هل تنجح الحكومة في صناعة مسرح جهادي بديل؟

معركة توازن الخصومات

في تصريح مثير للجدل قال الشيخ والمحامي محسن العواجي في الثالث من ديسمبر بأن المقاتلين الذي يحاربون الدولة السعودية سينالون شرف الجهاد إذا هم، بدلاً عن ذلك، وجهّوا جهودهم ضد القوات الأميركية في العراق. وبينما رفض التأكيد ما اذا كان المقاتلون المرتبطون بتنظيم القاعدة يمتثلون لنصيحة بعض العلماء من أجل صرف أنظارهم نحو العراق وأفغانستان، قال العواجي لاذاعة بي بي سي البريطانية بأنه من الصعب علينا أن نقدّم تصريحاً واضحاً حول العراق، ولكنه قال بطريقة أخرى أنه إذا كان هدف المجاهدين هم الناس الابرياء، فنحن ندين ذلك، ولكن إذا كان هدفهم هو إخراج الأميركيين من العراق، فنحن نبارك لهم ذلك ونشكرهم عليه.

لقد أثار تصريح الشيخ العواجي، المحسوب ظاهراً على إتجاه ديني معتدل وقريب من الحكومة، جدلاً واسعاً في الاوساط السياسية الأميركية، حيث إعتبر التصريح تكتيكاً تستعمله الحكومة السعودية من أجل حماية نفسها ضد المتطرفين الدينيين، كما يكشف التصريح عن قدرة شبكة تنظيم القاعدة على تجنيد مقاتلين في الداخل. ويقول مسؤولون حكوميون إستناداً على فتاوى العلماء بأن محاربة الدولة ـ السعودية ـ ليس جهاداً وعليه فإنه غير شرعي، فيما يقدّمون ميداناً بديلاً للجهاد في العراق.

وفي تحليل لما تبطنه تصريحات الشيخ العواجي فإن المناورة الحكومية تشير الى أن القادة السعوديين قد توصّلوا الى أنهم لا يستطيعون كسب الحرب الأيديولوجية ضد القاعدة، والتي ترى بأن الحكومة السعودية غير شرعية، لأن الجهاد بحسب التفسير الوهابي مبدأ جوهري وأصيل في الاسلام وبالتالي في السعودية، فقد جرى توسيع مفهوم الجهاد من قبل الايديولوجية الوهابية المتطرفة. وبدلاً عن ذلك، فإن الحكومة تبعث برسالة الى التيار الجهادي عبر العلماء بأنها تقف في جبهة واحدة مع التيار فيما يتصل بالجهاد، مع فارق أن أفراد التيار الجهادي يجب أن يحاربوا قوات الاحتلال غير المسلمة في العالم العربي بدلاً من محاربة المسلمين الآخرين.

من الناحية النظرية، فإن الرياض تأمل في أن تؤسس لنوع من العلاقة المماثلة لتلك التي تربط الجماعات الجهادية بالحكومة الباكستانية، حيث تقوم الأخيرة بإستعمال هذه الورقة كأداة من أجل تحقيق أهداف السياسة الخارجية، دون السماح لهذه الجماعات بتهديد سيادة النظام. فعلى سبيل المثال، وظّفت باكستان المتطرفين المتورطين في عمليات جهادية خارج الحدود كوسائط في أماكن مثل الهند وأفغانستان ولكن دون السماح لهم بتوجيه حرابهم ضد الدولة الباكستانية نفسها. وعلى أية حال، فإن السعودية تقف في تقاطع طرق مع مجاهديها الذين يتوحّدون بصورة أساسية حول شبكة القاعدة.

إن ما تطمح اليه الحكومة في الوقت الراهن هو إعادة السيطرة على كافة الجماعات من أجل تحقيق أغراضها الخاصة، مع إدراكها التام بأنها غير قادرة على إخماد هذه الجماعات بصورة نهائية. وعلى أية حال، فإن ثمة ما يشير الى أن تكتيك الحكومة مرشح للفشل للأسباب التالية:

أولاً: أن التيار الجهادي ينظر الى معركته في الداخل ضد الحكومة بأنها توازي إن لم تكون تفوق من حيث أهميتها الدينية من الصراع الخارجي ضد القوات غير المسلمة. وفيما يميل البعض الى إنكار عقيدة كهذه، فإن صميم التيار الجهادي داخل المملكة لن يحيد عن أهدافه المنشودة في الداخل للسير في تنفيذ خطته، حيث يبني هذا الجزء الفاعل والقيادي من التيار عقيدته على أن الانظمة القائمة حالياً في العالم الاسلامي هي غير شرعية بالمعنى الديني، وبالتالي يجب محاربتها. وحيث أن الحكومة تعي هذا المأزق بصورة شبه كاملة، فإنها ومن خلال تدابيرها الأخيرة تسعى الى حصر هدفها في إيقاف نمو التيار الجهادي بما لا يفوق قدرتها على المواجهة.

