داعش.. الحلم الوهابي!

عبد الوهاب فقي

عوامل عديدة ساهمت في اختراق «داعش» للوعي الشعبي الوهابي أولاً، والاسلامي السنّي ثانياً، ولكن نجاح التنظيم يعود الى أسباب جديرة بالإلتفات وهي:

أولاً: الحملة الإيمانية التي بدأت في نهاية التسعينيات من القرن الماضي بقرار من الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وفي مقال للكاتبة والاعلامية السورية ثناء الإمام من بغداد نشر قبل شهر من إعلان الحرب الاميركية على العراق، ملاحظات هامة حول انعكاسات الحملة الإيمانية على الشارع العراقي. فقد سلّطت الإمام الضوء على انتشار «ظاهرتي الدين، والتسلّح بين المواطنين العراقيين”.

في الظاهرة الدينية، تتحدث الإمام عمّا يشبه الانقلاب في البنية السيكولوجية العراقية «فمن عرفوا بحب الحياة والكحول، باتت غالبيتهم متدينة على ايقاع احباطات الفقر وريث الحصار»، والسبب يعود الى الحملة الايمانية التي فرضتها القيادة السياسية العراقية، ودفع بها صدام حسين شخصياً، وتبناها حزب البعث الحاكم.

ومن آثار تلك الحملة بناء القيادة العراقية مئات المساجد في بغداد في السنوات العشر الأخيرة التي سبقت سقوط النظام، كما صدر قرار رسمي بمنع الكحول في المطاعم والفنادق، كما حورب البغاء بصورة رسمية وبقسوة عام 2000. كما تحدثت الاعلامية عن ظاهرة الحجاب حتى في شوارع العاصمة.

تلفت ثناء الإمام الى التجليات الدينية في الشارع العراقي للحملة الايمانية «فاالعراقيون مدفوعون باحباطات الحصار لجأوا الى التدين فعلاً»، وقالت أن أكثر من 70 في المئة منهم باتوا مصلين وفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة “النهار” البيروتية في الشارع، وشمل التدين النخبة السياسية والثقافية.

أما ظاهرة التسلّح، بحسب الإمام، فهي ليست وافدة، ولكن الحملة الأميركية على العراق «ساهمت أكثر في تسليح المواطنين سواء بقرار شخصي أم بتموين رسمي». وتسجّل ثناء الإمام مشاهداتها في العاصمة وتقول: «واذا تجوّلت في شوارع بغداد، تجد بين الفينة والأخرى رجلاً يحمل السلاح في يد، وفي الأخرى لوازم بيته، وكأن حمل السلاح ثقافة مسموح بها، بل موضع ترحيب هنا». ونقلت عن مواطن عراقي يعمل حارساً قوله باللهجة العراقية: «ماكو بيت عراقي ما في سلاح... الكل مسلح”.

تضع الإمام ذلك في سياق سياسة العسكرة التي تبناها النظام السابق في إطار بناء ما أسماه «جيش القدس»، حيث ينتمي سبعة ملايين مسلّح لذلك الجيش الذي تأسس عقب انتفاضة الاقصى «ويضم عناصر بعثية ومتقاعدة ومستقلة، والجميع مدربون على السلاح».

غابت حركات الإسلام السياسي أو غُيّبت فكان البديل الحلم: داعش

تخلص الامام من مشاهداتها الى نتيجة دقيقة وفي غاية الأهمية، هي أن «المشهد كله في إطار الظاهرتين ـ التدين والتسلّح ـ يبدو مرعباً، وخصوصا في ضوء سيناريوهات ما بعد الضربة، والوضع الامني الذي ستشهده البلاد».

ثانياً: التقاء مصالح فلول النظام العراقي السابق، والمشروع القاعدي العابر للحدود، والإحساس المستبد بالخسارة التاريخية للسلطة من قبل الأقلية العربية السنيّة.

في التفاصيل، يمثل «داعش» خليطاً من عناصر مسلّحة في الجيش العراقي، سنيّة بدرجة أساسية، كانوا يعملون تحت أوامر صدّام حسين، ولكن عادوا بأسلحتهم الى بيوتهم بلا مصير، ولا أفق في الحياة، نتيجة قانون «اجتثاث البعث»، والتقى معهم ساخطون من الإسلاميين القاعديين، والجماعات الدينية السنيّة بعد سقوط النظام عام 2003، ليشكلوا قوة عسكرية وازنة.

وبرغم من الحديث عن إحتمالية الصدام بين أنصار النظام السابق والاسلاميين المحليين والاجانب، إلا أن «داعش» نجح، حتى الآن على الأقل، في أن يطمس الخلفيات الفكرية لقادته الكبار، وأن يتظاهر بعضهم بالتحوّل نحو الاسلام السلفي، لتحقيق التوافق التنظيمي، والانسجام الفكري داخل التنظيم. يعيد هذا الإجراء الماكر الى الذاكرة، الخلاف الذي نشب حول مسيحية قائد حزب البعث، ميشيل عفلق، فجرت معالجة الخلاف بدعوى تحوّله الى الاسلام، وكتابته عن الاسلام ورسول الاسلام بطريقة تمجيدية، وإن لم ترض الإسلاميين الأمميين؛ وكذلك حديث عفلق عن البعث السنّي بطريقة مواربة.

