معالجة الإنشقاق السياسي دون المساس بالمنهج التكفيري

حتميّة العنف الوهّابي

لا حتميات في السياسة.. هذا صحيح. كذلك لا مستحيلات قطعيّة.

والعنف كظاهرة إجتماعية لها جذورها وأسبابها ووسائل ديمومتها. وهي بهذا لا يمكن أن تكون حتميّة إلاّ بمعنى توفّر الشروط والمناخ الملائم لنشأتها ووقوعها. وهذا ما نقصده بكلمة (حتميّة) العنف الناشئ عن التطرّف الديني في المملكة.

فما نعنيه هنا بالتحديد هو أن وقوع أعمال عنف في البلاد أمرٌ حتمي، ضمن الظروف الراهنة التي توفر كل الشروط لذلك. وعلى هذا الأساس طفقت مجلة الحجاز تحذّر من العنف وتصاعده في البلاد منذ العدد الأول لصدورها. ولم نكن نرجم بالغيب، ولا ندّعي علماً لم يصل إليه أحد، وإنّما هي قراءة للمشهد السياسي السعودي بكل تفاصيله ومكوّناته التي تشكّل المادّة الخام لأي تحليل سياسي أو إستقراء مستقبلي، وهي مواد متوفرة لدى الباحثين والمتابعين للشأن السياسي المحلي.

إن الظروف السياسية والإجتماعية في المملكة لم تجعلنا نتفاجأ بتفجيرات الرياض الأخيرة، فهي متوقعة، وقد قلنا مراراً إنها مجرد مسألة وقت ريثما يتحوّل العنف من الخارج الى الداخل، ومن اصطياد الأجانب الى اصطياد المواطنين، ومن التعرّض للمنشآت العسكرية الغربية في المملكة، الى مهاجمة المنشآت الوطنيّة.

ما حدث وسيحدث من عنف في المملكة ليس نتيجة عامل الفكر الوهابي وحده، ولكنه نتيجة جدّ طبيعية لسياسة الحكومة التي لا أحد يلقي لوماً عليها. هناك من يتحدث عن أن فكر التطرّف انتشر (في غفلة من الزمن) كما يقول رئيس تحرير الرياض تركي السديري، وهذا ليس صحيحاً مطلقاً، بل إن الفكر المتطرف الذي أفرز العنف وجد من يدعمه ويشد من أزره ويمنحه الفرصة للنمو.

هل مناهج التعليم مسؤولية مروجي العنف، أم سياسة الحكومة؟

وهل السلطات الواسعة الممنوحة لدعاة التطرف والعنف والتشدد جاءت منحة من السماء أم بقرار من الأمراء أنفسهم؟

تريد تقوية (العقيدة الصحيحة) وترسيخ (الإسلام الصحيح) وفرض مبدأ (الدولة السلفية) كما يقرّ الأمير نايف صراحة. إذن فلتتحمل نتيجة ذلك!

الآن، تحاول المؤسسة الرسمية أن تنأى بنفسها عن العنف، وعن أفكار التطرف، ولكن هيهات.. فالمصدر واحد، والفكر واحد، والتفسير واحد، ولم يختلف إلاّ بشكل محدود بشأن التطبيق، ومع هذا فالذي طبّق مفاهيم الفكر الوهابي المتطرّف مجتهد: إن أصاب فله أجر، وإن أخطأ فله أجران!

الآن، يحاول مدّعو الصحوة تقليص حجم الأضرار التي قد تلحق بالتيار السلفي ككل، ونقول (قد) لأن الواقع قد يكذّب ذلك، وسياسة الدولة لاتزال على نهجها القديم مع بعض الترقيعات التي لن تجدي نفعاً.. يحاول من أطلقوا على أنفسهم (الصحويون) أن يظهروا وكأنهم رموز إعتدال، وما هم إلاّ نتاج الفكر المتطرف، لم يتغير حتى ملمسهم، بل أن أحدهم ـ وهو سفر الحوالي ـ امتدح أسامة بن لادن علناً على قناة العربية، وأشاد بفضله. مثل هذا الكلام لا يقال على شاشة التلفزيون ـ على الأقل ـ.

ما جرى من عنف في المملكة نتيجة لأسباب، والأسباب لاتزال قائمة، وستظل ـ فيما يبدو ـ قائمة في المستقبل القريب.

الحكومة مصدّر أساس للعنف.

إنها باستبدادها تخلق بيئة التعصّب السياسي. وبأفعالها المنكرة في السجون والمعتقلات تطلق شحنات عنف إضافية الى الشارع. لقد نُشر بأن العييري الذي قُتل في صدام مع قوات الأمن في تربة بالقرب من حائل، كان معتقلاً في الدمام، وقد تعرّض لتعذيب بشع لجرم غير واضح وغير مسبّب، وحين أطلق سراحه بعد سنوات انتقم من الجلاّد فدبّر مكيدة قتله، وقيل حينها بأن ما جرى مجرد حادث مروري، وتمت لفلفة الموضوع كعادة وزارة الداخلية. هناك دعوات جادّة تقول لدعاة العنف بعدم الإستسلام، لأن الموت أرحم من الإعتقال والتعذيب، وإذا كان لا بدّ من الموت: فمن الحمق أن يموت الواحدُ منهم حتف أنفه أو على فراشه. وهذه دعوة لبيع النفس عبر عمليات انتحارية تستهدف دعاة العنف الحكومي ومؤسساته.

