال القرن الرابع والخامس والسادس فيما بعد، ممن كانوا زينة المجالس وقرة العيون، فيشعر المرء وكأنه يعيش في عالم إسلامي واحد لا فرق بين مشرقه ومغربه. وهكذا فإننا نقف على أعلام شخصية قد تكون من الهند أو السند أو الصين، ينقلها أحد المغاربة الى قلب المدن الأندلسية او الحواضر المغربية او حتى تخوم بلاد السودان..

ويُذكر في هذا الصدد وفي مقدمة هؤلاء الاعلام يحيى بن يحيى الليثي المتوفي سنة 234هـ/847 ـ 848م.. هذا الذي يذكر أن أصله من برابر مصمودة، وهو راوي كتاب الموطأ للإمام مالك، وقد ارتحل الى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة.. والمهم أنه سمع بمكة المكرمة عن سفيان بن عيينة.. ويُذكر أيضاً أبو عبد الرحمن العالم الشهير الذكر الذي أثار انتباه ابن تيمية فقال: إن تفسيره للقرآن أفضل من تفسير القرطبي!! هذا هو بقيّ بن مَخلد بن يزيد المتوفي سنة 276هـ/ 886م الذي ينعته المقرّي بالأحق بالسبق والتقديم، أندلسي قرطبي.. ارتحل الى المشرق ولقي كبار القوم، وسمع عدداً عظيماً من الشيوخ بمكة المكرمة والمدينة المنورة ومصر ودمشق وبغداد. ويذكر أيضاً أبا عبد الله محمد بن عبد السلام القرطبي المتوفي سنة 286هـ/899م رحل قبل الاربعين ومئتين، فحج وسمع بمكة المكرمة من محمد بن يحيى العدني وغيره. ومن هؤلاء أيضاً أبو يحيى زكريا بن خطاب الكلبي التّطليلي الذي رحل عام 293هـ، فسمع بمكة المكرمة كتاب (النسب) للزبير بن بكار وغيرهم. ومنهم أيضاً أبو زكريا يحيى بن عبد العزيز القرطبي المعروف بإبن الخزار المتوفي سنة 295هـ وقد قام بالرحلة الى المشرق وسمع بمكة المكرمة من علي بن عبد العزيز، وكانت رحلته ورحلة سعيد بن عثمان الأعناقي، وسعيد بن حميد، وإبن أبي تمام واحدة. يضاف اليهم أعلام آخرون مثل أبو محمد قاسم بن ثابت العوفي السرقسطي المتوفي سنة 302هـ الذي كان أول من أدخل كتاب (العين) الى الأندلس، ومنهم ابو عبد الله بن محمد بن ابراهيم بن حيّون من أهل وادي الحجارة، وفيه قيل: لو كان الصدق إنساناً لكان إبن حيُّون، ومنهم القاضي أبو عبد الله محمد بن أبي عيسى المتوفي سنة 314هـ، عَلَمُ الأندلس وعالمها الندس. ومنهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة، وكان تحفة زمانة علماً وحصافة رأي، وصلابة موقف وأريحية سلوك ومنهم علامة فاس الشهير الأثير درّاس إبن اسماعيل، والشيخ المعروف أبو جيدة بن أحمد الفاسي اليازغي، ومنهم القاضي ابو بكر محمد ابن اسحاق، الشهير بإبن سليم، ومنهم ابو عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج الفاسي، إليه ينسب درب (بو حاج) بفاس (الطالعة الكبرى)، ومنهم ابو عبد الله محمد بن حسن بن محمد بن يوسف بن خلف الانصاري، من أهل مالقة ويعرف بإبن صاحب الصلاة وبإبن الحاج، وقد تحدث عنه ابن الأبّار في التكملة وابن عبد الملك المراكشي في الذيل والتكملة.

وكان مصحف رائق الصنعة كتبه ونمقه احمد بن الحسن البلياني التلمساني الكاتب المحسن قد أوقف بالحرم المكي. وهناك رسالة صادرة من العاهل المغربي يوسف بن يعقوب مؤرخة في الحادي عشر من صفر سنة 703هـ الى أمغار (كبير الاشراف) يطلب اليه أن يعين ثلاثة رجال من بين الأشراف المغاربة ليتوجهوا الى مكة المكرمة مع من يتوجه برسم حمل الربعة القرآنية. ومما يجدر ذكره، أن شريف مكة المكرمة على ذلك العهد أبا نُميّ بعث بوفادة الى العاهل المغربي جاءت مع الركب الذي كان قد حمل المصحف الى مكة المكرمة، وكانت الوفادة برئاسة إبنه لبيدة، حيث نجد أن الوفادة تلقى ضروب التكريم خلال زيارتها لمختلف أقاليم المغرب.

