أدعياء الوطنية المزيّفون في ''دولة التوحيد''

الوطنية عند معظم قطاعات الشعب السعودي مفهوم يشوبه الغموض، والإنتماء الوطني مسألة يختلف بشأن تعريفها، وأوضح مثال على ذلك، أن شرائح من هذا الشعب تقبل الطعن في وطنيّة مواطنين آخرين، وما عليهم إلا أن يستوردوا لهم مواطنين يجاورونهم ويحملون الوصفات المطلوبة من الفلبين وتايلاند واندونيسيا.. وحتى تعريف الوطن عند المواطن، صار مقتصراً على منطقته، فالإنتماء اليها، والى شعبها، اما البقية من أبناء المناطق الأخرى، فوطنيتهم ومواطنتهم ناقصة، لأنهم من غير المذهب، أو من غير المنطقة التي يعيش فيها، وهو غير مستعد للدفاع عن بقية السكان، أو يقول كلمة حق فيهم إذا ما تعرضوا للإضطهاد، بل قد يشارك أصحاب الطغيان في طغيانهم وقسوتهم ويزايد على العائلة الحاكمة اتهاماتها وقسوتها وربما دعاها الى ممارسة عنف وإرهاب أكثر، ولعله يعارضها ـ كما يفعل بعض السلفيين اليوم ـ لأن الحكومة لا تقوم بواجبها الصحيح تجاه من يسمونهم بالروافض والمتصوفة، فتعمد الى إفنائهم.

المواطن الصالح عند العائلة المالكة، والذي يتمتع بمواصفات المواطنة الكاملة، هو ذلك الذي يولد في نجد كمنطقة، ويؤمن بالوهابية كمذهب، وبالعائلة المالكة كزعامة سياسية. هنا يتلخص الوطن في حدود المنطقة النجدية الأثيرة والسيدة، فهي تختزل الوطن، بأهله وشعبه وثرواته ومعتقده. ليس في المملكة إلا قلّة تؤمن بحدود وطن أوسع من المنطقة، وبشعب أكبر تعداداً من شعب نجد، وبمذاهب وثقافات وطباع متعددة.

اختزل الأمراء الوطن في نجد، فمواطنها مواطن الدرجة الأولى، له كل الحقوق والإمتيازات، وليس عليه أن يدفع بالضرورة واجب المواطنة، بل قد يمارس نقيضها فيضطهد نظراءه تحت دعوى (أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون). المواطنون وفق هذا التأويل المفترى للآية الكريمة، ليسوا متساوين، وليسوا شركاء، مثلما قال هؤلاء المتطرفون فعلاً حول وثيقة الإصلاح الوطني الأخيرة التي قدمت للأمير عبد الله.

(روافض) الشرقية، و(متصوفة) الحجاز رخوي الديانة، لا حق لهم في هذا الوطن، وكثير عليهم أن يوقعوا على عريضة تطالب بالإصلاح، لأنه لا يشملهم بالمنظار السلفي، ولا يجب أن يشملهم! هؤلاء المواطنين الذين هم أكثرية المملكة لا حقوق لهم. الحقوق لسلفيي نجد فحسب، الذين لا يمثلون نسبة يعتدّ بها في المملكة، وإن كان صوتهم رفيعاً بسبب الصلاحيات الكبيرة التي منحهم إياها آل سعود. هذا هو الوطن الذي صنعته العائلة المالكة.. ممزق في داخله وواقعه، غامض الإنتماء والهوية، الناس فيه ليسوا سواسية في الحقوق والواجبات.

هذا هو الوطن الذي صنعته العائلة المالكة.. حزازات قائمة، وطبقات تأكل بعضها بعضاً، تنتظر فرصة تراخي قبضة الحكومة لتعود الحروب الأهلية كسابق عهدها في التاريخ. هي لم تعلم المواطنين أنهم متساوون، بل أبقت سياسة التمييز القبلي والطائفي والمناطقي، وأوحت للنجدي بأن أعداءه مواطنون مثله في الشرق والغرب والجنوب.. علمته أنه أساس الدولة وأنه لا يكون إلا رئيساً فيها على غيره من بني جنسه. هو من يجب أن يرفع بالنيابة عن كل المواطنين عرائض الإصلاح، وهو الذي يختار من يوقع عليها. لا مكان هنا للعلمانيين والليبراليين ولا للحجازيين المتصوفة ولا الشيعة في الشرقية ولا الإسماعيليين، وربما ولا حتى سكان أهل حائل النجديين وأهل الجوف الشماليين. السلفيون هم من يجب أن يقود الإصلاح، ولو كان هناك إصلاح يأتي على يديهم لأتى منذ زمن. هم في الحقيقة أساس بلاء المملكة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

وتطرفهم صنعته الأيدي الملكية، التي ستحرق بجنون تعصبهم، إن لم يحرقوا الوطن بأكمله، وينشروا في ربوعه العنف والدمار والتقسيم، واستدعاء التدخل الأجنبي.

