أفق مكة: رافعات ضخمة وناطحات سحاب نصف مشيّدة تطل على المسجد الحرام في مكة. وهناك ست منشئات جديدة، بما فيها مبنى زمزم لمجموعة بن لادن، كلها تقوم بتغيير وجه أقدس مدينة إسلامية.

عار في البيت السعودي

ظـلال قـاتـمـة على مـكـة

ثمة صور لم تُرى من قبل كشفت كيف يستحوذ هوس التصنيم على المتشددين الوهابيين ليدفع بهم للتآمر مع العاملين فيما يسمى بمشروع توسعة الحرمين الشريفين لتدمير تراث الاسلام.

فقد كتب دانييل هودن في صحيفة الايندبندنت في التاسع عشر من أبريل الماضي مقالة جاء فيها:

ثمة وشاح بائس يسدل على المدينة المقدّسة في الاسلام. فعلى بعد عدة أمتار قليلة فحسب من جداران المسجد الحرام في مكة تمتد ناطحات السحاب نحو عنان السماء، وتحجب تدريجياً الضوء. إن هذه البنايات الجديدة اللافتة والضخمة تسهم في تحجيم الوشاح الاسود الأنيق المسدل على الكعبة، النقطة المحورية لأربعة ملايين حاج سنوياً.

تمثل المجمعات الشاهقة والحصينة الدليل الاخير والأكبر على تدمير التراث الاسلامي والتي ساهمت هذه المجمعات في محو كل المدينة التاريخية ـ تقريباً ـ من المشهد الطبيعي. وكما ذكر في الاندبندنت في أغسطس الماضي، فإن المدن التاريخية (مكة والمدينة) باتت عرضة لهجوم غير مسبوق من قبل المتشددين الدينيين وأعوانهم التجار.

في ردّه الخطي على المقالة المنشورة في الصحيفة، قال الامير تركي الفيصل بأن السعودية كانت تنفق أكثر من 19 بليون دولار (11 بليون جنيه استرليني) للحفاظ على وصيانة الحرمين الشريفين. يقول الامير تركي (إننا ندرك أهمية الحفاظ على هذا التراث، ليس فقط لأن ملايين من المسلمين حول العالم تزور الحرمين الشريفين كل عام. إنه من الصعب الى حد ما بأن نقوم بالسماح بتدمير التراث).

إن هذا الرد يقف على النقيض مع سلسلة الصور التي لم تُشَاهَد من قبل، والتي توثّق عملية تدمير المواقع الأثرية الرئيسية واستبدالها بناطحات السحاب.

جبل النور، الطريق إلى كهفِ حراء، الهدف القادم للوهابيين. هنا قيلَ بأن النبي استلم الآيات الأولى للقرآنِ. رجال الدين المتشدّدون يُريدون تحطيمه ليتوقف الحجاج عن الزيَاْرَة. في أسفل التَلِّ هناك فتوى وهابية: (النبي محمد صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْمحْ لنا لصعود هذا التَلِّ، ولا الصلاة هنا، ولا مس الأحجارَ، ولا ربط العقدَ على الأشجارِ).

لقد شنّت السلطات الدينية السعودية لعقود طويلة حملة التدمير التي مهّدت الطريق للبنّائين للبدء بتشييد فنادق ومطاعم ومراكز تجارية ومجمعات شققية ضخمة وفارهة، بمعدل لا يمكن رؤيته خارج دبي. إن القوة الدافعة وراء هذا التدمبير التاريخي هي الوهابية، العقيدة الصارمة للدولة التي جاءت بها عائلة آل سعود حين قام ابن سعود بغزو الجزيرة العربية في العشرينيات من القرن الماضي.

يعيش الوهابيون في خوف تعصبي حيث أن المواقع ذات المقام الديني أو التاريخي قد تفضي الى صعود الاشكال البديلة للحج والعبادة. إن هوسهم بمحاربة عبادة الاصنام قد أطاح بكل الادلة من ماضٍ لا يتفق مع تفسيرهم للاسلام.

يقول عرفان أحمد العلوي، رئيس مؤسسة التراث الاسلامي، المصممة للمساهمة في حماية المواقع المقدّسة، بأنه في حالة قبر آمنة بنت وهب، أم النبي (محمد صلى الله عليه وسلم)، والذي تم العثور عليه في سنة 1998، هي مألوفة حيال ما حدث. يقول العلوي: (لقد سوّي القبر بالأرض في أبوا وقد صبّ الجازولين عليه. وبالرغم من أن آلاف العرائض من أرجاء العالم الاسلامي قد أرسلت، ولكن لا شيء أمكن إيقاف هذا الفعل).

واليوم هناك أقل من 20 مبنىً بقي في مكة، يعود تاريخها الى زمان النبي (محمد صلى الله عليه وسلم) قبل 1400 سنة. ويشمل هذا التاريخ المفقود بيت خديجة، زوج النبي (صلى الله عليه وسلم)، الذي تم تدميره لفتح طريق أمام المراحيض العامة، وبيت أبي بكر، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أصبح الآن موقع فندق هيلتون، وبيت علي العريضي، حفيد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد أبو قبيس، وهو الآن موقع قصر الملك في مكة.

