ماذا أبقى الوهابيون من تراث المسلمين في الحجاز؟

لا يمكن أن تكون الوهابية ممثلاً ـ فضلاً عن (الممثل) ـ صادقاً للإسلام ولتراث المسلمين في الحجاز.. دعك من حقيقة أن من يكفّر المسلم الآخر لا يمكن أن يكون ممثلاً له، بل هو قاصٍ مجحف بحقّه، فما بالك إذا ما أعلن عليه الحرب قولاً وفعلاً، واستباح دمه وماله وعرضه؟ ما فعله الوهابيون بتراث المسلمين وآثار الإسلام في الديار المقدّسة من تدمير وإزالة يصعب حصره، وكأن هناك مخططاً من أعداء هذه الإمّة لإزالة كل مواقع العزّة والرفعة التي تجعل من تاريخ المسلمين حيّاً في قلوب وعقول الأجيال المعاصرة.

أول ما فعله هؤلاء هو تدمير آلاف من قبور الصحابة من المهاجرين والأنصار (تصل الى عشرة آلاف) وغيرهم من آل البيت والتابعين والشهداء في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة، وإزالة القبب، حتى أنه لا يمكن التعرّف اليوم إلا على بضعة قبور منها، وجاء ذلك بناء على فتوى الشيخ عبد الله بن بلهيد وبإدّعاء عبادة المسلمين لهذه القبور من دون الله. وفعلوا نفس الشيء في مقبرة المعلّى بمكة المكرمة، فدمّر قبر أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وقبر أبي طالب، وقبر آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها.

ترافق مع احتلال المدينة المنورة من قبل آل سعود.. تهجير لسكانها بحيث لم يبق من بين 70-80 ألفاً سوى ستة آلاف، بعد خمسة عشر شهراً من الحصار السعودي لها، وقد وصفت المدينة فور سقوطها بأن ''الشوارع والأزقّة فارغة والبيوت مهدّمة، وملامح الإعياء بادية ظاهرة وكأن الزلزال أصابها''. ووصف أحدهم البقيع فور تدميره أواخر 1925، وبداية 1926م: ''حين دخلتُ إليه وجدتُ منظره منظر بلدة قد خربت عن آخرها. لم يكن في أنحاء المقبرة كلها ما يمكن أن يشاهد سوى أحجار مبعثرة وأكوام صغيرة من التراب لا حدود لها، وقطع من الخشب.. كان ذلك أشبه بالبقايا المبعثرة لبلدة أصابها الزلزال فخربها كلها.. كان كل شيء عبارة عن طرق وعرة تتخللها مواد الأبنية المهدمة وشواهد القبور المبعثرة. لم يحدث هذا بفعل الزمن وعوارض الطبيعة، بل صنعته يد الإنسان عن عمد وتقصد''.

وفي المدينة المنورة أيضاً، تم تدمير قبر الحمزة سيد الشهداء، والمسجد المشاد عليه، كما تمّ تدمير قبور شهداء أحد، كما تعرضت قبة المسجد النبوي الشريف للقصف المدفعي. أما في مكة المكرمة، فكتب وفد جمعية الخلافة الهندي الذي كان حاضراً فيها يقول: ''دمرت في مكة مقبرة المعلّى، والبيت الذي ولد فيه الرسول''. وفي مايو 1926 قابل وفد من مسلمي الهند بمجرد وصوله جدة ممثل مشايخ الوهابية عبد العزيز العتيقي ''فأكد الأخبار التي سمعناها وقال بأنهم اعتبروا القبب وغيرها بدعة وكفراً، وأنهم في هذا الأمر لا يهتمون بالرأي العام الإسلامي، أو أن المسلمين يعجبهم ذلك أم لا؟''. وأبرق الوفد لممثلي المسلمين في الهند: ''إننا نشعر بالحزن لإبلاغكم بأن مثل مكة المعظمة ومساجد المدينة المنورة لم تحفظ حرمتها، وأن مثل قبب المساجد قد أُزيلت نهائياً: مثل مسجد فاطمة، ومسجد الثنايا، ومسجد المنارتين، ومسجد المائدة ومسجد الإجابة''. وأزال الوهابيون بجهلهم موضع ولادة الرسول، وهدموا منزل السيدة خديجة ومنزل أبي بكر رضي الله عنهما.