والحكومة مسؤولة عن العنف مرة أخرى، لأن لا أحد ساهم ـ أو كان قادراً ـ على توفير بيئته الصالحة سواها. فكل سياساتها تصبّ في منحى إنتاج العنف والتطرّف لإستخدامه ضد الآخر قبل أن يرتدّ عليها. هي من اعتمد فكر التكفير والتطرف مناهج تدرّس لأبنائنا في مختلف مراحل الدراسة بذرائع العقيدة الصحيحة والإسلام الصحيح، وهي من روّجه في إعلامها الرسمي، وفي الصحافة فاقدة الحرية، وهي من ثبّته كخطاب رسمي في المساجد وصلوات الجمع دونما رقيب أو حسيب، وهي من منح الفكر المتطرف مؤسسات تغذيه وتنمّيه، ورفدها بمليارات الدولارات، بل وهي من أصّل هذا الفكر عبر تأسيس الجامعات الإسلامية التي خرّجت كل منظري التطرف الوهابي اليوم، وزيادة على ذلك هي من (صدّر) هذا الفكر الى الخارج، حتى أنه كان لافتاً ومنذ أكثر من عقدين بأن هذا الفكر وقبل أن يصبح التطرف عنفاً ما أن يصل الى المجتمعات المنسجمة دينياً ومذهبياً حتى يشقّها ويأخذ التناحر والتقاتل مأخذه بين شرائحها.

أفبعد هذا يحق لنا أن نتحدث عن تغرير لشبابنا، أو عن غفلة من الزمن نفذ منها العنف إلينا، أم هل يحق لنا الإدّعاء بأن العنف طارئ على مجتمعنا وأنه محدود ببضعة أشخاص لا يفقهون الدين؟ إن العنف تمّ تأصيله، وفي كل خطوة أو واقعة تجد الأدلّة الشرعية ـ حسب المدرسة الوهابية ـ ومن مختلف رموزها تستخدم للإستشهاد وكأدلة فاحمة لحجج الخصم من ذات المدرسة.

العنف لم يكن حالة استثنائية في المملكة منذ تأسيسها. وكان يعالج بالإستئصال الأمني دون المساس بالقاعدة الفكرية التي نشأ منها ودون المساس بمؤسساته وهيئاته. ضرب الإخوان وبقي الفكر وبقي العلماء على ذات المنهج. كان المهم معالجة الإنشقاق السياسي المتأتي من المنهج، دون المساس بالمنهج نفسه. وفي الستينات وقع نفس الشيء حين قامت مجموعة بمحاصرة مبنى التلفزيون. وفي أحداث الحرم جرى استئصال جماعة جهيمان قتلاً في المسجد الحرام بالطائرات والدبابات والقوات الأجنبية، ولكن بقي الفكر سليماً، بل لم يمسّ المروجون والمحرّضون كالشيخ أبو بكر الجزائري، بأي أذى، وهكذا. وبعد الغزو العراقي للكويت، وضع المتطرفون في السجون على أمل أن يصبحوا حمائم، ففشت دعوات العنف في غياب كل من المؤسسة الدينية ومن يسمون اليوم برموز الصحوة، ولم تتم هذه المرة كما في السابق معالجة الأفكار والقناعات والتوجهات الدينية المتطرفة. وأخيراً تمت معالجة مشكلة العائدين من أفغانستان بالعنف والقسوة والشك غير المبرر، في حين أنهم جميعاً نتاج سياسة الحكومة الخاطئة، فتوالت التفجيرات منذ عام 1995 وحتى اليوم. وإذا قدّر لنا أن نستقرئ المستقبل، فنحن ـ وضمن الظروف الحالية ـ لا نرى أن الحكومة ومن خلال قراءتنا لمسلكها وتاريخها ستغير من نهجها، فقد تضرب بيد من حديد كما يقول وزير الداخلية، ولكنها لن تمس جوهر الأزمة. بيد أن هذه المرّة لن يمرّ العنف بدون عنف مضاد، بعكس حركات العنف السابقة التي كانت رحى المعركة فيها مختلفة في التكتيكات والإستراتيجيات.

العنف كان الحلقة الأخيرة من سياسة دعم التطرّف الفكري الذي نشأ عليه مجتمعنا وتربّى. فالتطرّف كان حاضراً في كل زاوية من حياتنا: في العمل والمدرسة والجامع والجامعة والشارع والكتاب والإذاعة والتلفاز والجريدة وغيرها. وقد لعبت الظروف الإقتصادية أحياناً عامل تأجيل لإنفجاره على شكل عنف أعمى. أيضاً أدّت تنازلات الدولة المستمرة الى استشراء الفكر وتوسّعه أفقياً وعمودياً، بدل أن ينفجر بوجهها، ولكن كان لا بدّ له أن ينفجر يوماً ما مهما طال التأجيل، وقد كان انفجاره عنيفاً مدوياً نظراً للمخزون الهائل من البارود.

توفّرت الظروف السياسية والإجتماعية والإقتصادية والنفسية، واجتمعت أخطاء السلطة، والفكر المتطرّف، والخبرة القتالية، ومبررات الفاقة، وحالة الانكسار النفسي التي أصابت المجتمع لتفتح صفحة جديدة من تاريخ المملكة الحديث وقد تكون صفحة دامية، وقد تقضي عليها.

وخلاصة القول، فإن العنف الوهابي حتمي، لطبيعة الفكر التكفيري الجاهز للتطبيق كبرنامج عمل، ولتوفّر المناخ السياسي الداعم له مالياً وشرعنته سياسياً. نحن أمام مرحلة عنف قد لا تنته سريعاً، وقد تتخذ لها أهدافاً متعددة، في حين أن الإصلاح غير متوقع لأنه يفترض بعض التنازلات من العائلة المالكة ليست حتى الوقت الحاضر في وارد تقديمها.

الصفحة السابقة