اللقاء الوطني من ثمار النشاط الاصلاحي العام

دور التيار الاصلاحي في المرحلة القادمة

مهما بلغ الاختلاف أو حتى المعارضة إزاء اللقاء الوطني للحوار الفكري في دورتيه الاولى والثانية، فسيظل علامة فارقة في تاريخ هذا البلد. إن هذا اللقاء، وفي الحد الأدنى لتقييم دوره ووظيفته وأهدافه، يعكس رأسياً المنهج العام الذي نشأت عليه الدولة والسيرورة العامة التي حكمتها طيلة عقود طويلة، فلأول مرة في تاريخ السعودية يلتقي المختلفون من كافة المذاهب الدينية والتيارات الفكرية والسياسية تحت سقف واحدة وعلى طاالة واحدة ويتحاورون في أشد الموضوعات حساسية بعد أن كانوا بالأمس يتراشقون التهم ويتقاذفون الأحكام الاستئصالية على قاعدة دينية. إنهم يلتقون الآن بعد أن جاء حصاد الشقاق والتمزق شديد المرورة، بل أنتج ما فيه هلاك الجميع، ووضع البلاد والعباد على حافة الهاوية السياسية.

قال البعض بأن اللقاء كان إنقاذاً للدولة من أزمتها، وليكن كذلك وهو تحليل صحيح، ولكنه أيضاً إنقاذٌ للمجتمع من فتن كان للدولة اليد الطولى في صناعة ظروفها من خلال هذا الشياع الواسع لفكر الغلو والتطرف، الذي لحق أذاه الجميع في الداخل والخارج. لقد سمح اللقاء للمشاركين فيه نقل ما يختلج في نفوس الغالبية المتضررة من الشعب وأن تبوح بأفكارها وأن توصل صوتها المغمور لعقود طويلة من أجل طمس معالم الغلو والتشدد واستبدالها بقيم الاعتدال والتسامح والتعددية، تلك القيم التي بات الجميع ينشدها بعد أن بلغ التشظي في الجسد مستوى خطيراً ينذر بتذرر أشلاء الدولة والمجتمع سواء بسواء.

لتأخذ الدولة من اللقاء الوطني ما تعتقد بأنه إنقاذٌ لها من ورط سياسية وأمنية وايديولوجية محدقة بمركز السلطة، ولكن ما تأخذه هذه المرة لن يكون بلا ثمن، فاللقاء ليس ثمرة جهد فريد للدولة وحدها، بل هو تظافر جهود ساهم فيها رجال الاصلاح من مفكرين ورجال علم وعمل وأدب وصحافة ممن اضطلعوا بنشاطات إصلاحية طيلة عقود من الزمن بغية تصحيح الاعوجاج في مسيرة الدولة، والدعوة الى وطن يضم الجميع بكافة فئاته وأطيافه ويستوعبهم في عملية إدماج وطني حقيقي ومتكافىء.

إن هذا اللقاء كان ضرورة أولاً وأخيراً وليس خياراً، وإن الدولة لا حسنة لها فيه، فقد تلاشت قائمة الخيارات من يد الدولة، ولم يعد أمامها الآن سوى قائمة الضرورات، وفي الضرورات يصبح الواجب وحده مطلوباً دون سواه، أما زمن الخيارات فقد أدبر منذ تباطأت الدولة عن إستثماره بصورة صحيحة إعتقاداً منها بأن الزمن كفيل بحل الازمات المستفحلة بالدولة، تماماً كما كان يحصل فيما مضى من سالف العقود، وغفلت عن حقيقة أن مصادر التعويض قد نضبت، وأن الأزمات قد أوصلت الدولة والمجتمع الى عنق الزجاجة، ولم يعد هناك ما يحول دون الخروج منها سوى بالتوسل بالأقصى من قرارات الضرورة التي بواسطتها تنقذ ما بقي من رصيد ومصداقية وأخيراً البقاء على قيد الحياة.