إن مصيبة المسلمين لم تكن فقط بهدم القباب والقبور، بل كل الآثار الإسلامية الأخرى، كمنازل الصحابة وبني هاشم، فإذا كان عذر الوهابيين أن القبور تُعبد من دون الله، فهل هدم بيت رسول الله في المدينة ومنزل الزهراء، وخديجة، ومنزل الحمزة، وسقيفة بني ساعدة، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، ومكان العريش التاريخي في بدر.. هل هدم مثل هذه الأماكن يمكن تبريرها بمثل ما برر الوهابيون؟ قال فيلبي مستشار إبن سعود وصديقه والذي ادّعى الإسلام وحجّ سنة 1931 بأن ما قام به الوهابيون من تدمير للأماكن الأثرية ''سيجعل الأجيال القادمة تنسى الوقائع التاريخية المرتبطة بها''.

إن ممارسات الوهابيين بدعم من آل سعود بالغة الإيذاء وشملت كل شيء تقريباً. فإضافة الى فرض تدريس مذهبهم في الحرمين الشريفين، ومن ثمّ منع الآخرين من أتباع المذاهب الإسلامية من إلغاء حلقات دروسهم.. استمرت الضغوط على الحجاج وسكان الحرم لترويضهم ولقبول المذهب الرسمي، عبر الإيذاء والتحرّش والإستخفاف بالمشاعر والمعتقدات والإعتداء بالجلد والضرب والشتم لكل من يخالفهم من رواد الديار المقدسة من داخل البلاد وخارجها، وهو أول ما يلحظه المعتمرون والحجاج حتى اليوم.. الأمر الذي اضطرّ طلبة العلم الشرعي وعلماء الحجاز الى الفرار خارج الحجاز أو الإنزواء في بيوتهم، بعد أن مُنعوا قسراً من التدريس في الحرم، وقليل منهم ـ وعلى وجل ـ فتح باب منزله لإلقاء دروسه فيه.

وكان الوهابيون قد صادروا المدارس المالكية والشافعية والحنفية وغيروا مناهجها، واستولوا على أموال الأوقاف المخصصة لها، بأوامر الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، الذي ضيّق بوجه خاص على المدارس الحنفية في المدينة المنورة (المدرسة النظامية) التي رفضت تدريس كتاب التوحيد المعتمد الأصل للفكر الوهابي فكان سبباً في إغلاقها في أغسطس 1931.

زد على ذلك، الحقد الغريب على كل ما يمتّ للتراث الإسلامي حتى شمل الشجر وآبار المياه. فقد قطعوا جميع الأشجار التي في المسجد النبوي، وطمروا بئر الماء الموجودة فيه عام 1927م.. والأكثر فظاعة ما جرى للمكتبات الإسلامية العامة في الحجاز خاصة في مكة المكرمة، إذ بمجرد أن احتلّ السعوديون المدينتين المقدستين اختفت مجموعات ثمينة من الكتب والمخطوطات ولم يعرف لها أثر. قيل ان المكتبة الوحيدة التي سلمت هي مكتبة السلطان محمود الكائنة بجوار باب السلام، ولكن تبين فيما بعد أن الوهابيين أغلقوها، أما مكتبة بشير آغا الشهيرة، ومكتبات الشفاء والسلطان عبد الحميد وعمر أفندي فلم يعد لها وجود في المدينة المنورة، وقد نُهبت معظم كتبها، وأحرق الوهابيون الكتب والمخطوطات التي لم تعجبهم منها، وباعوا قسماً آخر نظير المال. أما مكتبة عارف حكمت، فكانت آخر المكتبات العامة التي أغلقت وصودرت كتبها، وهناك من يقول بأنها خسرت هي الأخرى نحو عشرين ألف مخطوطة صادرها المشايخ الوهابيون وأتلفوها حرقاً!

كل هذا كان يجري والعالم الإسلامي لم يكن صامتاً، ولكن الوهابيين وآل سعود المدعومين من الإنجليز أولاً ومن الأميركيين تالياً، لا يعيرون بالاً فيما يعتقدونه واجبٌ ديني. الغريب أن آثار خيبر (اليهودية في جملتها) هي التي تقف اليوم شاهدة على تسامح الوهابيين! فلماذا؟ في حين أنهم يريدون تدمير القبة التي على قبر النبي، وإخراج قبره عليه الصلاة والسلام من مسجده، وهو ما يعتزم الوهابيون فعله في اللحظة التي تتيحها الظروف لهم بحيث لا تكون هناك ردّة فعل غير متوقّعة يكون ضررها على الوهابية وآل سعود أكبر من المنافع المذهبية الضيّقة التي يرونها.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة