فظائع الوهابية المنكرة في الحجاز

دار ولادة الرسول تتحول الى سوق للبهائم ودار ضيافته الى مراحيض

إستياء المسلمين عامّة من الوهابيين فكراً وممارسة ليس محصوراً في سكان الأراضي المقدسة، ولا في سكان ما يعتبر اليوم المملكة العربية السعودية، بل يشمل الغالبية العظمى من المسلمين، فأينما اتجهت ستجد الوهابية تزرع وتحمي وترعى بذور الشقاق بين المسلمين. وستجد أن الفكر السلفي المتطرف القادم من صحارى نجد لم يتقصد المسلمين في عقائدهم بالتكفير بل شمل حتى الآثار الإسلامية التي عززت على مدى قرون مديدة الإسلام ورسّخته في نفوس أتباعه. الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، شأنه شأن الكثير من علماء المسلمين الذين تألموا لما يحدث في الأماكن المقدسة، كتب: ''ما أعلم أن العالم الإسلامي أجمع في استيائه من أمرٍ من الأمور في عصر من العصور كاستيائه من هذا الذي يقدم عليه الأخوة مسؤولو المملكة وعلماؤها اليوم من إخلاء مكة والمدينة وما حولهما من سائر الآثار المتصلة بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشخصية والنبوية، وما يتبع ذلك من الإقدام على أمور تناقض الشرع وتناقض المنهج الذي كان عليه السلف الصالح، كمنع المسلمين من زيارة البقيع ومنع الدفن فيه، وتكفير سواد هذه الأمة بحجة كونهم أشاعرة أو ماتريديين!''.

وأضاف: ''والذي زاد من هذا الإستياء الذي بلغ ذروته، أن هؤلاء الأخوة الذين يقدمون على هذه الفظائع المنكرة، ماضون ومستمرون في ذلك في صمت وقدر كبير من اللامبالاة! وقد كان أدنى ما يقتضيه الإلتزام بأولويات الدين الإسلامي والبديهيات المتفق عليها من أحكامه أن يبدأ هؤلاء الأخوة فينشروا بياناً يأتون به على سمع العالم الإسلامي وبصره، يوضحون فيه الدليل على ما قد تحقق لديهم من وجوب هدم آثار النبوة والقضاء عليها، وملاحقتها بالمحو أياً كانت وأينما وجدت، ومن ثمّ يعلنون عن عزمهم ـ بناء على ذلك ـ على تنفيذ ما يقتضيه الحكم الشرعي المقرون بدليله''.

''ولقد كنتُ ولا أزال واحداً من ملايين المسلمين الذين تأخذهم الدهشة لهذا الذي يجري في مكة والمدينة تحت أبصار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، مع الإستخفاف بمشاعرهم وعلومهم ومعتقداتهم، ودون تقديم أي معذرة بين يدي مغامراتهم العجيبة هذه من حجة علمية يتمسكون بها، أو اجتهاد ديني حق لهم أن يجنحوا إليه! بل لقد آثرت، تحت تأثير هذه الدهشة، أن أبدأ فأتهم نفسي بالجهل، وأن أفترض في معلوماتي الشرعية خطأ توهمته صواباً، أو حكماً غاب عني علمه، وذلك ابتغاء المحافظة على ما هو واجب من حسن الظن، لا سيما بالعلماء.. فرحت أنبش سيرة السلف الصالح وموقفهم، بدءً من عصر الصحابة فما بعد، وأستجلي ـ من جديد ـ موقفهم من آثار النبوة، سواء منها العائدة الى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذات الدلالة على رسالته ونبوته، فلم أجد إلاّ الإجماع بدءً من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، على مشروعية التبرك بآثاره، بل رأيت الصحابة كلهم يسعون ويتنافسون على ذلك. ولا ريب أن مشائخ نجد يعلمون ما نعلمه جميعاً من ورود الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما، المتضمنة تبرك الصحابة برسول الله وشعره ووضوئه والقدح الذي كان يشرب فيه، والأماكن التي صلى فيها، وجلس أو قال فيها''.