إن كتاب الدكتور التازي حول الرحلات المغربية حوى معلومات ثرية وقيمة حول التاريخ العلمي لمكة المكرمة كما دوّنه الرحالة المغاربة وما تركوه من لوائح لعدد من العلماء والمشائخ الذين كانوا يعقدون لهم مجالس طوال اليوم حتى الليل على ضوء الشموع والمصابيح، بل زادوا على ذلك بأن سجّل الرحالة معلومات حول الفئات الحاكمة والمتنفذة في المنطقة ممن عرفوا في التاريخ بأشراف الحجاز، إضافة الى انواع الانتاج الزراعي للمنطقة، وهكذا معلومات جغرافية وتراثية عن مكة المكرمة.

واذا عرفنا أن إبن جبير ومعه زميله ابن بطوطة كان مرجعاً للحجاج المغاربة في الفترة السابقة من التاريخ فإن علينا أن نعرف أن أبا سالم العياشي غدا بالنسبة للمغاربة مرجعاً قوياً في الفترات اللاحقة. ويلزم الالتفات الى أن الكثير ممن دونوا حلاتهم ينتمون الى طبقات مختلفة فمنهم العلماء والمؤرخون والأدباء والشعراء والأمراء والزعماء، وكانت الرحلات قد رُتبت من لدن الباحثين السابقين على نحو لا يخلو من تهافت.. أحياناً حسب تاريخ الرحلة، وأحياناً حسب مؤلفيها أو حسب عناوينها.. وقد أحال المؤلف على مصادر الرحلة ومراجعها بوصفها تراثاً إسلامياً وحضارياً، وسجّلها شعوراً منه بأن أدب الرحلات في طريقه الى الاختفاء، وتحريكاً لهممم الذين يرغبون في أن يعرفوا عن أطارف الأمس البعيد والقريب..

وقد اخترنا من رحلات المغاربة ما دوّنه العياشي في رحلته الى مكة المكرمة كونها حوت معلومات قيّمة عن تاريخ مكة المكرمة واحوالها الاجتماعية والسياسية والثقافية.

رحلة العياشي (1091هــ/1679م)

وهو أبو سالم عبد الله بن محمد بن أبي بكر العياشي المتوفي سنة 1090هـ/1679م، من أعيان علماء المغرب وقد حج ثلاث مرات أعوام 1059هـ ـ 1064هـ ـ 1072هـ. وعن الحجة الثالثة ألّف رحلته، وقصد أن تكون ـ الى جانبها الموضوعي ـ ديوان علم، وبذلك طالت حتى استوعبت سفرين.. وتعرف بالرحلة الكبرى، وتحمل عنواناً هو (ماء الموائد)، وله رحلة تعرف بالرحلة الصغرى، وربما حملت عنوان (التعريف والايجاز ببعض ما تدعو الظروف إليه في طريق الحجاز)..

وهذه الرحلة المغربية كتبها لتلميذه أحمد بن سعيد المجيلدي وهو في بدء طريقه للحج سنة 1068هـ/1658م حيث زوَّده بإرشاد عن الأمتعة التي يصحبها معه، وعن طريق الحج ومنازله وعرَّفه بمراكز المياه الصالحة، وبالمشتريات النافعة مع الأعلام الذين ياخذ عنهم والمزارات التي يقصدها.. وقد ترجمها الى اللغة الفرنسية الاستاذ محمد الأخضر.

وتعد رحلة العياشي (ماء الموائد) من أهم الرحلات المغربية وأكثرها إنتشاراً، لأنها أكثر مادة وتنوعاً، وقد طفق الرحالون من اللاحقين ينقلون عنها من دون أن يرجعوا الى مصادر أخرى أحياناً.

وفي رحلة العياشي التي قام بها الى مكة في ذي الحجة من سنة 1072هـ (1662م)، حيث وصل مكة آتياً من ينبع عشية يوم السبت خامس يوم من الشهر المذكور. ويسجّل العياشي أن الركب المصري دخل مكة قبله في اليوم الرابع، والركب الشامي في اليوم السادس.. ملاحظاً أن أهل الركب عانوا من قطَّاع الطرق (الحرامية) شدة، حتى أشرفوا على الهلاك! ودفعوا للأعراب مالاً كثيراً نحو مئة ألف بعد ما انتهب من ركبهم كثير وقتل أناس.. وقد وصل بعد هذا الركب العراقي في اليوم الثامن..

