حكومة (تصريف أعمال)

ونقصد بحكومة (تصريف أعمال) تلك الحكومة التي تنشغل بالإجراءات الصغيرة، وتنسى واحداً من أهم وظائفها وهو التخطيط للمستقبل في شتى مجالاته. وما نشهده اليوم في المملكة هو هذا النوع من الحكومة، التي ينشغل فيها طاقمها السياسي (الأمراء الكبار والوزراء) في التوافه من الأمور، والعمل لتصريف ما هو موجود أمامهم من أعمال مختلطة الأهمية، وفي غياب استراتيجية عامّة للدولة وتوجهها، بشكل قد يحلّ بعض العقد الصغيرة هنا وهناك، وتسيير شؤون المواطنين في الحدود الدنيا، ولكن دون القدرة على المبادرة في اتخاذ القرارات الكبيرة والحاسمة التي تحتاجها البلاد في الوقت الحاضر، فأصبح الجهاز الحكومي مشلولاً في معالجة الأزمات وبالتالي فقد قدرته من الناحية الواقعية على التحكم بمسارات الأزمة المتعددة المشارب وبنتائجها الكارثية.

(تصريف الأعمال) للأفراد وفي التوافه من الأمور ليس عمل الحكومة، ولا عمل الطاقم الملكي رفيع المستوى، فهؤلاء يجب أن يصلحوا الماكنة أو الداينمو أو الجهاز، دون الدخول في تفاصيله. هؤلاء من واجبهم رسم الخطط، واتخاذ القرارات الصعبة ووضع الإستراتيجيات لسنوات طويلة قادمة. لكن ما نراه اليوم أن وقت الوزراء والأمراء من ولي العهد فنازلاً، يضيع في توافه الأمور، وكأن الوقت لا ثمن له ولا قيمة، وكأن جهاز الدولة ينطبق عليه القول المأثور: إتركوها فإنها مأمورة!

أوضح مثال على حكومة (تصريف الأعمال) التي عندنا، هي ما يسمونه بـ (المجالس المفتوحة) والتي تعدّ بنظر المطبلين أحد مظاهر الديمقراطية والشورى ضاربة الجذور في بلادنا! فقد تحولت هذه المجالس الى تصريف الأعمال واستلام الشكاوى، وكأن ليس هناك جهاز يتولى هذه الأمور، وزارات أو مؤسسات! وإذا كانت هناك مشكلة في الإدارة فلتصلح، أما أن ينشغل أعلى هرم السلطة بتلبية طلب سيارة بكب، أو علاج مريض، أو صرف تذكرة سفر، أو إمضاء منحة قطعة أرض، أو تسديد دية، فهذا ليس من شأن الملك ولا ولي عهده ولا مجالس الأمراء الكبار، وإذا ما أرادوا المساعدة الشخصية فليفتحوا لهم مكتباً خاصاً بهم، لا أن ينشغلوا بالعرائض وصغائر الأمور. فهناك ألوف من المرضى المحتاجين للمساعدة، وعشرات الألوف من الفقراء، وأضعافهم من الضعفاء وأصحاب المشاكل الخاصة، وهؤلاء أولى بالرعاية وحل المشاكل من الأفراد، فليتوجهوا لجذور القضايا، ويصلحوا جهاز البيروقراطية، ويسنّوا القوانين الكفيلة بحماية حقوق المواطن الأولية، بدل المكرمات المزعومة والتدخلات المعيقة للجهاز الحكومي.

إن كثرة المشاكل الفردية تثبت أن هناك مشكلة إدارية أو مشاكل متعددة تؤثر على حياة كل مواطن، ولا يستطيع كل واحد أن يحلّها عبر مجالس الأمراء المفتوحة، وفي هذا ظلم للبقية، واعتداء على حقوق المواطنين، وتدخل في غير موضعه، وشخصنة للدولة بدل اعتماد المرجعية الإدارية. والغريب في الأمور، أن هذه الطريقة البدائية المتخلّفة في إدارة الدولة، جعلت من العرائض إحدى وسائل الحلول! وفيها يكمن الخلل.