ويمضي الشيخ البوطي متسائلاً حول جنوح الوهابية المتطرفة: ''ولا نشك في أنهم يعلمون كما نعلم أن عصور السلف الثلاثة مرت شاهدة بإجماع على تبرك أولئك السلف بالبقايا التي تذكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، من دار ولادته، وبيت خديجة رضي الله عنها، ودار أبي أيوب الأنصاري التي استقبلته فنزل فيها، وغيرها من الآثار كبئر أريس وبئر ذي طوى ودار الأرقم.. ثم إن الأجيال التي جاءت فمرت على أعقاب ذلك كانت خير حارس لها وشاهد أمين على ذلك الإجماع. ثم إن العالم الإسلامي كله يفاجأ اليوم بهذه البدعة التي يمزق بها مشايخ نجد إجماع سلف المسلمين وخلفهم الى يومنا هذا، فدار ولادة رسول الله تهدم وتُحول الى سوق للبهائم، ودار ضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول الى مراحيض!. وتمرّ أيدي المحو والتدمير على كل الآثار التي تناوبت أجيال المسلمين كلهم شرف رعايتها والمحافظة عليها''!!

''والأعجب من هذا كله ـ كما يقول البوطي ـ أن مشايخ نجد يرون مدى استنكار العالم الإسلامي وغليانه الوجداني، لهذه البدعة التي تزدري إجماع المسلمين من قبل، وتستخف بمشاعرهم الإيمانية، دون أن يتوجّهوا إليه بكلمة يبررون فيها عملهم ويشرحون فيها وجهة نظرهم''.

لقد حاول الشيخ البوطي محاورة علماء نجد، واتفق مع وزير الأوقاف السابق ورئيس رابطة العالم الإسلامي حالياً عبد الله التركي.. اتفق معه على أن يأتي كل طرف بعشرة من العلماء لمناقشة ما أسماه ''الوضع المؤلم الذي كاد أن يستولد من أرض نجد إسلاماً جديداً لا عهد للسلف الصالح به، ومن ثم أصبح سبباً لأسوأ مظاهر التناحر والشقاق في العالم الإسلامي بل في جل المراكز الإسلامية في أوروبا وأميركا''.. ولكن لم يكن ذلك سوى مجرد كلام، إذ رفض مشايخ الوهابية أية نقاش.

ولذا انتقد البوطي تفرد مشايخ نجد بالإقدام على أمور تخصّ كل المسلمين الذين يختلفون مع الوهابية فيما تراه.. ثم يوجه كلامه للمعنيين مباشرة فيقول: ''فهلا تلمستم ـ يا علماء نجد ـ مكان محبة الله ورسوله من أفئدتكم، وهلاّ استنبتّم هذه المحبّة إن رأيتموها ضامرة.. إذن لدفعكم هذا الحب ـ والله ـ الى حراسة آثار النبوة وصاحبها بدلاً من محوها والقضاء عليها، ولسلكتم في ذلك مسلك السلف الصالح رضوان الله عليهم.. وإذن لأقلعتم عن ترديد تلك الكلمة التي تظنونها نصيحة وهي باطل من القول، ألا وهي قولكم للحجيج في كثير من المناسبات: إيّاكم والغلو في محبة رسول الله! ولو قلتم، كما قال رسول الله: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، لكان كلاماً مقبولاً ونصيحة غالية. إذا ازدهرت قلوبكم بهذه المحبّة، فلسوف تكون متقاصرة عن الحدّ الذي يستحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسوف تنتعش نفوسكم لمرأى آثار النبوة ـ إن كان قد بقي منها بقية لديكم اليوم ـ بدلاً من أن تكرهوها، وتسعوا سعيكم الحثيث للتخلّص منها وللقضاء عليها''.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة