التوحش الداعشي تكرار لأسلافهم الوهابيين السعوديين

استراتيجية التغيير لدى داعش الوهابية

نكاية، وتوحش، وتمكين!

خالد شبكشي

أولاً: مرحلة النكاية:

يفرد القاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي (520 - 595هـ) في كتابه (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) مسألة في الفصل الثالث بعنوان (في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو)، وهي تتناول الرؤية الكلاسيكية لموضوعة النكاية بالكفّار قبل أن يطوّرها منظّرو القاعدة لتناسب هذا الزمن.

فقهياً، يقسّم القرطبي النكاية التي يجوز أن تبلغ الكفار على قسمين: نكاية النفوس ونكاية الأموال (يقصد الممتلكات).

وقال: وأما ما يجوز من النكاية بالعدو: فإن النكاية لا تخلو أن تكون في الأموال، أو الأنفس، أو في الرقاب ـ أي: الاستبعاد والتملك..

فأما نكاية الاستعباد: فهي جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين - أعني: ذكرانهم وإناثهم وشيوخهم وصبيانهم صغارهم وكبارهم - إلا الرهبان، فإن قوماً رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا، بل يتركوا دون أن يعرض إليهم لا بقتل ولا باستعباد; لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فذروهم وما حبسوا أنفسهم إليه ". واتباعاً لفعل أبي بكر .

وفي مرحلة النكاية يكون الامام مخيّر في الأسرى: أن يمنّ عليهم، استعبادهم، قتلهم، اخذ الفدية، ضرب الجزية.

ويرى القرطبي بأن النكاية في النفوس تكون بالقتل "ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين"، واختلف بعض الفقهاء في القتل بعد الأسر. ولكن لا يجوز قتل صبيان المشركين ولا نسائهم ما لم يقاتلوا.

وهناك من رأي القتل بالعموم بدون استثناء ذكراً أم أنثى صغيراً أم كبيراً على أساس فهم الآية الكريمة (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ولم يستثن قتلا من قتل. ويضيف القرطبي ومن باب النكاية اتفاق عوام الفقهاء، حسب وصفه، على جواز "رمي الحصون بالمنجنيق، سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء: "أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نصب المنجنيق على أهل الطائف". واذا كان في الحصن أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين، فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق، وبه قال الأوزاعي. وقال الليث: ذلك جائز.

وأما نكاية الأموال فتشمل البناء والحيوان والنبات، فنقل القرطبي عن مالك بأنه أجاز قطع الشجر والثمار وتخريب العامر، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل. وأما الأوزاعي فكره قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك، وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل. (أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار ابن حزم، 1999م ، ص ص 314، 315، 317)

وقد طوّر منظّرو القاعدة مفهوم النكاية ليكون مكوّناً جوهرياً في استراتيجية التغيير التي تصوغها للتمهيد لإقامة دولة الخلافة، بل يعتبرها التنظيم المرحلة الأولى في طريق الخلافة.

يتحدّث أبرز منظري "القاعدة" أبو محمد المقدسي عن استراتيجية التغيير التي يتبعها التنظيم للوصول الى مرحلة التمكين، ويبدأ بما يصفه بـ "جهاد النكاية" انطلاقاً من القسمة التقليدية لعقيدة الجهاد: جهاد دفع وجهاد طلب. والأول يكون للدفاع عن دار الإسلام وحرمات المسلمين في حال تعرّضهم لهجوم خارجي، والثاني يكون بمبادرة القتال ضد الكفار في ديارهم حيث كانوا..

يتجاوز المقدسي تلك القسّمة ليقدّم أبعاداً أخرى لعقيدة الجهاد، ويجترح عنواناً فرعياً تحت إسم "ثمرات الجهاد وآثاره ونتائجه"، ويقيم على ذلك قسمة أخرى: قتال النكاية وقتال التمكين.

ويعرّف المقدسي قتال النكاية من خلال الهدف منه بأنه "التنكيل بأعداء الله"، ويقتصر على مجرد "النكاية في الأعداء وإغاظتهم والنيل منهم وإرهابهم أو كف أذاهم عن بعض المسلمين أو استنقاذ بعض المستضعفين أو فك الأسارى".