قبر السيدة خديجة: إنّ الخرابَ في بداياته لبقايا قبرِ زوجةِ النبي، البقيع ، حطّمَ في الخمسيناتِ. إنّ شرطةَ المطاوعة الدينية حالياً تحرسه ليلاً ونهاراً لمَنْع أي واحد من وضِع الزهورَ على الموقعِ، أَو حتى الصَلاة بقربِ القبورِ.

يبقى، أن نفس هذه السلالة الغنية بالنفط والتي ضخُّت المال في نظام طالبان، الذي قام بتدمير تمثال بوذا باميان في أفغانستان قبل ست سنوات قد تفادت حتى الآن إنتقاداً دولياً إزاء ممارسات مماثلة من التخريب في الداخل. تقول مي يماني، مؤلفة كتاب (مهد الاسلام) بأنه قد حان الوقت بالنسبة للحكومات الاسلامية الاخرى أن تتجاهل الثروة النفطية لآل سعود، وأن تمارس نفوذها بقوة وتفصح عن رأيها بصراحة. تقول يماني إن ما يثير القلق حول هذه القضية، أن العالم لا يُخضِع رعاية آل سعود للحرمين المسلمين تحت المسائلة. إنها المواقع التي تحظى بأهمية خاصة بالنسبة لأكثر من مليار مسلم ولكن التجاهل مازال سائداً حيال تدمير هذه المواقع. فحين تعرّض النبي (محمد صلى الله عليه وسلم) للإهانة من قبل رسامي الكاريكاتير الدنماركيين، خرج الآلاف من الناس الى الشوارع للاحتجاج. فالمواقع ذات الصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم هي جزء من تراثهم ودينهم ولكننا لم نشهد إهتماماً من أي نوع من قبل المسلمين، حسب يماني.

قد يغفر للناس العاديين، وفي بعض الحالات حتى أعضاء في مجلس الشيوخ الاميركي حين يعتقدون بأن العائلة المالكة في السعودية هي الراعية للحرمين الشريفين في زمن ماضٍ. وفي الحقيقة، قد يصدق ذلك على ما قبل 80 سنة منذ ان قام زعيم القبيلة ابن سعود باحتلال مكة والمدينة. فقد التزمت عائلة آل سعود بالوهابية منذ أن وقّع المصلح الديني محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر معاهدة مع محمد بن سعود في سنة 1744. فقد ساعد المحاربون المتحمّسون الوهابيون في احتلال مملكة لصالح الزعماء القبليين. وقد حصل آل سعود على الثروة والسلطة، فيما حصل العلماء على أداة الدولة التي هم بحاجة اليها لنشر ايديولوجيتهم الاصولية حول العالم. لقد كان حاكم هذه المملكة الناشئة بحاجة الى المشروعية الممنوحة له عبر تنصيب نفسه (خادم الحرمين للشريفين).

مسجد السيد العريضي.. بعمر 1200 سنةً، موقع قبرِ حفيدِ النبي، يُرى هنا وهو يُنْسَفَ. إجتمع حول الموقعِ شرطةَ دينيةَ سعوديةَ بأشمغتهم الحمراءِ المُتميّزةِ.

ولكن هذه المشروعية تمت بثمن باهض على حساب التنوع بين المسلمين الذين ينظرون الى مكة كمصدر هداية. وفور إحكام ولايتهم على هذه المواقع، لم يوفّر الوهابيون وقتاً من أجل فرض رقابة على الحج. ففي حدود عام 1929، لم يسمح للحجاج المصريين من الاحتفال بطقوس المحمل، وأن أكثر من 30 حاجاً منهم قضى نحبه في تلك السنة. وقد تسببت تلك الحادثة في توتير العلاقات الدبلوماسية بين مصر والسعودية. وكان هناك قلة من الحكومات وقفت في وجه الوهابيين.

وبدلاً عن ذلك، فإن تحقيق الانسجام داخل مواقع الاسلام المقدّسة قد سمح بإسراع عملية حملة التدمير التي تهدد الآن مكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه. فقد شهد الموقع في وقت مبكر من عهد الملك ابن سعود قبل خمسين عاماً حين أقنع مصمم مكتبة عامة الحاكم المطلق بالسماح له بحفظ الآثار المتبقية تحت البناء الجديد. وتخطط السلطات السعودية الآن لتحديث الموقع بإضافة موقف للسيارات والذي يعني وضع خرسانة مسلّحة فوق الآثار المتبقية.

وتحذِّر الدكتورة يماني بأن (آل سعود بحاجة الى لجم الوهابية على الفور). وتمثّل مكة رمز تنوع المسلمين وهي بحاجة لأن تكون كذلك مرة أخرى. ولكن مع وجود أسعار النفط والفوائد، بمعدّلات مرتفعة، فإن هناك إشارة ضئيلة على أن آل سعود سيستمعون.

ويقول سامي عنقاوي، المعماري الحجازي الذي كرّس حياته لبذل مجهود خالص من أجل الحفاظ على ما تبقى من تاريخ أعظم موقع للحج في العالم، بأن الوداع الأخير لمكة بات وشيكاً. فما نشهده ـ حسب عنقاوي ـ هو آخر أيام مكة والمدينة.

الصفحة السابقة