بعد ان وصلنا الى هنا، يتحدث الأمراء عن وحدة وطنية، وعن انتماء وطني، ولا يبدون استعداداً لاقرار سياسة العدل والمساواة بين المواطنين. لا يستطيع غير النجدي تغيير محلّ ميلاده حتى يخلص من الإضطهاد، ولا أن يخفي مذهبه حتى لا يُشتم في صحافة الأمراء، وهؤلاء لا يكفيهم قبول المواطن بوحدة المملكة، وبزعامتهم عليها، حتى يصبح مواطناً كغيره بدون درجات أولى أو ثانية أو ثالثة.

من لا يثق في غير النجدي، لا يحق له أن ينتظر ولاء وثقة من غير النجديين. ومن يحرم المواطن من حقوقه الأساسية والأولية التي تكفلها شرائع الأرض والسماء، لا يتوقعن انتماء صادقاً للمملكة كوطن، بل ستنفجر في وجهه عاجلاً أو آجلاً النزعات المناطقية والمذهبية لتمزّق مملكة التمييز وتعود الأوضاع والخارطة السياسية للجزيرة العربية كما كانت قبل قرن.

ويأتينا بعد هذا، أمير جاهل، أو مخبر ساذج، ليقرر بأن سكان هذه المنطقة أو تلك، أو أتباع هذا المذهب أو ذاك، غير وطنيين، وغير صادقي الإنتماء. إن من يمارس التمييز ضد المناطق والقبائل والمذاهب هم الأمراء، والطبقة النخبوية التي تحوطهم وتتحكّم بالمناصب وتتمتع بالإمتيازات.. بينهم المسؤولون في الحكومة، والإدارات، والوزراء، والأمن والجيش، ورؤساء الصحف، ورجال المذهب الرسمي، كلهم يمارسون التمييز الطائفي، الذي هو نقيض كل انتماء مدّعى، ونقيض كل وحدة ترتجى، انهم ينسفون كل قواعد التلاقي الوطني، والإلتحام الشعبي.. هم في واقعهم وممارساتهم أعداء الوحدة، وأعداء الوطنية، وأعداء التعايش السلمي، وأعداء العدالة والمساواة، وبأيديهم لا بأيدي غيرهم، يدفعون سكان المناطق الى الإستقلال لنيل حريتهم الدينية، وحقوقهم المادية، وكرامتهم المسلوبة.

كيف يأتي الطائفي الجلاد، عدو الوطن والوطنية، ليصبح حكَماً فيطلق على هذا نعت الوطنية، وعلى ذاك نعت اللاوطنية؟ المواطن غير الوهابي أثبت أنه أكثر وطنية من امراء العائلة المالكة ومشايخهم وتوابع اصنامهم، إنهم لم يبيعوا وطناً، ولم يظلموا أحداً، ولم يستأثروا بحق أحد، ولم يطلبوا من الأجنبي حمايتهم ودعمهم.

كل ما أرادوه ودافعوا عنه، هو حقهم في المساواة والعدالة.. أكان خطأ حين حلموا في (دولة التوحيد) أن يتخلصوا من الدونية، ومن مواطنة الدرجة الثالثة أو الرابعة؟

اما دعاة الوطنية الكاذبة.. دعاة الإنتماء الوطني الكاذب، من المنافقين والأفاقين، الذين يستأكلون من خيرات الوطن، ويمزقون شعبه، فنقول لهم: انكم أحوج من غيركم الى دروس الوطنية، واذا ما شغرتم مقعد الإستاذية، فابحثوا عن آخرين غير ضحاياكم لتلقوا عليهم دروسكم، لأن التلاميذ أو من تعتقدون انهم كذلك، لا يصدقون وطنيتكم الكاذبة، حتى ولو حلفتم ألف مرّة بأنكم وطنيون. اذا شعرتم بأنكم قد أخذتم أكثر من حصتكم، وأنكم لستم أسياداً بالقوة على نظرائكم، وأن الكفاءة يجب أن تسود، فتعالوا حينها نتحدث عن الوطنية.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة