الحيرة السياسية القاتلة

تمرّ الدول كما الأشخاص بأوضاع تتطلب منها مواقف حاسمة، فيتريّث البعض قليلاً، ويستعجل البعض الآخر قليلاً، ولكن القرار أو الموقف يصدر في نهاية الأمر، مراعياً للظرف، مهما كانت طبيعة ذلك القرار، ومدى استجابتة للمتطلبات سواء للفرد أو الدولة.

الحيرة في المملكة طال وقتها حتى تحولت الى عجز فاضح. فالمسألة تجاوزت مهلة التفكير والتروي في اتخاذ القرار الى وضع صار واضحاً فيه بأن القيادة السياسية باتت عاجزة عن اتخاذ القرار وإلزام نفسها به، وتحمّل تبعاته.

صار في حكم المتيقن، أن العائلة المالكة ليست قادرة ولن تكون قادرة في المدى المنظور (5 - 10 سنوات) على إدارة الوضع الإقتصادي للبلاد، والسيطرة على المشاكل المتفاقمة فيما يتعلق بمخرجات التعليم والبطالة وقصر الخدمات الإجتماعية والإستثمار. لقد جرّب ولي العهد حظّه فأسس مجلساً أعلى للتخطيط الإقتصادي بان هزاله بعد أشهر قلائل، ولم يعد قادراً على تقديم شيء مفيد.

وصار في حكم المتيقّن أن النظام عاجز عن التقدم نحو الإصلاحات السياسية. وأن الحيرة تحولت بالفعل الى عجز وشلل يهدد البلاد من جذورها. كبار الأمراء ورجال الدولة يدركون أنه لا بدّ من إصلاحات! وكلهم يدركون بخطورة الفشل الذي سيؤدي الى تقسيم المملكة. وكلهم يعلمون ما هي الخطوات السياسية المطلوبة، ولكن أياً منهم لا يجرؤ على التقدم (ليعلق الجرس)، أو يقود مركب السفينة حتى وإن رفض الرافضون.

ليست المسألة غياباً للإرادة السياسية للإصلاح فحسب، وإنما هناك غموض حول مؤدياته، وكذلك حول الآليات والأشخاص الذين يقودونه!

لقد أوصلت العائلة المالكة البلاد الى طريق مسدود سياسياً واقتصادياً. ورغم الوفرة المالية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، التي أحدثتها أسعار النفط، إلا ان الوضع الإقتصادي يسير من سيء الى أسوأ، ورغم الزعم بالحاجة للإصلاحات، فإننا نسمع جعجعة ولا نرى طحناً، فالحديث يكثر، ولكن بلا فعل أو إرادة. حين تصل الأمور الى طريق مسدود، ويستسلم القادة الى مصيرهم عجزاً أو رهبة من العلاج، فإن الحيرة تتحول الى عجز قاتل.

* * *

مجلس الشورى والتقسيم

ليس الحديث عن تقسيم المملكة وهماً لا يمكن حدوثه. هذا ليس قولنا، بل هو قول أعضاء اللجنة الأمنية في مجلس الشورى الذين بحثوا الموضوع بناءً على أوامر وزارة الداخلية. فقد سُلم له ملف ضخم يحوي كل ما كتب بالعربية وغير العربية، وما كتبه سعوديون في الداخل والخارج من أبحاث ومقالات في هذا الشأن، وما اقترحوه من حلول. وكان من بين الملف ثلاثة تقارير تقدمت بها جهات رسمية ثلاث: وزارة الخارجية، والإستخبارات العامة، والمباحث العامة. وقد أجمعت هذه الجهات الثلاث في تقاريرها التي رفعت الى ولي العهد السعودي بأن ما يقال عن التقسيم وإمكانيته أمرٌ صحيح وممكن، وأن ما اقترح من حلول سياسية واقتصادية صحيح أيضاً!

أعضاء مجلس الشورى، رفعوا تقريراً بهذا الشأن ينسج على نفس المنوال، فأقرّ بإمكانية تقسيم المملكة بسبب عوامل داخلية وخارجية، وكرر اقتراحات من سبقه. قال الأعضاء ضمن الحلول السياسية أن الزمن تجاوز مسألة تعيين الأعضاء للمجلس، فإما أن يؤخذ بالتجربة العمانية أو بالتجربة الكويتية ـ البحرينية. وكرر الأعضاء مطالب قديمة بالمساواة في الخدمات الإجتماعية والإهتمام بالمناطق المحرومة، فالحلول السياسية والإقتصادية يجب ان تتساير معاً.

هناك على الأقل الآن شعور واضح بأن البلاد يمكن أن تعود الى تقسيماتها التاريخية القديمة، وهذا الشعور متداول بين الأمراء والنخب العليا في المملكة. لكن الإعتراف بوجود الخطر، لم يقابله حتى الآن إقدام في طريق العلاج كما هو واضح. ومن يعيش رعب التقسيم يفترض أن يسعى للقضاء أو التخفيف من مبرراته. ولكن في الحالة السعودية كل شيء متوقف بسبب الحيرة والعجز الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

الصفحة السابقة