ثانياً: إن التباين الكبير في تركيبة ونشاطية التيار الجهادي التكفيري في السعودية تجعل الوضع فيها مختلفاً عن باكستان، الأمر الذي يجعل خيار إحتواء التيار أقل حظاً في النجاح بالقياس الى ما جرى في باكستان.

ثالثاً: إن العائلة المالكة غير قادرة على الذهاب بعيداً في خطتها دون الأخذ بنظر الاعتبار الغضب الدولي، مع التذكير بالسخط الذي أبدته الادارة الأميركية حيال الطريقة التي تدير بها الحكومة السعودية الصراع مع التيار الديني التكفيري.

ولذلك قيل، في حقيقة الأمر ان إختيار الحكومة السعودية السير مع تكتيكها هذا يعد خطيراً للغاية، فهو يؤدي الى توسيع شقة الخلاف بينها وبين واشنطن، وقد تحمل معه دلالات عديدة فيما يتصل بأعمال المقاومة في العراق. وربما الأهم من ذلك، أن المناورة السعودية تكشف عن أنه بالرغم من أن جزءا صغيراً من المجتمع السعودي يشارك بصورة فاعلة في العمل الجهادي داخل العراق فإن التعاطف معه يبدو عميقاً.

وبالنظر الى جذور القاعدة في المملكة والدور المركزي الذي يلعبه مفهوم الجهاد داخل الاسلام بحسب التفسير الوهابي، فإن الملكية ستكون في مأزق. وإذا ما شنت الحكومة هجوماً عسكرياً ضد القاعدة، فإن الرياض تهدد عناصر أخرى من مشروعيتها، فأفراد التيار الجهادي التكفيري قد يجادلون بأن الحكومة لم تقم فقط بالتخلي عن الاسلام، بل تقوم بمحاربة أولئك الذين يحملون المبادىء الاسلامية، وهنا تدخل في الدائرة الشائكة التي تؤدي بها الى أن توصم بالكفر البواح.

ووفقاً لما تضمنه تصريح الشيخ العواجي، فإن الرياض كما يبدو تبحث عن مصالحة فكرية مع خصمها ـ التيار الديني المتشدد، من أجل تدعيم مفهوم الجهاد، ولكن توجيهه نحو أهداف آمنة. وتكشف بعض الدراسات بأن خطابي الحكومة والتيار الجهادي المتطرف قائمان على محاربة بعضهما فكرياً وجسدياً. فالنظام السعودي يتوسل بأحاديث مروّية عن المصطفى صلى الله عليه وسلم حول وجوب طاعة الأمير وعدم مفارقة الجماعة ما لم يرتكب الأمير أعمال معصية مجاهرة وتتصل بخيانة الامانة والخروج عن جادة الحق، ويعوّل النظام على أحاديث من قبيل (سلطان غشوم خير من فتنة تدوم). ولذلك فإن الحكومة تسعى الى خلق صورة عن السلطة بوصفها إسلامية، مع بعض المشكلات، وبالتالي دفع عناصر التيار الجهادي التكفيري نحو الجهاد الصحيح لمحاربة أعداء الاسلام في العراق. القاعدة من جهة ثانية تعتقد بأن النظام قد تجاوز حد الفساد المحتمل، وبلغ حقيقة كونه مرتكباً للكبيرة المخلّة والمخرجة عن الملّة والحدود المحتملة للشرع، وتجب محاربته وفق ما أمر به المصطفى صلى الله عليه وسلم.

