مطالعة الفوزان حول العلاقة بين الإصلاح والإستقرار

مشاغبة هادئة.. ولكن مؤلمة!

يحي مفتي

تميّزت مقالات الدكتور عبد الله الفوزان بالرصانة والعمق والاختيار الموفّق للموضوعات الحسّاسة وذات الأهمية الخاصة..ولأنه يعيش في بلد يحظر التعبير الحر عن الآراء أو مقاربة القضايا التي تحسب من وجهة نظر العائلة المالكة خاصة وسيادية، فإنه يلوذ أحياناً بلغة مواربة وحذرة، ويسعى الى تمرير آرائه عبر انتقاء متقن للكلمات، كيما تخرج الجمل هادئة وحمّالة أوجه، بحيث يمكنه الإفلات من مقص الرقيب وعصا الأمن.

قينان الغامدي، رئيس تحرير جريدة (الشرق) سابقاً، والذي أقيل على خلفية رأيه الجريء في الدعوة لتغيير الحكومة، وسماحه لعدد من الكتّاب وعلى رأسهم الفوزان، بأن يطرقوا المحرّم من الموضوعات، كان حريصاً على استكتاب الفوزان في الصحيفة، الى جانب كتّاب آخرين يقتفون السيرة ذاتها التي اجترحها الفوزان منذ سنوات طويلة.

بعد اندلاع الربيع العربي، انبرى الفوزان لكتابة سلسلة مقالات جريئة لم يكن من المسموح في أي وقت مضى الاقتراب منها أو التفكير فيها، ولكنّه التقط التحوّلات التي تشهدها المنطقة، منذ بدء تساقط أحجار الدينومو، وقرر أن يرفع مستوى المقاربة موضوعاً ولهجة على طريقة دحرجة البراميل، بما يتيح له تناول قضايا الساعة.. أو المرحلة إن شئتم.

كتب الفوزان في العلاقة بين المواطنين والأسرة الحاكمة والعكس، وعن نضج المجتمع للمشاركة السياسية، على خلفية الجدل المثار منذ سنوات بأن المجتمع ليس مؤهّلاً للديمقراطية ولابد من مرور فترة تأهيل كافية كيما يصل المجتمع الى مستوى الممارسة الديمقراطية المسؤولة، وتساءل في الوقت نفسه عن الأسباب التي منعت القيادة السياسية السعودية من البدء في خطوات التطوير (أو الاصلاح)، وتوقف في أكثر من محطة عند التطوير ورياحه، وعلاقة التطوير بالتغيير والتدمير، وهل أن رياح التغيير مجرد موجة وستزول..أم أنها متواصلة وثابتة.

بطبيعة الحال، فإن مقاربات الفوزان قد لا تكون صحيحة ومقبولة في المجمل، رغم أنها تبطن أفكاراً جريئة وتطرح قضايا ذات اهتمام مشترك وعام، فقد يعتنق آراء لم تعد مقبولة أو صالحة، ولايعني ذلك أنه غير متميز في بعض الآراء.

في مقالة له حول تطوير النظام السياسي كضمانة للحفاظ على الاستقرار، نشر في صحيفة (الشرق) في 10 كانون الأول (ديسمبر) 2012، بعنوان (هل رياح التغيير موجة زائلة؟)، وبدأ بالسؤال الكبير: بعد تفجّر الثورات التونسية والمصرية والليبية واليمنية، هل سيكون النظام السعودي بمنأى عن تأثير تلك الثورات؟ قدّم الفوزان إجابة كلاسيكية على سؤال قديم جديد، على أساس أن النظم الملكية والخليجية لم تكن دموية كما هو الحال بالنسبة للأنظمة الثورية العربية مثل النظام الليبي والسوري والعراقي..ولم تنشأ تبعاً لذلك معارضات عنيفة في المجتمع، مع أن القاعدة وفروعها المحلية وكذلك النسبة المرتفعة من الانتحاريين هي سعودية بامتياز..وذهب الفوزان ايضاً الى أن الرخاء الاقتصادي لمواطني المملكة وكذلك الانظمة الخليجية حال دون اندلاع الثورة، ولكن هذا العامل له تأثير محدود ونسبي ولم يخمد الاحتجاجات الى ما لانهاية، فبعد الهبات الملكية عقب سقوط نظام حسني مبارك، اندلعت المظاهرات والاعتصامات ومن يراقب الوضع في العالمين الافتراضي والواقعي يجد بسهولة أن ثمة شعباً يحضّر لثورة شعبية..