لابد من الفات الانتباه الى هامش الخطأ في التحليل، فثمة في ضباط وعناصر النظام السابق من تحوّل الى التدين عن قناعة، بعد أن وجد فيه ملاذاً آمناً ومخرجاً لأزمة الهوية، والدور، والمصير الذي عانى منه كثيرون بعد سقوط النظام.

ثالثاً: الإحباط السنّي في العراق إزاء ما تعرّض له من انتكاسة تاريخية بعد سقوط النظام وتداعياتها اللاحقة، حيث نجحت خطة الزرقاوي، جزئياً على الأٌقل، في إشعال نزاع طائفي سني شيعي، وانعكس على أوضاع السنّة في بعض المدن الكبرى، والعاصمة على وجه التحديد، حيث هرب عدد كبير من العوائل السنيّة من العاصمة بعد انفجار العنف الطائفي. وبحسب برقية أميركية بتاريخ سبتمبر 2007، فإن أكثر من نصف أحياء بغداد تسكنها الآن أغلبية شيعية واضحة، في وقت فشلت فيه الحكومة المركزية في اعتماد سياسة إدماج وطني شامل، وبذلك تمكن داعش «من استغلال الحس المتنامي بالتغريب والاضطهاد بين صفوف السنة في العراق».

رابعاً: فشل الدول السنيّة، وكذلك الجماعات الإسلامية في المجال السنّي بصورة عامة، وفي المجال السلفّي الوهابي بوجه خاص، في صنع «نموذج» يعوّض الخسارة المعنوية على مدى عقود، وينسحب الفشل الى تنظيم «القاعدة» في تحقيق اختراق ما في أي من الدول التي تواجدت فيها.

خامساً: الخطاب الجهادي الوهابي الجاذب لجماعات عديدة، كانت تبحث عن خطاب واضح يرتكز على رؤية دينية مستمدة من مرجعية محدّدة. إذ ليس هناك من يشكّك في إخلاص «داعش» للعقيدة الوهابية الأصلية وتجسيده لتعاليمها.

سادساً: اختيار المناطق الرخوة والسهلة الاختراق في المواجهة. ففي العراق اختارت مقاتلة الشيعة اكثر من مقاتلة القوات الأميركية، وهذا ما شجّع حكومات خليجية وكثيراً من المشايخ الوهابيين على دعمها وتمويلها، الى أن تمدّد التنظيم الى سوريا، ودخل في معارك مع الجماعات المسلّحة المنافسة لها مثل (جبهة النصرة، والجبهة الاسلامية، والجيش الحر)، وكان داعش يرى بأن حماية ظهره، وتمهيد الأرض، وترسيخ الأقدام.. مقدّمات واجبة قبل الدخول في مواجهة مع النظام السوري.

سابعاً: امتلاك التنظيم لإمكانيات ضخمة، سواء عبر التبرعات التي حصلت عليها، أو عبر السيطرة على مناطق استراتيجية تضم حقول نفط وغاز، أو حتى وضع اليد على أموال الدولة، كما حصل في الموصل، وكذلك فرض الأتاوات بعناوين شتى (الزكاة، الجزية، الفدية..الخ)، إلى جانب سيطرته على مخازن سلاح وعتاد بكميات كبيرة ومتطوّرة في كل من العراق وسوريا.

ثامناً: استغلال التناقضات الإقليمية والدولية. إن وجود صراع قوى، وتنازع دولي على مناطق النفوذ، واستغلال الجماعات المسلّحة لخدمة هذه الأجندة وتلك.. سمح للتنظيم بأن يتمدد، في ظل وجود أطراف مستعدّة للدعم وتوفير الغطاء، والصمت إزاء انتهاكات التنظيم. وليتخيّل المرء انه لو توافقت الدول الإقليمية وبدعم دولي جماعي إغلاق الحدود، ومنافذ العبور والتسلل، وطرق الإمداد حول المناطق التي يسيطر عليها «داعش»، ماذا ستكون النتيجة؟

تاسعاً: إن تعمّد إفشال تجربة الاخوان المسلمين من قبل السعودية والامارات، وبالتواطؤ مع حكومات غربية، أسقط الامكانية النظرية لبديل «الاعتدال السنّي»، ودفع كثير من التكفيريين للإنضواء في مشاريع راديكالية وعنفية. في واقع الأمر، كان يمكن استيعاب خطر التكفيريين من التنظيمات السلفية، سواء القاعدة أو داعش، واستقطاب «الحماس» الشعبي السنيّ، عن طريق تطوير تجربة حكم دينية ديمقراطية في المجال السنيّ.

