على غرار قرى الحدّ الجنوبي

هَجرة أم الضيّان تشعل تحدّي القبائل

ناصر عنقاوي

(ابن هذّال) شيخ عنزة، مشهور في السعودية والعراق؛ ولم يكن على وفاق مع آل سعود بشكل كبير، وإن خضعت القبيلة في النهاية ونالت الحظوة لدى النظام، الذي استخدمها ضدّ قبيلة شمّر في حائل. لكن زمن القبائل الذي اعتقد البعض انه مضى، لازال حيّاً، ومادام الأمراء لم يستمروا في دفع الشرهات كما كان سابقاً، فعليهم أن يتوقعوا مشاكل في الولاءات. ولأن حكام البلاد المسعودة لم يكونوا في وارد صناعة هوية وطنية توفر جزءً من المشروعية؛ فإن الهوية القبلية التي يفترض ان تصبح فرعية ثانوية لم تتزحزح عن موقعيتها كهوية أولى رئيسية، قبل الوطنية السعودية المزعومة. ولأن القبائل ـ بنظر الأمراء ـ لا تخضع إلا للأقوى، وهو ما كان يكرره ابن سعود، فإن على أبنائه وحفدته اليوم ان يعلموا، أن القبائل حين تشمّ ضعفاً في سلطتهم، فإن ملكهم يتحوّل الى فرصة ان يكون غنيمة. وها نحن نشهد حالة الضعف والاستخفاف بالنظام في كل المناطق وبين كل القبائل، وكل هذا يغري بالمزيد من التمرد والإحتجاج.

لم يعد المواطنون مطيعين صامتين مثلما كان الحال قبل سنوات قلائل. إن كل أخطاء الأمراء تواجه بالكلام اليوم، وبالتشهير في مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تتطور الى مواجهات، إن لم يتحسّن الحال.

ولم يعد التهديد بالضرب بيد من حديد يخيف الناس، والدليل كثرة الإعتقالات وفي نفس الوقت تصاعد الاحتجاجات والاعتراضات!

هِجْرَةْ، أو قرية (أم الضيّان) تقع بالقرب من الحدود السعودية العراقية، ويسكنها فرع الدهامشة من قبيلة عْنِزَة، الحليف التقليدي للعائلة المالكة، خاصة وأن الأخيرة تزعم انتسابها لفرع (المساليخ) التابع لعنزة نفسها.

يتكرر في هذه القرية، ما حدث في قرى الحد الجنوبي في جيزان، حيث تمّ تهجير ما بين ٣٠٠ ألف الى نصف مليون مواطن من عشرات القرى المحاذية لليمن، بحجة أمنية أثناء الحرب ضد الحوثيين في اليمن؛ ولازالوا حتى الآن يعيشون في أماكن استأجرتها الحكومة، رغم وعود الحكومة ببناء منازل لهم يتملكونها، رغم مضي اكثر من خمس سنوات على تهجيرهم. وقد حرمتهم العائلة المالكة من العودة اليها، فيما يخطط كبار الأمراء لاستثمار تلك القرى والأرياف لصالحهم.

في تلك الأزمة ظهر صوت الناشط الحقوقي عيسى النخيفي، الذي دافع عن حق المواطنين في مهد آبائهم وأجدادهم وموئل ذاكرتهم الجماعية، فقام بتصوير اعتراضات المواطنين في قرى الحد الجنوبي، ونشرها للعالم ليعرف المأساة التي يعيشونها، فما كان من السلطات إلا أن اعتقلته، ولازال حتى الآن قيد الإعتقال.

اهالي قرية (ام الضيّان) اعترضوا، خاصة بعد ان تم تدمير قرى أخرى على الحدود، والتي طالما كانت متداخلة مع البادية العراقية، وذلك عبر تدمير القرية وتراث أبنائها، واعطاء السكان تعويضاً لا يتجاوز ثلاثة ملايين ريال، أي انها بالكاد تكفي لبناء بيتاً لعائلة متوسطة العدد في مدينة كالدمام. اعترض الأهالي، على القرار منذ ان صدر في ٢٠٠٧م، وعبثاً حاولوا ردع المسؤولين عن تنفيذ القرار، وحصلوا على وعود كلامية من وزير الداخلية الأسبق نايف، وذكروا المسؤولين بالوعود مراراً في الصحف المحلية، ولكن لا حياة لمن تنادي.

الشهر الماضي، جاءت الجرافات لتدمر القرية، مصحوبة بقوى عسكرية، فهبّ ابناؤها الدهامشة للدفاع عنها معتصمين محتجين، ودخلوا في مواجهة حدث فيها اطلاق نار في الهواء، وكادت ان تقع مذبحة، فانكفأت القوات العسكرية، ورقص المواطنون الدهامشة (الدَحّة) رقصة الحرب احتفاء بنصر مؤقت ربّما.

الدهامشة وحلفاؤهم القبليين رفعوا الصوت عالياً حتى لا تتكرر تجربة الحدّ. واستعرضوا تاريخ شيخ الدهامشة ارْشَيْد بن مجلاد، الذي قاتل على رأس جيش الإنقاذ في فلسطين، مع انهم امتنعوا عن ذكر شيخ قبيلة عْنِزَةْ الأشهر: فهد بن هذّال، لأن هذا الأخير لم يكن على وئام مع ابن سعود مؤسس الدولة.

ابناء عمومة الدهامشة، من قبيلة الِرْوِلَهْ ذهبوا الى (أم الضيّان) متضامنين؛ وجاؤوا بهديتهم للإحتفال (جَمَلاً) للوليمة، وقد استقبلوهم مرحبين.

ايضاً هناك قبائل اخرى تضامنت مع الدهامشة من عْنِزَةْ، مثل مطير، التي لم تنسَ مقتل قادتها فيصل الدويش الذي قتله ابن سعود، ولا ابنه عزيّز الذي قتل هو الاخر، بعد ان قاما ببناء العرش السعودي بسلاحهم.

وطفقَ شعراء الدهامشة يسعّرون من لهيب المواجهة، ويرفضون تدمير قريتهم وتراثهم، فهذا جمال الدهمشي يقول:

مرحوم يا شيخ دونها يِقِطّْ ارْقاب

وِشْ بقى يا دِهْمِشْ؟ ما بقى جْنَابْ

وعبدالعزيز المجلاد يقول:

أُمّ الضِيا لا يِجِيْها هَدّْ

هذي بِخْفوقي وبِعْيوني

يا مَنْ تِهِدّونَها مِنْ جَدّْ

انتمْ وربّي.. تهدّونيْ

وفواز الدهمشي يهدد بأن الأرواح (دونَ الديار نْبِيْعها)، ويضيف:

ورُوسٍ تَبِيْ تِفْرِضْ علينا المستحيلْ

ما نِطيْعها ما نطيعها ما نطيعها!

الشعر (او ما يسمى بالرزف) جزء من المواجهة، ومن خلاله يكون التحريض، اضافة الى الاستعراض العسكري بالسلاح، كما حدث.

فما جرى من محاولة الهدم اهانة ما بعدها اهانة، فأين الحميّة يا عريبين الأمجاد؟ كما يصرخ شاعر آخر؛ إما وفاةْ والاّ نعيدِ الأمانةْ.

لقد طفح الكيل من انتهاك حقوق المواطنين الأولية، بحيث عجزوا عن تحصيل العيش الكريم، فضلاً عن الحرية والكرامة. وها هي بوادر الإنفجارات تتكاثر ضد الفساد والظلم وسلب الحقوق.

الصفحة السابقة