ولفت الفوزان في نهاية مقالته الى أن مصادر القوة التي تمتع بها النظام السعودي والتي حالت دون انفجار الثورة الشعبية الآن، ليست دائمة لأن رياح التغيير (لابد أن تتسرب تدريجياً وتؤثّر على الاستقرار ما لم يكن هناك نهج واقعي يأخذ النظام للمسيرة الحضارية ويستجيب لشروطها).

وفي سياق حديثه عن تطوير النظام السياسي كضمانة للحفاظ على الاستقرارن كتب الفوزان مقالة في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2012، بعنوان (رياح التغيير ورياح التطوير)، خصّصه لتسليط الضوء على اختلاف الظروف التي تجعل من نقاط القوة التي تحدث عنها في المقالة السابقة غير دائمة، لأن (الزمن غير الزمن والموضوع غير الموضوع)، على حد قوله، فهذا (زمن ثورة الاتصالات الهائلة..) و(الموضوع ليس ثورة العسكر الاستبدادية التي كرّست سلطة الفرد واغتالت سلطة المجتمع اتكاءً على مشاعر وطنية وقومية عاطفية جاءت ردّ فعل للمرحلة الاستعمارية، بل ثورة المجتمع على سلطة الفرد..). وخلص (ستهب الرياح على ساحتنا، بل هي تهبّ الآن)، ورغم أنها ليست رياح عاصفة ولكنها رياح (تسقط أوراق خريف الأنظمة لتعطي الفرصة لأزهار ربيعها..). ونبّه الى حقيقة ناصعة (لقد تطوّر وعي المواطن وثقافته وأصبح أكثر إدراكاً لمصالحه ومصالح وطنه)، ويعني ذلك (أن المحافظة على الاستقرار في المستقبل أمر صعب) والمفروض (أن النظام هو كذلك أيضاً يدرك أن الوقوف بلا حراك إيجابي وتطوير بنّاء قد يعني وصول الحريق إلى المنزل)، وزاد في مستوى الصراحة بما نصّه (أصبح كثير من المواطنين يتطلعون لما يعدّونه حقوقاً سياسية، وقد يكونون مقتنعين بأن طبيعة المرحلة تتطلب إتاحة الفرصة للمشاركة في تحمّل المسؤوليات واتخاذ القرارات..).

نلفت الى أن الفوزان يحاول وهو يمرّر هكذا آراء جريئة التخفيف من تموّجاتها وتفسيراتها التهويلية، فيعود مؤكّداً على ثوابت النظام وأن التغيير لا يراد منها سوى تعزيز النظام والاستقرار ووحدة السلطة..الخ

وعلى نفس النسق المتصل بتطوير النظام السياسي كضامن للإستقرار، يكتب الفوزان في 15 كانون الأول (ديسمبر) 2012 بعنوان (رياح التطوير ورياح التدمير)، وتحدث فيه عن البطالة وفساد الجهاز الحكومي وغير الحكومي، وقال بأن البطالة الصارخة على حد وصفه تعبّر عن (فشلٍ في بناء بُنية المجتمع وإدارة دفّة التنمية إلى ذلك الحدّ الذي أوجد تلك التشوّهات البارزة في البناء الاجتماعي والتنموي..)، وتحدث عن الفساد الحكومي الذي كشفت عنه سيول جدة فيما عجزت أجهزة كشف الفساد ومكافحته مثل ديوان المراقبة العامة، والمباحث الإدارية، وهيئة الرقابة والتحقيق، وأجهزة التفتيش والمتابعة الموجودة في كل جهاز حكومي، وحتى بعد تشكيل هيئة مكافحة الفساد فإن الأمر لم يتحسن بل ازداد سوءا فقد تراجع ترتيب المملكة في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، أي ازداد الأمر سوءاً، إذ كان ترتيب المملكة عام 2011 (57) فأصبح في عام 2012 (66).

عبدالله الفوزان

ومن الرياح المدمّرة تلك التي تهب على المرأة، وأخطر الرياح هو هذا المجتمع الاستهلاكي الذي أنجبه النفط وسوف يتخلى عما قريب عنه حين ينضب، ويكلّف سنوياً ألف مليار ريال وهو مرشّح للإرتفاع وليس لدينا الا تلك الموارد النفطية (وقد تصرّفنا وما زلنا نتصرف وكأنها موارد دائمة، في حين أنها ناضبة وقد تتراجع في أي وقت..)، ولم نوجد البدائل، ولم تتحول الثروة النفطية إلى قوة إنتاجية.