ويبدو أن الاحتجاج الايديولوجي لدى القاعدة يكسب تأييداً لدى التيار الديني المتشدد والمتعاطفين معه أكثر مما يحققه إحتجاج الحكومة. فمن جهة، أن التيار الديني الجهادي شديد الوضوح في قضية الجهاد الداخلي والخارجي، حيث ينظر أفراد التيار الى العلاقة التكافلية بين الانظمة في العالم الاسلامي والولايات المتحدة. ولذلك، فإنه من غير المحتمل أن يكف التيار الجهادي التكفيري عن صراعه ضد أي من هذه الانظمة والانتقال لنظام آخر، فكلهم باتوا في نظر التيار هدفاً للعمل الجهادي. وقد ظهر ذلك واضحاً في بيان أصدرته كتائب الحرمين المنضوية تحت شبكة تنظيم القاعدة في السادس من ديسمبر والذي جاء فيه (كون أخواننا في تنظيم القاعدة مشغولون في الحرب ضد الصليبيين، فقد صممنا على الاهتمام بمهمة تطهير البلاد ـ اي السعودية ـ من أولئك المتعاونين معهم).

ثانياً، إن استراتيجية الرياض لا يمكن لها النجاح دون أن تصنع عدواً لواشنطن. ولذلك، فإنه في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة وبطريقة غير مباشرة توجيه أفراد التيار الجهادي نحو العراق، كما فعلت ذلك في الماضي مع أفغانستان ومن هناك الى مناطق عديدة في آسيا الوسطى ودول شرق آسيا، فإنها ستقوم بإلغاء هذه الجماعات بإشارة واحدة من واشنطن. إنه بلا شك خيط دقيق يجب على الرياض التعامل معه بطريقة ذكية وحساسة، فمن جهة يجب عليها التعامل مع القضايا الايديولوجية التي يثيرها تنظيم القاعدة من أجل تعزيز مكانتها وموقعها محلياً، ولكنها بفعل ذلك قد تخاطر بمضاعفة تحدياتها من خلال خلق عدو خارجي وآخر داخلي في آن واحد.

وبالرغم من كل هذه المخاطر، فإن السعودية كما الحال بالنسبة لباكستان، قد تكون لها أهداف سياسية خارجية يحققها أفراد التيار الجهادي. ولكن بتوجيه الاخير نحو العراق، فإن الحكومة السعودية قد تدخل في صراع وتنافس حاد مع النفوذ الايراني وهكذا الشيعة في العراق.

وعلى أية حال، فإن الاختلافات كبيرة بين باكستان ذات النموذج الاحتوائي للجماعات الجهادية، والسعودية التي تحاول تقليد النموذج. فبالرغم من أن مواطني البلدين ينظرون الى حكومتي البلدين باعتبارهما غير شرعيتين ولكن بدرجات متفاوتة، فإن العناصر الانشقاقية في كليهما منقسمة ليس بخصوص مسائل متصلة ضرورة بالشرعية، بل بالسؤال حول كيف يمكن بناء دولة تطبق فيها الشريعة بصورة أفضل. فالجماعات الاسلامية في باكستان ملتزمة بنظام دستوري من أجل تحقيق أهدافها، ولكن أولئك الذين ينشطون في السعودية فإنهم لا يملكون خياراً آخر سوى اللجوء الى إستعمال القوة.

وعلاوة على ذلك، فإن الحقائق على الارض في البلدين تشير الى إختلاف واضح: فنموذج الاسلام السائد في باكستان يختلف عنه في السعودية، وهذا من شأنه توليد أنماط مختلفة من الجماعات. من جهة ثانية، فإن أكثر الباكستانيين لا يعتنقون المذهب الوهابي، الذي يمثل الرائد الفكري في موضوع الجهاد. ومن الناحية السياسية، فإن السعودية تفتقر الى نظام دستوري يعطي للجماعات صوتاً سياسياً، تماماً كما أنها تفتقر الى جار منافس ـ مثل الهند ـ يدفع بها لتكريس إهتمام الجماعات المسلحة بعيداً عن العاصمة.

ومن الناحية الجوهرية، فإن الحرب هي في قلوب وأذهان كثير من الأفراد الكامنين للتيار الجهادي التكفيري داخل المملكة، وأن غاية ما تقوم به العائلة المالكة هي محاولة كسب أولئك الذين في طريقهم للانضمام الى التيار العنفي وتبني قضيتهم أو إسترجاع بعض أولئك الذين لا صوت لهم، ولكن هذه الصورة التي تحاول الحكومة رسمها من المحتمل أن تؤدي الى فشل جهودها. وإجمالاً، فإن الحكومة لا تملك سوى مساحة صغيرة للمناورة وأنها بإستمالة التيار الجهادي التكفيري نحو مسرح عمليات آخر تمارس لعبة خطيرة.

الصفحة السابقة