بكلمة مكثّفة، أفضى انهيار تجربة الاخوان المسلمين الى صعود السلفية المتطرّفة، بل وعزّز من جنوح جماعة الاخوان المسلمين نحو التسلّف والتطرف والعنف، في سياق شيطنة واسعة النطاق لكل ما هو إسلام سياسي سنّي.

عاشراً: ومن زاوية مذهبية صرفة، تلامس عصباً رئيساً في الوجدان الشعبي السني، فالمسلم السنّي شهد هزيمة الدول السنيّة على مدى العقود الثلاثة الأخيرة، فيما كان المسلم الشيعي يحقّق الانجاز تلو الآخر على مستوى الدولة (إيران)، وعلى مستوى الحركات (حزب الله)؛ وكان انتصار تموز (يوليو) 2006 على الكيان الاسرائيلي وجيشه الذي لا يقهر، فجّر أزمة كامنة، كان المجتمع الوهابي أول من عبّر عنها من خلال فتاوى ومقالات ومواقف ذات طبيعة طائفية. في العمق، كان شديد الاعجاب بالصمود العسكري الذي أظهره حزب الله في المعركة، ولكن الخلفية المذهبية التي تربى عليها عناصر هذا المجتمع الوهابي جعلته يتصرف بطريقة مناقضة.

في حقيقة الأمر، كان الوهابي يحلم بأن يكون ما جرى في حرب تموز انتصاراً سنيّاً وليس شيعياً، فكانت الأزمة السورية بمثابة المكافأة التي كان ينتظرها المجتمع الوهابي، كي يسحب الرصيد الشعبي من حزب الله.

الربيع العربي كان يمكن أن يملء الفراغ في الوجدان السنّي، عبر قيام حكومات شعبية وذات طابع إسلامي، وكان الاخوان بديلاً سنيّاً مرجّحاً لملء الفراغ ذاك، ولكن الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها الجماعة، ومؤامرة النظام السعودي وأنظمة عربية وخليجية على اسقاط تجربة الاخوان، أوجد فراغاً جديداً في المجال السنّي، فتحوّل داعش الى ضرورة سنيّة، ونجح بسرعة فائقة في ملء الفراغ، ولا غرابة أن يحظى داعش بقبول غير قليل في المجال السنيّ رغم ارتكاباته الدموية، فالتراكمات السابقة أوصلت الى خيارات هلاكية مثل داعش.

في النتائج، تحوّل داعش الى «المنقذ» و»المخلّص»:

أولاً: لأولئك الذين ناضلوا من داخل المجال السني لإعادة إحياء الهوية الممزقة نتيجة تشابك عوامل سياسية وثقافية وعولمية وامبريالية، واستعادة المبادرة التي سرقت من الشعوب الاسلامية، من قبل دول متماهية مع المشروع الغربي، الذي أدى الى هدم سقف التوقعات الكامنة لدى هذه الشعوب حين جاءت الفرصة المناسبة، أي الربيع العربي.

ثانياً: لأولئك الذين عملوا داخل المجال الوهابي، من أجل ترسيخ الأسس الدينية وفق التفسير الوهابي الذي قامت عليه الدولة السعودية، فكان «داعش» بمثابة الملاذ الآمن لتوقعاتهم المحبطة، وصانع الأحلام الوهابية في المنطقة، وفي لحظة ما بالغة الحساسية تحوّل الى الرهان الرئيسي الذي يعوّل عليه أتباع المذهب الوهابي في المملكة، وازداد الرهان رسوخاً بعد صدور الأمر الملكي في 3 شباط (فبراير) 2014 بتجريم المقاتلين السعوديين في الخارج، حيث بات (داعش) مركز الاستقطاب والحاضنة والوعاء الذي يستوعب المنبوذين من التنظيمات المسلّحة المدعومة من السعودية بعد أن تخلت الأخيرة عنها، ثم تحوّل (داعش) الى خيط الأمل الذي يعقده التيار الوهابي العام عليه.

سوف يظهر من خلال التأمل في الرؤى الدينية وترجماتها الميدانية لدى (داعش)، أنه يمثّل الوراث التاريخي والشرعي لجيل الجهاديين الذي تربى على تعاليم محمد بن عبد الوهاب، والمتناسلين منه مثل جيش الإخوان.

وفي محاولة لإعادة جمع مكونات الواقع التاريخي الذي نشأت فيه الحركة الوهابية، وفهم العلاقة الايديولوجية بغاياتها السياسية التي تربط تنظيم «داعش» بتلك الحركة، سوف نحاول قراءة أهم المفاصل الرئيسية التي أرست علاقة متينة بين عناصر جماعة مغلقة محثوثة بأيديولوجية الفتح.

الصفحة السابقة