فيما يتواصل العنف واعتماد الخيار الأمني

جزأرة السعودية مسألة وقت

خلال شهر أغسطس، تواصلت وبشكل متصاعد المواجهات بين السلطات الأمنية السعودية وبين جماعات تتهمها الحكومة السعودية بالإنتماء الى القاعدة وتعمل على القيام بأعمال عنف داخل المملكة. المصادمات تمحورت في منطقة نجد، إثنان منها في بريدة والبقية في الرياض العاصمة وما حولها، وكان آخر تلك المصادمات ما حدث يوم الثلاثاء الموافق للثاني عشر من أغسطس، حيث قُتل أربعة من منسوبي الأمن، وخامس من المطاردين، وزعمت السلطات السعودية أنها ألقت القبض على مجموعة من المطاردين، في حين نفت الحكومة البريطانية ذلك، وقالت بأنهم استطاعوا الهرب جميعاً، وأنهم كانوا يخططون لمهاجمة أهداف بريطانية داخل المملكة.

وتعتبر هذه النتيجة لطمة أخرى توجّه للسياسة الأمنيّة التي يشرف عليها الأمير نايف، والذي يعتبر من الصقور الرافضين لإي حلول سياسية للأزمة متعددة الجوانب التي تمرّ بها المملكة منذ أكثر من عقد ونصف، وهو يصرّ على أن الحلّ الأمني هو الوحيد الذي يجب المضي به الى آخر الشوط.

تشير المواجهات الأخيرة الى مسائل متعددة تتعلق بظاهرة العنف في المملكة:

المسألة الأولى ـ إن كل المصادمات التي أعقبت تفجيرات الرياض في الثاني عشر من مايو الماضي، كانت بمبادرة من قوى الأمن الحكومية، فهي التي تقوم بالهجوم ابتداءً معتمدة على معلومات تحصل عليها بذاتها أو من أجهزة الإستخبارات الأميركية والبريطانية التي فتحت لها أفرع في الرياض منذ مايو الماضي، وبدأت بالتنسيق في عملها مع الأمن السعودي. وهذا يعني فيما يعنيه، من وجهة نظر السلفيين المتشددين، أن الحكومة هي البادئ بالظلم، وبالتالي فهناك ما يبرر المقاومة والصدام، وربما القيام بأعمال عنف كرد فعل، أو قبل أن تصطادهم الأجهزة الأمنية قبل أن يحققوا أياً من أهدافهم. أي أن من يسمون بالسلفيين الجهاديين قد يبادرون الى الهجوم بدل الحالة الدفاعية التي يمارسونها حتى الآن.

المسألة الثانية ـ إن كل المجموعات التي هوجمت خلال الفترة الماضية لم يثبت حتى الآن، ولم تعلن الحكومة ذلك، أنها مرتبطة ببعضها البعض في حلقات تنظيمية واحدة. كلّ ما تقوله الحكومة هو ربط الجميع في سياق الإنتماء الى القاعدة، وهذا الربط ـ هو على الأرجح ـ سياسي بالدرجة الأولى، تستهدف الحكومة منه، إيجاد ذرائع محليّة لحملتها الأمنيّة، رغم أن القاعدة لم تعلن حتى الآن مسؤوليتها أو رغبتها في استهداف المؤسسات السعودية، بل إنها فيما يبدو لم تغير من استراتيجيتها في تركيز ضرباتها ضد الوجود الأجنبي. كما أن الحكومة السعودية بربط ما يجري في المملكة بالقاعدة، تريد إيصال رسالة تقول بأنها تقف مع الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب، وإنها كما الولايات المتحدة مستهدفة من القاعدة، وأن العدو مشترك، وتالياً ليس صحيحاً أن المملكة تموّل وتدعم الإرهاب!