وفي مقالة بعنوان (قبل فوات الأوان) كتب الفوزان في 17 كانون الاول (ديسمبر) 2012، ولا يزال في سياق الحديث عن تطوير النظام السياسي كضمانة للإستقرار، يدعو الى احتواء الاخطار السياسية بدرجة أساسية، ولربما أراد لفت الانتباه الى أن مقالاته ليست لأنه يرى في سماء الوطن السياسية سحباً سوداء كما هو الحال في سمائنا التنموية والاجتماعية، ولكنها يشعر بأن رياح التطوير، كما يسميها اقتفاءً لاملاء الامير نايف باستبدال الاصلاح بالتطوير، تهب وستظل تهب وتتجمع وتتاركم وتلحّ وقد تتحول الى عواصف (إذا لم نفتح لها النوافذ والأبواب ونوجد المخارج الآمنة ونتصرف كما تتصرّف المجتمعات الواعية لطبيعة المرحلة..). فهو يرى بأن ثمة امكانية الآن للتشخيص والمعالجة، وأن ثمن ذلك قليل، ولكن في مرحلة لاحقة سوف يكون الجهد والعلاج مضاعفين.

الفوزان وفي مقالة بعنوان (إذا قالت حذام فصدّقوها) بتاريخ 19 كانون الأول (ديسمبر) 2012، يبدو أنه تبلّغ بلفت نظر من جهة أمنية أو سياسية، ولذلك بدأ بما يشبه الاعتذار غير المباشر، وتخطئة الذات.فقد بدأ مقاله بما ختم به مقاله السابق من ان رياح التطوير قد (هبت على منطقتنا، وأنها ستظل تهب بتأثير تلك العوامل الدولية القوية التي أثرت على المجتمعات العربية وستؤثر في استقرارنا ما لم نطور نظامنا السياسي بما يتناسب مع متطلباتها..)، ولكّنه ربما شعر بأن الجرعة زائدة عن المقرر المحلي، فعاد معتذراً في هذه المقالة وقال (أريد أن أؤكد أني حين قلت هذا لا أجزم بصحة تشخيصي، فما قلته رأيٌ يحتمل الصواب والخطأ، فما أنا إلا مجتهد لا يزكي آراءه)، مع ذلك قال بأنه ليس الوحيد (الذي يرى ذلك بل كثير من النخب العالمية والعربية والخليجية والمحلية يرون أننا لسنا بمنأى عما حصل بالمنطقة العربية، ويختلفون في نوعية التأثير ودرجة قوته)، حسناً، إذاً ما الضير في الرأي الذي قاله الفوزان؟ اختار الأخير الوليد بن طلال للاحتماء برأيه للدفاع عمّا قاله، وممّا نقله عنه قول الوليد بن طلال (إذا كان هناك درس يمكن تعلّمه من الربيع العربي فهو أن رياح التغيير التي تهب على المنطقة في الشرق الأوسط ستصل في النهاية الى كل الدول العربية، لذا فإنها فرصة خاصة للأنظمة الملكية التي لازالت تتمتع بالشرعية والجماهيرية للبدء في اتخاذ تدابير من شأنها أن تجلب المزيد من المشاركة السياسية للمواطنين..).

ونقل عنه أيضاً قوله (هذا هو الوقت الملائم للأنظمة الملكية العربية التي تتمتع بشرعية وشعبية كبيرتين لدى الجمهور كي تبدأ في إجراءات تؤمن المزيد من مشاركة المواطنين في الحياة السياسية لبلدانهم..)، بل قال ما هو أجرأ من ذلك (إن الإجراءات التجميلية ستزيد من مشاعر النقمة والتشاؤم والشعور بأنه لا يمكن تحقيق تغيير فعلي إلا عبر الانتفاض والعنف..)، في إشارة الى التقديمات الاجتماعية والتغييرات الشكلية التي قام بها الملك عبد الله في غضون العامين الماضيين.