واعتبر المقدسي بأن "النكاية في الأعداء" من وظائف ومقاصد حياة العبد المسلم. ويعتبر المقدسي هذا النوع من القتال هو الغالب على قتال المسلمين في زماننا في أقطار في أقطار الدنيا اليوم. ولكن قتال النكاية ليس مطلوباً بحد ذاته بل لابد أن يكون مقدّمة لقتال التمكين الذي هو الأصل في الأمر كله، إذ ليس المطلوب أن يبقى المجاهدون طلاّب قتال وشهادة وليسوا طلاّب حكم، أو أن يتركوا الأمر لمن وصفها المقدسي "الأكثرية المنحرفة".

في مرحلة النكاية تبدو الشروط المطلوبة في المقاتلين والقيادة غير صارمة، و"قد يتساهل في أشياء لا يجوز أن يتساهل بها في قتال التمكين" ومنها اختيار القيادة التي يكتفي فيها بكفاءة القائد العسكري "مع قصوره في العلم الشرعي وقد يتساهل ببعض معاصيه أو انحرافاته التي لا تصل إلى الكفر.."، ولذلك أجاز المقدّسي "القتال مع الأمير الفاجر لدفع الكافر" من باب "دفع أعظم الشرّين أو المفسدتين باحتمال أدناهما..". أما في مرحلة قتال التمكين فالشروط صارمة ومنها أن تكون القيادة "ربانية، موحّدة، عارفة بالشرع، واعية بالواقع، وصالحة للحكم بما أنزل الله".

أبو محمد المقدسي، الوقفة الثانية عشر : بين قتال النكاية وقتال التمكين، منبر التوحيد والجهاد، http://www.tawhed.ws/pr?i=2382

ومن أهداف مرحلة شوكة النكاية والإنهاك:

1- إنهاك قوات العدو والأنظمة العميلة لها وتشتيت جهودها والعمل على جعلها لا تستطيع أن تلتقط أنفاسها وذلك في مناطق الدول الرئيسية المرشحة وغير المرشحة كذلك بعمليات وإن كانت صغيرة الحجم أو الأثر (ولو ضربة عصا على رأس صليبي) إلا أن انتشارها وتصاعديتها سيكون له تأثير على المدى الطويل ...

2- جذب شباب جدد للعمل الجهادي عن طريق القيام كل فترة زمنية مناسبة من حيث التوقيت والقدرة بعمليات نوعية تلفت أنظار الناس، أو ما يعرف بالعمليات التذكيرية، ويقصد بها (العمليات النوعية المتوسطة على غرار عملية بالي وعملية المحيا بالرياض وعملية جربة بتونس وعمليات تركيا والعمليات الكبرى بالعراق) وليس عمليات نوعية على غرار هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي تفضي الى ردود فعل تعطّل "القيام بالعمليات النوعية الأقل منها حجماً". والعمليات النوعية الصغيرة "لا تنتظر مشاورة القيادة العليا لكونها أذنت بها مسبقاً..".

3- إخراج المناطق المختارة - التي أتخذ القرار بالتحرك المُركز فيها سواء كانت كل المناطق المرشحة أو بعضها - من سيطرة الأنظمة ومن ثم العمل على إدارة التوحش الذي سيحدث فيها ... مع ملاحظة هنا أننا قلنا أن الهدف هو إخراج هذه المناطق من سيطرة أنظمة الردة وهو الهدف الذي نعلنه ونعقد النية عليه ، لا إحداث الفوضى.

4- الارتقاء بمجموعات النكاية بالتدريب والممارسة العملية ليكونوا مهيئين نفسياً وعملياً لمرحلة إدارة التوحش (أ.ناجي، طريق التمكين، مصدر سابق، ص10).

ثانياً: مرحلة "التوحّش"

يعرّف الشيخ أبي بكر ناجي، الذي برز كأحد منظري القاعدة بعد العام 2006 مرحلة التوحّش بالقول: "إن المتأمل في القرون السابقة وحتى منتصف القرن العشرين يجد أنه عند سقوط الدول الكبرى أو الإمبراطوريات - سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية - ولم تمكن دولة مكافئة في القوة أو مقاربة للدولة السابقة من السيطرة على أراضي ومناطق تلك الدولة التي انهارت تتحول بالفطرة البشرية مناطق وقطاعات هذه الدولة للخضوع تحت ما يسمى بإدارات التوحش ، لذلك فتعريف إدارة التوحش باختصار شديد هو: (إدارة الفوضى المتوحشة).

ويفرق ناجي بين التوحش والفوضى بأن الفوضى تنطبق فقط على شركة تجارية او مجموعة من الجيران في حي أو منطقة سكنية أو حتى مجتمع مسالم وليس دول تخضع لقانون الغاب بصورته البدائية يتعطش أهلها الأخيار منهم بل وعقلاء الأشرار لمن يدير هذا التوحش.

نشير هنا الى أنه في مرحلة التوحّش قد تسمح الظروف بإقامة ما يشبه إمارة دينية يمكن فيها تطبيق الشريعة، تماماً كما تفعل (داعش)، وكما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرعية حين أقام الشرع. ولكن لا تصل هذه المرحلة الى مستوى إقامة دولة الخلافة وانما هي من امتيازات مرحلة التوحش.

ويفرّق أبي بكر ناجي بين خمس تيارات في الحركة الاسلامية: تيار السلفية الجهادية (القاعدة، داعش)، تيار سلفية الصحوة الذي يرمز له سلمان العودة وسفر الحوالي، تيار الاخوان (الحركة الام..التنظيم الدولي)، تيار إخوان الترابي، تيار الجهاد الشعبي (حماس، جبهة تحرير مورو). في النتائج العملانية يضع ناجي الصحوة والاخوان في خانة واحدة من حيث كونها يلتقيان في هدف مشترك (إنشاء المؤسسات) (أبي بكر ناجي، إدارة التوحّش... أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، مركز البحوث والدراسات والبحوث الاسلامية، د.ت، ص 3).

أما تيار السلفية الجهادية فله مقاربة يعتقد أصحابها بأنها شاملة وتقوم على مراحل ثلاث: الانهاك والتوحش والتمكين..ولكل مرحلة أحكامها وخططها وتكتيكاتها..وسوف نجد أن الوهابية تمثّل المرشّد العام لأحكام الجماعة.

ويعتقد ناجي بأن أول وسيلة من وسائل الاستقطاب في مرحلة (إدارة التوحش) هي إحسان إدارة المناطق التي تحت سيطرة القاعدة. وهناك وسائل أخرى يمكن اعتمادها منها في هذه المرحلة وهي: رفع الحالة الإيمانية ما يسهل استقطاب الناس إلى صفوف العاملين في القاعدة المخاطبة المباشرة، عبر توجيه رسول من التنظيم للإدارة المسئولة عن المناطق المجاورة لدعوتها للدخول في ولاء أهل التوحيد والجهاد، وقد فعلت القاعدة وتنظيماتها وكذلك داعش التي كانت تأمر الناس بالدخول في طاعتها وولائها أو يطالها القتل أو التهجير..(أ.ناجي، إدارة التوحش، مصدر سابق ص 47).

وفي نهاية المطاف، فإن استراتيجية السلفية الجهادية تقوم على رؤية عقدية وهو ما ينعكس على تصوّرها للمعركة "أن معركتنا هي معركة توحيد ضد كفر وإيمان ضد شرك ، وليست معركة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.." (أ.ناجي، إدارة التوحّش، مصدر سابق ص112).

ولذلك يرسم الشيخ أبي بكر ناجي صورة مثالية لمهمات إدارة التوحش، تقوم على:

1- إقامة القضاء الشرعي بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش .

2- نشر الأمن الداخلي والحفاظ عليه في كل منطقة مدارة .

3- رفع المستوى الإيماني أثناء تدريب ورفع الكفاءة القتالية لشباب منطقة التوحش وإنشاء المجتمع المقاتل بكل فئاته وأفراده عن طريق التوعية بأهمية ذلك.

4- العمل على بث العلم الشرعي الفقهي ( الأهم فالمهم ) والدنيوي ( الأهم فالمهم ).

5- توفير الطعام والعلاج.

6- تأمين منطقة التوحش من غارات الأعداء عن طريق إقامة التحصينات الدفاعية وتطوير القدرات القتالية .

7- بث العيون واستكمال بناء جهاز الاستخبارات المصغر.

8- تأليف قلوب أهل الدنيا بشيء من المال والدنيا بضابط شرعي وقواعد معلنة بين أفراد الإدارة على الأقل.