المسألة الثالثة ـ تكشف المصادمات الحالية، أن هناك عدد غير معلوم من الجماعات الصغيرة التي تتنادى لمواجهة الحكومة عسكرياً أو مواجهة الوجود الأجنبي، وهذه المجموعات المتفرقة، لا يربطها رابط تنظيمي، وبالتالي فإن مواجهتها أمرٌ صعب للغاية؛ فكلّما فككت السلطات الأمنية مجموعة ما، ظهر الى جانبها غيرها. لو كانت هذه المجموعات متصلة في حلقات تنظيمية واحدة، لكان من السهل على الحكومة السعودية ضربها وإفنائها من خلال تتبع التواصل التنظيمي الهرمي. الحال الآن غير هذا، ففي غياب التنظيمات السياسية الكبيرة، وكذلك في غياب التنظيمات العسكرية السلفية الجامعة، فإن المجموعات المسلحة تتشكل من بضعة أفراد أصدقاء أو زملاء أو رواد مسجد ما، بحيث يصعب على الأجهزة الأمنية متابعتها. كما أن الضغط الأمني المتواصل، يجعل الكثير من هذه الجماعات في حالة سبات مؤقت، ولكنها فاعلة تحت الرماد، وبإمكانها العودة من جديد لممارسة عملها. لا شك أن هذه الجماعات تتفق فيما بينها حول الأهداف والوسائل والأفكار والمنطلقات وربما أحياناً تشترك في الرموز الدينية والسياسية، ولكنها في النهاية منفصلة عن بعضها البعض. مع ملاحظة أن الحكومة ألقت القبض على كثيرين، وبينهم رجال دين، ولكن العمليات والمصادمات لم تنته، الأمر الذي يدلّ على أن تذرّر جماعات العنف يعطيها هامشاً واسعاً من الحركة، ويجعل من مسألة القضاء عليها صعباً إن لم يكن مستحيلاً.

المسألة الرابعة ـ من خلال قراءة مؤشر الأحداث الأمنية نرى أن المصادمات العسكرية تتصاعد، وكذلك الخسائر. ولأن ظاهرة العنف لها جذورها الإجتماعية والفكرية والإقتصادية والسياسية، فإن الإصرار على الحلّ الأمني وحده من قبل أمراء العائلة المالكة وسدّ منافذ الحلول الأخرى يعني إيجاد حالة جزائرية في المملكة. فحتى لو استطاعت العائلة المالكة القضاء على موجة العنف الحالية، فإن الظروف السياسية والإقتصادية للمملكة ستولّد المزيد من دعاة العنف. المملكة بحاجة إلى إصلاح سياسي واقتصادي وثقافي شامل وجوهري، فهذا هو الذي يوقف العنف في المدى المتوسط والبعيد. أما خيار العصا وحدها، فقد جرّبه كثيرون ولم يجنوا منه سوى الدمار.

المسألة الخامسة ـ إن مواجهة العنف ليس بديلاً عن الإصلاح السياسي، كما يسوقه الأمراء، الذين يقولون بأن الأولوية للأمن، وكلّ شيء مؤجّل. الصحيح إن الإصلاح السياسي هو البوابة الصحيحة لمواجهة العنف، أما من يصفق للنظام اليوم في مواجهته المسلحة ضد الجماعات الأخرى، فإنهم بحاجة الى أن يقفوا مع أنفسهم، فكلنا ضد العنف السلطوي كما عنف الجماعات. ولا يجب أن نكون متفرجين على معركة مصيرية تخصّ الوطن وأهله. نحن لسنا في صف العائلة المالكة إلاّ إذا بدأت بالإصلاح، أما أن تستخدم الإنفلات الأمني لتأجيله أو إلغائه كما هو ظاهر الآن، فإن سلبيتنا ستفقدنا أي آمال بالإصلاح. اليوم يجب أن تتحرك النخب الإصلاحية للضغط على العائلة المالكة وتطالب بالإصلاح، وتحرك الشارع وتحشده خلفها؛ يجب أن تقف وتقول بأن الحل الأمني سيقود بلادنا الى الهاوية ولن نقبل أن نكون بين مطرقة عنف الجماعات وسندان الطغيان والإستبداد الحكومي. يجب أن يقولوا بأن الشعب ضد العنف وضد الإستبداد معاً. وأن خيار الإصلاح السياسي والإجتماعي والإقتصادي هو الأفق المتبقي لنا كشعب، وإلا فالطوفان آت.

الصفحة السابقة