لقد إضطر اصحاب العياشي الى النزول وسط المقبرة بالحجون.. لم يجدوا مكاناً غير ذلك والأركب قد ملأت خيامهم السهل والوعر.. قبل أن يكتروا منزلاً بقرب باب إبراهيم من صاحبه الشيخ محمد الغدامسي بإثني عشر ريالاً تاركين الخباء والربل وبالحجون.

وأتى الى المسجد وقد حان الغروب، وكادت تطير من الفرح القلوب، فدخلنا فرحين مستبشرين من باب السلام، وشاهدنا البيت العتيق الذي تزيح أنواره كل ظلام، وقد تدلَّت أستاره وأشرقت أنواره، وقد شمّر البرقع عن أسافله، حتى لا يكاد الطائف يناله بأنامله، يفعلو ذلك في أول ما تقدم الوفود، ولا يطلقون الأستار حتى تعود.. الى أن يقبِّل العياشي الحجر الأسود، ولم يبال بما ناله من الازدحام (والمورد العذب كثير الزحام)، ويطوف ويقف بالملتزم ويشرب من ماء زمزم.. وخرج لقضاء شعيرة السعي من باب الصفا.. ثم أتى المروة في زحام كثير في السعي، لأن المسعى من أسواق البلد العظيمة فيتضرر الساعي بذلك كثيراً..! وهكذا يرفع العياشي عقيرته بالشكوى من وجود هذا السوق في المسعى قائلاً: (ولو قيّض الله الأمراء لمنع الناس من التسوق فيه أيام الموسم لكان في ذلك نفع كثير).

وقد لقي العياش في مكة المكرمة شيخه العلامة عيسى بن محمد الثعالبي الجعفري المغربي المجاور الذي خصص له من رحلته حيزاً كبيراً، ولم ينفك ذاكراً له ومشيداً به.

وفي اليوم الثامن رحلوا الى منى حيث نزلوا على مقربة من مسجد الخيف في سفح جبل ثبير، وهنا قضوا ليلهم على ما هو. ويتحرك العياشي من هذا الموضع الى ذاك من عرفات رجاء بركة الواقفين، واستمر على ذلك حتى غابت الشمس ونفر في أخريات الناس.. ومرة أخرى يحكي أنه لما غاب القمر، وهو بالمزدلفه، أخذ السرَّاق يرمونه بالأحجار من الجبل القريب منهم.. ثم الى مكة حيث يقوم بالمناسك الى أن يهيىء الله لهم من يحلق لهم بطريقة شرعية.

وقد تمكَّنوا من دخول البيت الحرام قبل أن يغلق، إنهم يفتحونه هذا اليوم لتعليق الكسوة الجديدة، ولا ينصب سلّم للدخول، وانما يدخل من تكلف للصعود بمعين أو بخفه أعضاء، على نحو ما سيقوله الآخرون بعد العياشي. وكانت له فرصة له ليصف داخل البيت الحرام بما اعتدنا أن نقرأه في المؤلفات الجارية.. وقد أورد رسماً للبيت في الرحلة مما يؤكد الحس العلمي عند العياشي.

ويقول العياشي: إن إمعان النظر في داخل البيت الحرام يعتبر من قلة الأدب. وهو ما قاله بعض من قبله ويردده بعض من بعده.

وبعد العودة الى منى والمبيت بها.. يخبرنا بأنه من الغد عمرت الأسواق، وكثرت الأنفاق، وتزاحم الناس على الشراء رجاء بركة ذلك المكان. وبعد الفراغ من الرمي زار منزل أبناء شيخه تاج الدين، فصادف عندهم شيخه أبا مهدي عيسى الثعالبي السالف الذكر، حيث مكث عندهم برهة من الزمان حتى حضر الطعام.

ولم يفت العياشي أن يتحدث بدوره وهو في منى عن تنافس أهل الشام ومصر في إيقاد المصابيح واتخاذ الخيام.. والاكثار من الرمي بالمدافع والبنادق والمحارق المرتفعة في الجو.. وكان السلطان زيد يشاركهم على نحو ما يفعلون.

وقد اجتمع العياشي بالشيخ جمال الدين الهندي، بالمدرسة الداودية، جمعه به شيخه وصاحبه الشيخ علي باحاج اليمني بعد ما كان سأله العياشي عمّن هو اليوم في الحرمين أفضل من الطائفة النقشبندية.. دلّني عليه وعلى رجل آخر من أصحاب الشيخ تاج الدين، الا أن الشيخ جمال الدين أكثر منه عبادة وزهداً (لا مال ولا أهل). ويخبرنا العياشي أنه أخذ عن الشيخ جمال الدين طريق السادة النقشبنديين، وذكر أنه تلقى الذكر على طريقة السادة النقشبندية وألبس الخرق الثمانية.. لقد كان العياشي يستعد للإعتكاف والمجاورة. وقد اعتذر العياشي عن عدم استيعاب الاماكن الفاضلة في زيارته لمكة لشدة الحر، واعداً أنه سيذكرها عند قيامه بالمجاورة.

لقد أخذ الحجاج المغاربة في الرحيل من مكة المكرمة في العشرين من ذي الحجة، ويسجل العياشي أن اخاه عبد الرحمن تعب في الطريق من شدّة الحر (خامس أغسطس)، وكان أخوه هذا هو السبب في قرار العياشي بأن يبقى هناك للمجاورة.. ويعود أبو سالم العياشي بعد المجاورة في المدينة الى المكة في شهر الصيام، وهكذا خرج من المدينة ضحى يوم الثلاثاء، وهنا أخذ مرة أخرى ينوه بمكة وما تشتمل عليه من مشاهدة البيت والطواف به وأداء المناسك من حج وعمرة وغير ذلك..

ويلاحظ العياشي أن ما يكون معتاداً أيام الموسم من السرقة والنهب والحرابة يختفي في غير الموسم الذي يجتمع فيه الناس والأوباش من كل مكان!!

ومما سجّله العياشي في رحلته ما جرى في شعبان سنة 1037هـ (مارس عام 1663م)، وسنختار أهم المقتطفات في حادثة السيل التي وقعت في مكة في تلك السنة، يقول العياشي:

(لقد خرَّب السيل غالب أسواق مكة وهدّ دوراً كثيرة، وأتلف أموالاً عظيمة، ومات فيه أناس، وهدم دور بعض أرباب الدولة على ما قالوا، ودخل المسجد الحرام، وكان أكثر دخوله من باب الصفا والأبواب الموالية له التي تلي دار الإمارة، وذلك أن السيل المنحدر من أعلى مكة لما قابل دار الامارة لقيه سيل آخر مثله في العظمة نازل من الوادي الذي وراء جبل الحزورة، وخرج قريباً من دار الامارة، فالتقى السيلان هنالك، وتصادفا وحصر كل منهما الآخر! فانكفأ الماء راجعاً، وقد غفل الناس عن إغلاق الأبواب فدخل المسجد حتى امتلأ المسجد كله، وارتفع الماء فيه الى أن ذهب بقناديل المطاف كلها! وما في المسجد من دواريق وبُسُط، وارتفع على قبة المقام، وعلى سطح زمزم الأدنى، وارتفع في البيت سبعة عشر شبراً على ما قال لي من شبّر ذلك، وبلغ حلق الباب وملأ كل البيت وخزانة في المسجد، وكان ذلك كله ما على ما زعموا ساعة زمنية أو أقل!

وأضاف.. وانهمر المطر كأفواه القرب، فما جاء وقت العصر حتى امتلأ المسجد ماءً ولا قلع المطر، ولم يقدر أحد على الوصول الى البيت بقية ذلك اليوم والليل كله وفي الغد الى الضحى، ولم يهتد أحد من الناس لموضع البلاليع التي في المسجد المعدة لخروج الماء، حتى جاء السلطان زيد بنفسه ودلّهم على أماكنها. فغاص الناس الى مجالها حتى فتحوها وخار الماء ونقص..

ويضيف العياشي وقد أخبرني من شاهد السيل الذي وقع سنة تسع وثلاثين وألف أنه لم يبلغ ما بلغ هذا السيل، ولكن الله سلّم فيه البيت لوثاقة البنيان وكونه قريب العهد، الا أنه زلزل الرخام الذي فرش به البيت من الداخل، وحركه حركة باينت بعضه من بعض... وأمر السلطات بإغلاق الحوانيت، واجتمع اهل مكة كلهم واجتهدوا في إخراج ما أمكن من التراب والأحجار والطين، وعمل فيه الناس كافة حتى السلطان بنفسه وأولاده وأقاربه.

الصفحة السابقة