9- ردع المنافقين بالحجة وغيرها وإجبارهم على كبت وكتم نفاقهم وعدم إعلان آرائهم المثبطة و من ثم مراعاة المطاعين منهم حتى يكف شرهم.

10- العمل على الوصول للتمكن من التوسع ومن الإغارة على الأعداء لردعهم وغنم أموالهم وإبقائهم في توجس دائم وحاجة للموادعة.

11- إقامة التحالفات مع من يجوز التحالف معه ممن لم يعط الولاء الكامل للإدارة .

(أنظر: الشيخ أبي بكر ناجي، طريق التمكين، سلسلة مقالات في فقه التغيير، الحلقة الثانية، من سلسلة تحفة الموحدين في طريق التمكين، مركز الدراسات والبحوث الاسلامية، د.ت ص2 ـ 3)

12- ونضيف إليها هدفاً مستقبلياً ألا وهو : الترقي بالموضوعات الإدارية للوصول لشوكة التمكين والتهيؤ لقطف الثمرة وإقامة الدولة (أبي بكر ناجي، طريق التمكين، مصدر سابق ص11)

ويرى ناجي بأن ادارة التوحش جرت مرات عدة وأولها كان بداية أمر الدولة الاسلامية في المدينة. وينظر ناجي الى أبي قتادة الفلسطيني، عمر محمود أبو عمر، (المطلوب في عدّة دول بتهمة الارهاب والذي أعيد الى الاردن من بريطانيا في يوليو 2013)، بأنه من أكثر الاشخاص الذين عالجوا هذا الموضوع في حديثه عن تجربتي نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي في طريقة مواجهة المسلمين للصليبيين عن طريق تجمعات صغيرة، وتنظيمات متوزِّعة متفرقة، فهذه قلعة حكمتها عائلة من العائلات جمعت تحت إمرتها طائفة من الناس، وهذه قرية ارتضوا حكم قائد عالم منهم وجاهدوا معه ، وهذا عالم انتظم معه جماعة من تلاميذه وارتضوا إمامته وهكذا.." تماماً كما يفعل داعش اليوم حيث يقيم شرعه كلما فرض سيطرته على منطقة أو قرية..ويرجع أبي بكر ناجي الى كتاب "الاعتبار" للأمير أسامة بن منقذ، في القرن الثاني عشر الميلادي وقد عاش بن منقذ مرحلة الحروب الصليبية وتنقل بين بلاد الشام ومصر وتركيا والعراق..ومن يتأمل في محتويات الكتاب وتفاصيل تجربة بن منقذ العسكرية والاجتماعية يجد أن ثمة فصولاً من التاريخ يعاد كتابتها على يد تنظيمات القاعدة وداعش في سوريا والعراق..

بينما أبو محمد العداني يعطي توصيفاً خاصاً للدولة. ويقول في كلمته (العراق العراق يا أهل السنة): "فليعلم القاصي والداني والشرق والغرب أننا أقسمنا وعزمنا أنَّه بغير دولة الإسلام لا أمان ولا سلام لا في العراق ولا في الشام ولا مصر ولا الجزيرة ولا خراسان ولا في الشرق ولا في الغرب، لن نساوم ولن نسالم, لن نفاوض ولن نقايض، فشرع الله لا يُحكّم إلا بالسيف ولا يقوم إلا على الشوكة والقوة".

إنها بكلمات أخرى دولة حرب، وليس استقرار وتنمية، دولة تعيش على النزاعات مع الدول الأخرى، بل وعلى القطيعة والخصومة معها، فهي تريد أن تحكم بالسيف لتطبيق الشرع!. هكذا يخبر قادة "الدولة" الذين أكّدوا مراراً أن لا خيار أمامهم في العلاقة مع الآخر سوى المقاتلة، وأنهم لن يلتقوا مع الأطراف الأخرى الا تحت ظلال السيوف

ففي سياق استكمال أبو عمر البغدادي مهمة الدولة الاسلامية كما يفهمها قادة (داعش)، يعيب على ما جاء في البرامج السياسية لبعض الجماعات المسلّحة العراقية بأن من أهدافها إعادة المهجّرين الى مناطق سكناهم وتعويضهم عما لحق بهم من أضرار مادية ومعنوية وتأمين الحماية للازمة لهم، فيعلّق قائلاً:

“وهذا إطلاق يلزم منه إعادة المهجرين الأيزيدية عبدة الشيطان إلى مدينة الموصل ومن قتل منهم في زمن الحرب ثأراً لأعراضنا يتم دفع ديته وأضعاف أضعاف ذلك تعويضاً معنوياً، ليس ذلك فحسب بل من يتعرض لهم يقاتل ويباح دمه ولو كان مجاهداً قائماً بأمر الله فحسبنا الله ونعم الوكيل”!