وفي مقالة (لماذا لم تبدأ خطوات التطوير؟) نشرت في 22 كانون الأول (ديسمبر) 2012، ذكّر بتطلعات المواطنين قبل الربيع العربي نحو تطوير النظام السياسي، وحين اندلعت الثورات توقّع البعض أنها ستكون حافزاً لبدء الاصلاح السياسي ولكن (تفاجأ بعضهم عندما قدّمت الحكومة تلك الحوافز المالية اللافتة وتمّ الاكتفاء بها)، بل إن (ما حصل يوضّح أن أصحاب القرار يرون أنه ليس هناك من ضرورة لأي عملية تطوير سياسي في الوقت الحاضر..). وأرجع الفوزان ذلك الى احتمالات منها: أنهم يرون رُبما أن أيّ عملية تطوير تؤدي للمشاركة السياسية لن تساعد على استمرار الاستقرار بل على العكس قد تزعزعه انطلاقاً ربما من مقولة عدم جاهزية المجتمع لذلك. الثانية: الثاني: إنهم يرون “رُبما” أن أسباب اشتعال الثورات العربية تتركّز في تدني الاحوال المعيشية فحسب، ولا وجود لأي تطلّعات سياسية أخرى قويّة. الثالث: إنهم وبتأثير تلك الحساسية التي يتميّز بها الإنسان العربي على وجه العموم ربما لم يروا أن تبدو عملية التطوير وكأنها استجابة لضغوط، أي أن الاحتمال قائم بأن تبدأ عملية التطوير لاحقاً. الرابع: إنهم يرون أن العملية مثل شدّ الحبل بين طرفين، وأن أي اتجاه نحو التطوير سيكون بمثابة إرخاء لعملية الشد وقد تؤدي لعملية جذبٍ أقوى من الطرف الآخر... الخامس: إنهم يرون “ربما” أن خطوات التطوير هي في واقع أمرها أوراق في يد المفاوض، ومن الخطأ التنازل عن بعضها إلا في الوقت المناسب..

يقترب الفوزان من النقاط الشائكة في مقاربته حول تطوير النظام السياسي كضمانة للإستقرار من خلال مقالته (هل مجتمعنا غير ناضج للمشاركة السياسية)، نشر في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2012 يبدأه بعرض الحجة التقليدية المكرورة بعدم نضج المجتمع للمشاركة السياسية التي يستند اليها غير المؤيدين للمشاركة، ويرد ذلك الى أن أصحاب الحجة هذه (لازالوا غير قادرين على تقبّل النتائج بصدرٍ رحب إذا جاءت لغير صالحهم..). بل سحب البعض هذه الحجة الى المجتمع العربي والاسلامي بأسره ، وقال بأن ما يجري في مصر وتونس وليبيا إنما هو ناتج من عدم النضج (ولكنهم لا يقولون متى وكيف يحصل هذا النضج، وهل الحل بقاء هذا المواطن غير الناضج بعيداً عن عوامل النضج الفاعلة..؟). بل إن البعض يبالغ في تشاؤمه ونبذه لفكرة المشاركة ويرى بأن (المشاركة السياسية لا تصلح أصلاً في هذه المجتمعات؛ لأن طبيعتها وثقافتها تختلف عن طبيعة وثقافة المجتمعات التي نجحت فيها المشاركة السياسية..)، ولكن لا يذكر هؤلاء مثالاً واحداً لهذه الأساليب تتناسب مع التطور الحضاري والاجتماعي الحاصل في العالم الآن حتى يمكن الاقتداء بها.

الفوزان يرى بأن سؤال النضج يجب أن يسبقه سؤال وجود التطلع للمشاركة السياسية لدى المواطنين، لأن غياب التطلع والرغبة في المشاركة يلغي الحاجة لسؤال النضج، لأنه سالب بانتفاء الموضوع، فأنت لا تتحدث عن نضوج شخص لتولي منصب قيادي إن لم يكن لديه تطلع أو رغبة..

الفوزان يحسم الرأي بالقول إن الرغبة موجودة لدى المواطنين، والسؤال عن عدم وجود نضج كافي لا يحل بالحرمان والحظر والتأجيل وإنما بالتطوير السياسي الهادىء والمتدّرج..ولذلك، فإن المجتمع غير الناضج سياسياً بالحد الكافي بحاجة الى مشاركة سياسية تحت رعاية قوة حاكمة يكون فيها الجيش والأمن قويين ومحايدين بالنسبة للمتنافسين..

تحدث الفوزان في مقالة بعنوان (استحقاقات تفرضها العلاقة بين المواطنين والاسرة الحاكمة) في 31 كانون الأول (ديسمبر) 2012، افتتحه بحقيقة أن طبيعة العلاقة ومتانتها أو ضعفها بين المواطنين والاسرة المالكة لها تأثير في عملية التطوير السياسي، ويفترض أن تكون لها تأثير مباشر عل الاستقرار السياسي من باب أولى. والفوزان يعترف بغياب آليات أو معايير تكشف متانة وضعف تلك العلاقة، وحتى المؤشرات التي يمكن الاستعانة بها قد تتناقض وتتراوح ضعفاً وقوة. فهو يفرّق بين ما ينشر في وسائل الاعلام الرسمية والمجالس الرسمية من مدح وتمجيد وبين ما يقال في المواقع الالكترونية والمجالس غير الرسمية من انتقادات شديدة تطال أموراً أبرزها (الحيازات الكبيرة للأراضي، وبعض الجوانب الاقتصادية، والمبالغ الضخمة لتكاليف بعض المشروعات الكبيرة والهيبة الكبيرة التي تؤثر في مبدأ تكافؤ الفرص، والاستئثار بكثير من المناصب المهمّة والاحتفاظ بها سنواتٍ عديدة..).

هذا التناقض الذي يجد الفوزان صوراً جمّة له في موضوعات ومناسبات عديدة مثل حفلات الزواج من المواطنين او من الاسرة الحاكمة..

امتدح الفوزان الملك وولي عهده على طريقة المدّاحين التقليديين الذين أدمنوا إتقان المديح وحده، ولكن أعاد التوازن وكأنه أراد من المديح كيما يمهّد السبيل للدخول الى المنطقة الشائكة حيث تحدّث عن اخفاقات الدولة في السياسات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والتي وضعها الفوزان تحت عنوان (رياح التدمير)، فسلّط الضوء على البطالة، والاخفاق في تحويل النفط الى قوة انتاجية، والفساد المالي والاداري في الاجهزة الحكومية وغير الحكومية..هذه الأزمات تعتبر مادة النقد التي توجّه (للأسرة في المجالس).

في مقاربة لافتة، تحدّث الفوزان في مقالة (هل نحن دولة بلا دستور..؟) نشر في 14 كانون الثاني (يناير)، أجاب على السؤال منذ البداية (بمنطق أغلب دول العالم (إن لم يكن كلها) تقول إننا دولة بلا دستور بالمفهوم المتفق عليه للدستور). ورد على الاجابة التقليدية التي تتردد على ألسنة أمراء آل سعود بأن دستورنا هو القرآن والسنة، حيث تساءل (هل من المناسب اعتبار القرآن والسنة هما الدستور لدولة حتى لو كانت مثلنا تطبق الشريعة الإسلامية بشكل تام..؟؟)

وأجاب على السؤال ولكن بنسبته الى (كثيرين) بأن (ليس من المناسب اعتبار القرآن والسنة دستورًا للدولة)، لـ (عدم الهبوط بهما إلى مستوى الدساتير البشرية). فالدستور يضعه العقل البشري لأغراض مهمة من أبرزها تحديد نظام الدولة (ملكي أو جمهوري أو خلافة أو إمارة أو غير ذلك) وتحديد السلطات فيها (تشريعية، قضائية، تنفيذية، رقابية، مالية) وإيضاح حدود تلك السلطات حتى لا تطغى سلطة على أخرى، ووضع الأطر العامة للقوانين وللواجبات والحقوق والحريات وحقوق الأقليات (المذاهب مثلاً) حتى لا يصيبها الضرر من تطبيق مذاهب وحقوق وقيم الأغلبية، وكذلك وضع الضوابط التي تطمئن العاملين الأجانب وتحفظ حقوقهم وتعرفهم بواجباتهم.. وهكذا.. إلى آخر الأمور الكثيرة الأخرى.. وليس من وظائف القرآن والسنة فعل ذلك.