والأمراء يتعاطون مع قضايا الدولة صغيرها وكبيرها بنفس الطريقة وعلى ذات المستوى من الأهمية ما لم تدخل في خانة العنف، فملف البطالة ينظر اليه مثل ملف الأشخاص طلاب الحاجة، وقضايا إجتماعية عميقة لا تختلف في مظهرها وجوهرها بالنسبة لكبار الأمراء عن باقي ملفات (العلاقي الأخضر). أما الوزراء، فتتكوم أمامهم ملفات تحتاج الى توقيع ومعظمها تافه: مثل الموافقة على استقدام عاملة من كينيا، أو استيراد جمال من السودان، أو السماح لمواطن بزيارة إبنه المسجون سياسياً، أو إدخال زوجة شخص الى البلاد من إحدى الدول العربية وغيرها. هذه الصغائر يحلها الجهاز البيروقراطي، لا الوزير ولا غيره، ومن هنا نعرف لماذا وصلت المملكة الى وضع: إتركوها فإنها مأمورة!

هناك أسباب عديدة أدّت الى جعل الحكومة السعودية مقتصرة على تصريف الأعمال:

إن الأمراء لم يتعودوا على فصل أشخاصهم عن الجهاز أو (السيستم) البيروقراطي. فهم الدولة، وهم الحكومة، ولهذا هم يتدخلون في كل شيء، ويعتقدون أن تدخلهم يصلح الأمور، ولكنه في الحقيقة يفسدها. والأمراء من جانب آخر، يريدون الجهاز البيروقراطي قريباً منهم، يشخصنونه، ويجعلون من أنفسهم محوراً له، لأنهم لا يثقون فيه، وعلامة ذلك أنهم لا يمنحونه ثقتهم، ولا يعطون الجهاز الإداري الصلاحيات التي تجعله قادراً على تصريف شؤون الدولة. وفوق هذا، فإن الأمراء علّموا المواطن بأن الشخص وليس الجهاز هو الذي يحلّ المشكلة، أية مشكلة، فالمركزية للأمير وليس للوزارة أو المؤسسة، والحكم للأمير وليس للقانون والإجراءات النظامية، ولذا كان من الطبيعي وفي ظل عجز الجهاز البيروقراطي عن حل المشكلات، أن يتوجه من يتمكن من المواطنين الى الأمراء طالبين التدخل لحماية حقوقهم أو مساعدتهم. إن الأمراء يستهدفون إضعاف الجهاز البيروقراطي ليفسحوا المجال لتدخلهم غير المحدود، مما نتج عنه عجز الأمراء عن الإنصراف لحلول المشاكل الإستراتيجية، وعن التخطيط، وعن سنّ الأنظمة التي تحتاجها البلاد.. وفي نفس الوقت عجز الجهاز البيروقراطي، وتفاقم المشاكل يوماً بعد آخر.

أليس من السخرية بمكان، أن قضية صغيرة تحل في عشرة أعوام أو خمسة عشر عاماً؟ أليس معيباً أن تكون أمام الأمراء الكبار عشرات الألوف من القضايا المهمة مضى عليها نحو عشرين عاماً دون أن يتمكنوا من فتحها، فضلاً عن البتّ فيها!

للأفراد طاقات محدودة، ومهما بلغ الديكتاتور من تعنت فإن أيام الأسبوع لن تزيد عن سبعة، وعدد الساعات في اليوم لن تزيد عن 24 ساعة، وهو لن يتمكن من حل المشكلات، وكلما زادت مركزية الدولة نتيجة الديكتاتورية، حوّلت كل القضايا على بضعة أنفار لا يستطيعون ولو عملوا طيلة يومهم من حلّها، ولذلك لا بدّ أن يضيّعوا حقوق الناس والمواطنين، وتشغلهم التوافه من الأمور عن الإستراتيجيات، ولذلك أيضاً فإن البلاد متروكة مأمورة الى أن يرحم ربي!

الصفحة السابقة