يقال هذا الكلام عام 2007، وما يقوم به مقاتلو "داعش" في الموصل وقرقوش وغيرهما في عام 2014 هو التزام أمين برؤية واستراتيجية محدّدة يتبعها تنظيم "الدولة".

ويسهب أبو عمر البغدادي في نقد تلك الجماعات وتخوينها لأنها ذكرت من بين أهدافها إقامة علاقات حسنة مع دول العالم مبنية على المصالح المشتركة، وبهذا تكون قد أسقطت جهاد الطلب بحسب قوله م من برنامجها السياسي، وقال:

“وجهاد الطلب هو قصد الكفار المرتدين بالغزو في عقر دارهم إعلاءً لكلمة الله وحتى لا تكون فتة ويكون الدين كله لله، قال الشوكاني في السيل الجرَّار: "أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية وما ورد في موادعتهم أو تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين". (أبو عمر البغدادي، (فأما الزبد فيذهب جفاءً)، موقع النخبة، بتاريخ 4 ديسمبر 2007).

أما العدناني فقال في كلمته (فذرهم وما يفترون): "أو ما علم القاصي والداني أننا لم نتصالح مع أيٍ من الحكومات.."(أبو محمد العدناني، كلمة "فذرهم وما يفترون"، المنبر الاعلامي الجهادي، مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، بتاريخ 9 إبريل 2013).

وكان أبو حمزة المهاجر، أمير "القاعدة في بلاد الرافدين" قبل أن يبايع أبو عمر البغدادي والانضمام الى "الدولة الاسلامية في العراق" نفى في (الدولة النبويّة) ما قد يتوارد للأذهان من إنطباع حول مفهوم الدولة الاسلامية بأنها مشابهة للكيانات الجيوسياسية التي نشأت بعد معاهدة سايكس بيكو. وأما أبو محمد العدناني في كلمته (فذرهم وما يفترون) اعتبر تلك الحدود المرسومة على أساس اتفاقية سايكس بيكو هي غير ملزمة للدولة وأن "الإسلام أتى للدعوة والانتشار.."يضرب مثالاً على ذلك من التاريخ الاسلامي: ولقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يحركون الجيش والقادة بين العراق والشام ولا فرق بين الجيشين , وهذا ما نفعله الآن من تحريك قطاعاتنا و قاداتنا وعدم التفريق بيننا ".

ويقول العدناني، متحدّث "الدولة"، في كلمته (السلمية دين من؟): "لن نرضى بنظامٍ أو دولةٍ لا تحكِّم شرع الله، ولو كان الدين تسعاً وتسعين بالمئة لله فلن نرضى ولن نقنع، ولنسعِّرنّ القتال ولنقاتلنّ جيوش الأرض حتى يكون الدين مئةً بالمئة كله لله في جميع أرض الله, ولتجتمع علينا أمم الأرض قاطبة". وقال في كلمته (لـن يضرّوكم الاّ أذىً): ولتعلموا أن بينكم وبين دولة لا تحكم بشرع الله في الشام: بحار من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء، ولن تحلموا بأمن ولا أمان، وإنّا لكم إن شاء الله بالمرصاد حتى يحكم الله بيننا؛ فإما أن ينعم المسلمون في العراق والشام بعدل الشريعة ورحمة الإسلام، وإما أن نُباد عن بكرتنا ، وهيهات هيهات".

وفي هذه الكلمة بيان صريح عن العقل الذي يدير هذا التنظيم ومشاريعه، حيث يتحول الى جماعة انتحارية أو يقيم دولة الشريعة.

ومن الأمثلة على إدارة التوحش، ما نقله ناجي عن الشيخ عبد الله عزام قيام مئة رجل مسلم بإدارة منطقة جبلية بين ما يعرف بايطاليا وفرنسا الآن وفرض ما يشبه الجزية على ما يجاورها من المناطق واستمر ذلك فترة من الزمن . (أ.ناجي، طريق التمكيّن، مصدر سابق ص5).