يفترض أن الانظمة التي وضعتها الدولة السعودية بدءا من النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الوزراء، ونظام مجلس الشورى، ونظام هيئة البيعة، ونظام الإجراءات الجزائية، وغيرها تتقارب أو تتماثل مع بنود وفقرات الدساتير في الاطار العام للأنظمة ونظام الدولة فلماذا إذن (وضعنا تلك الأنظمة العديدة طالما أن دستورنا هو القرآن..؟)

عناوين كثيرة طرحها الفوزان في سلسلة مقالاته عن تطوير النظام السياسي كضمانة للإستقرار، بما في ذلك الحديث عن النظام الملكي تاريخ نشأته، وافتراقه عن نظام الخلافة الاسلامية..وقد يكون العنوان الابرز اللافت في مقالات الفوزان هو حديثه عن سلطات الملك، كما جاء في مقالته بعنوان (حدود سلطة الملك في نظامنا السياسي) المنشور في 6 شباط (فبراير) الجاري بدأها بمقدمة صادمة بما نصّه (الدستور في أي دولة هو الذي يحدد سلطة رئيس الدولة وسلطات الآخرين، وبالنسبة لدولتنا فليس لها دستور مكتوب مثل دساتير الدول..)، ما يعني أن سلطات الملك مطلقة لأن لا دستور يحدّها أو يقيّدها، وأكّد ذلك حين قال بأن النظام الأساسي للحكم ينص على إن دستورنا هو القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، (والقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية لم يرد فيهما تحديد لسلطة رئيس الدولة بالشكل الذي يرد في الدساتير..). ولكّن الفوزان حاول أن يفيد من مواد النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الوزراء ونظام مجلس الشورى بغرض تثبيت مبدأ (تحديد سلطة الملك).

ولكن الفوزان إستند على مواد تبدو الاشارات فيها ضعيفة حول تحديد سلطات الملك كرجوعه الى المادة (44) من النظام الأساسي للحكم والتي تنص على مايلي: (تتكون السلطات في الدولة من السلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، والسلطة التنظيمية، وتتعاون هذه السلطات في أداء وظائفها وفقاً لهذا النظام وغيره، والملك هو مرجع هذه السلطات). أو المادة (55) والتي تنصّ على (يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقاً لأحكام الإسلام ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية والأنظمة والسياسة العامة للدولة وحماية البلاد والدفاع عنها). أو المادة السابعة من نظام مجلس مجلس الوزراء (تعقد اجتماعات مجلس الوزراء برئاسة الملك رئيس المجلس، أو أحد نوابه، وتصبح قراراته نهائية بعد موافقة الملك عليها الذي يحكم البلاد). وكذلك المواد (60) من النظام الأساسي للحكم حيث يعين الملك الضباط وينهي خدماتهم. والأطرف في تحديد صلاحيات الملك هي ما جاء في الأنظمة بأن الملك (هو الذي يعين أعضاء هيئة كبار العلماء، والمجلس الأعلى للقضاء، وأعضاء المحكمة العليا، وجميع من يشغلون المرتبة الممتازة فما فوق، وكذلك فجميع التعيينات والترقيات للمرتبتين الرابعة عشرة، والخامسة عشرة لابد أن يوافق عليها مجلس الوزراء الذي يرأسه الملك ولا تكون قراراته نافذة إلا بعد أن يوافق الملك عليها). وبموجب الانظمة (الملك هو الذي يعين أعضاء مجلس الشورى).

الملك صاحب سلطات مطلقة وشاملة، بحسب الانظمة الثلاثة، ونظام مجلس الوزراء. الفوزان يقول بأن هذا هو الرأي الشرعي المعمول به في السياسة الشرعية الاسلامية، حيث الحاكم ينفذ أحكام الله وبالتالي فهو يتولى كل السلطات لتحقيق هذه الهدف، ثم يستدرك ويقول (غير أن هذا الرأي الديني (على افتراض سلامته) لا يعني أن الملك ملزم بأن يتولى جميع السلطات، ولكن يعني أن هذا من حقه إذا رأى أن المصلحة العامة للبلاد تقتضي ذلك، أما إذا وجد أن المصلحة تقتضي التنازل عن بعضها (دون تحديد لهذا البعض) فإنه يستطيع التنازل عنها لغيره..). وهذا الرأي كارثي إن صح تبنيه من الملك أو من عالم دين حتى، لأن السلطة تصبح للملك حقاً وتنازله عنها يصبح إحساناً. ونعتقد بأن مجرد التفكير في امكانية تطوير النظام السياسي من هذا المنطلق وعبر هذه الزاوية يعتبر خطراً فادحاً لأن الملك بإمكانه الاحتفاظ بسلطاته أبد الدهر، وعلى الرعية أن ترى في ذلك حقاً له من الله، وإن تنازل عن أي من سلطاته فإنما هو كرم منه وإحسان يشكر عليه ولابد من تقديم فروض الطاعة له والامتنان لمنه وإحسانه.

الصفحة السابقة