ويذكر من بين الحركات التي أقامت إدارات للتوحش وما يشبه دولة لفترة من الزمن حركة الإمام السيد التي جددت دعوة التوحيد والجهاد بالمربع السني في منطقة الهند وكشمير وباكستان وأفغانستان وعلى الرغم من عمر هذه الحركة ككيان استمر فقط من بداية القرن التاسع عشر إلى بعد منتصفه بقليل إلا أن تأثيرها ممتد حتى الآن ، بل إن ما قامت به من أعمال ضد الإنجليز وغيرهم يعتبر مصدر إلهام لحركات الجهاد في كشمير والهند وأفغانستان ، ويرجح ناجي أن يكون امتداد بقاياها كان له أثر قوي في انفصال باكستان عن الهند في منتصف القرن العشرين ، بل إن رجال الجهاد الأفغاني مازالوا يستلهمون العبر من سيرة ذلك الشخص، كيف لا وجبال أفغانستان عرفها وعرفته.

ويعتقد أبي بكر ناجي بأن إدارة التوحش بدت صعبة بعد مرحلة سايكس بيكو، واستقرار النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وبروز الدولة القطرية حيث "أصبح من الصعب إقامة مثل هذه الإدارات.."، ومع ذلك يؤكد بأنه بالرغم من ذلك كله " قامت العديد من إدارات التوحش خاصة في الأماكن التي تبتعد عن المركز وتتيح ظروفها الجغرافية والسكانية تسهيل ذلك". مثل الفصائل المقاتلة في أفغانستان في مراحل الجهاد الاولى، وحركة أبي سياف، وجبهة تحرير مورو بالفلبين، وحركات الجهاد بالجزائر، وسوف يضيف اليها في زماننا الحالي جماعة بوكو حرام في نيجيريا، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال وهما من فصائل تنظيم "القاعدة".

ما يلفت ان أ. ناجي يعتبر حماس والجهاد الاسلامي في فلسطين والجماعة الاسلامية في مصر في فترة التسعينيات والجماعة المقاتلة في ليبيا ومن يشابههم لم يصلوا بعد الى مرحلة التوحش، بل هم في مرحلة (شوكة النكاية والانهاك) بشرط أن تكون هذه الحركات تسعى للوصول الى مرحلة التوحش.. "وإلا فإن بعض مجموعات النكاية تقوم بالنكاية دون أن تضع ذلك في حساباتها، وأحيانا تقوم بالنكاية لإضعاف دولة لحساب دولة أخرى أو قوة أخرى ستتسلم حكم الدولة المُنهكة أو أرض التوحش وتقيم مكانها دولتها دون المرور بمرحلة إدارة التوحش".؟

الدول المرشحة كمجموعة رئيسية، والتي رشّحتها القاعدة باعتبارها دولاً ينبغي التركيز عليها بعد التحقق من: استعداد أهلها للتحرك وقد أجريت بعض التعديلات على مجموعة المناطق الرئيسية على أن يتم استبعاد دول وضم أخرى من بينها السعودية ونيجيريا ولكن أصبحت هاتان الدولتان ضمن المجموعة الرئيسية وهي: الأردن وبلاد المغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن. لم تكن سوريا من بين الدولة المرشّحة ولا لبنان أو حتى العراق ما قد يثير أسئلة حول أسباب التغيير في الخارطة، وهل هي نتيجة إعادة تقييم أم لدخول القاعدة وداعش على الخط أم لأسباب أخرى. توضح ذلك الروابط المشتركة بين دول المجموعة الرئيسية والتي يمكن أن تحدث فيها مناطق توحّش وهي:

1- وجود عمق جغرافي وتضاريس تسمح في كل دولة على حدة بإقامة مناطق تدار بنظام إدارة التوحش .

2- ضعف النظام الحاكم وضعف مركزية قواته على أطراف المناطق في نطاق دولته بل وعلى مناطق داخلية أحيانا خاصة المكتظة.

3- وجود مد إسلامي جهادي مبشر في هذه المناطق.

4- طبيعة الناس في هذه المناطق، أي وجود بيئة حاضنة لمشروع الجهاد في مرحلتي التوحّش والتمكين.

5- كذلك انتشار السلاح بأيدي الناس فيها (أ. ناجي، طريق التمكين، مصدر سابق 8 - 9).

الصفحة السابقة