إن زعم البعض بأن اللقاء الوطني صنع واقعاً جديداً يحاول بقصده أو خلافه نفي التحوّلات الاجتماعية والسياسية والفكرية الواسعة التي شهدتها البلاد طيلة السنوات القليلة الماضية، والصحيح أن اللقاء كان إحدى افرازات لواقع صنعته التحولات تلك وهو تمظهر لها بالدرجة الأولى. فالدفع الدؤوب والمتواصل من قبل الطيف السياسي والفكري الواسع في المجتمع لجهة إصلاح الاوضاع العامة في البلاد أملى على الدولة منهجاً جديداً في التعاطي مع مشكلات ليس بالامكان مقاربتها بطريقة كلاسيكية نمطية، أي أنه فرض على القيادة السياسية طريقة في تشخيص الواقع القائم وآلية المعالجة، وليس الحوار الفكري سوى إحدى مفردات الاجندة الاصلاحية التي وردت في عرائض التيار الاصلاحي العام في البلاد.

لا يستدعي، والحال هذه، القول بأن مسيرة الاصلاح يجب أن تتوقف عند نقطة الحوار الفكري، بل أن الاخير يمثل فاتحة ضرورية لعملية إصلاحية واسعة النطاق ولابد أن تكون متفمصلة على كامل رقعة الدولة. إن هذه العملية تتطلب بالضرورة وقوداً شعبياً كافياً وزخماً اعلامياً متصلاً ونشاطاً سياسياً متنامياً من أجل كسر الجمود الذي عاشته الدولة طيلة سنوات ماضية وحرمت الجميع من التوصل الى مرحلة هي الآن تعيشها واقعاً مفروضاً، أي دون إرادة منها، وكان بالامكان أن تعبر اليها منذ زمن بعيد، وأن تعيش الآن مرحلة متطورة عوضاً عن الانشغال في إعداد تصاميم مرحلة متأخرة عن خط الاصلاح العام لمرحلة يفترض أنها استكملت شروطها وظروفها وغاياتها. بكلمات أخرى، أن ما تشهده البلاد حالياً من تبرعمات لمؤسسات مجتمع مدني (نقابية بالدرجة الأولى) وانبثاق مشروع اللقاء الوطني للحوار الفكري، واستهلالات لحركة سياسية وطنية هي عناوين مرحلة سابقة، الامر الذي يتطلب دفعاً سريعاً من أجل استكمال خطواتها لولوج مرحلة الاستحقاق والاعمار السياسي الفعلي، قبل أن تطوي المرحلة اللاحقة ما يجري الاعداد له الآن، لأن معضلات الدولة بالغة الخطورة، وأن حاجات الناس وتوقعاتهم شديد الالحاح، ولا يمكن الانطلاق نحو حل لا يأخذ في الاعتبار هذين الحدين.

صحيح أن اللقاء الوطني عقد تحت مضلة الدولة ورعايتها، ولكن الصحيح أيضاً أن الواقع القائم في البلاد قد ضغط بشدة على إتجاهات الحوار وموضوعاته ثم جسّدته واقعاً توصيات اللقاء الوطني، التي جاءت كوصلة غير متناغمة أو منسجمة مع عنوان اللقاء وربما الغاية من أجله، كما أرادت السلطة السياسية منه، فقد كانت توصيات المشاركين في اللقاء الوطني الثاني أشبه ما تكون برجع الصدى لعرائض التيار الاصلاحي العام، وهي ترديد لكافة البنود الواردة في عريضتي (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) و(دفاعاً عن الوطن) وما تلاهما من عرائض.

إن ما تلفت اليه توصيات اللقاء الوطني الثاني أن سقف التطلع الاصلاحي بات متساوياً لا يختلف عليه أحد بمن فيهم القريبون من السلطة نفسها، الى حد بات معه هذا التطلع يتردد ويفرض نفسه داخل أنشطة الدولة، أي أن المطالب الواردة في عرائض التيار الاصلاحي الوطني لم يكن بالامكان تجاوزها وإغفالها، فقد أصبح الاتفاق عليها ظاهراً وواضحاً حتى وإن لم يسهم المشاركون في اللقاء الوطني في إعدادها وصياغتها ورفعها للقيادة السياسية. بمعنى آخر، أن الاجماع الوطني لم يعد مقتصراً على موضوعة الاصلاح السياسي، بل شمل أيضاً مفردات الاصلاح وآلياته والمدد التي يجب أن تستغرقها العملية الاصلاحية الشاملة، وهذا شيء ربما لم يلفت الانتباه اليه في غمرة الضخ الدعائي الكثيف الذي تقوم به الدولة في ترويجها لمشروع اللقاء الوطني.

وهذا يدعو مرة أخرى رجال التيار الاصلاحي الوطني من كافة الطيف السياسي والفكري في المملكة لمواصلة جهودهم الاصلاحية التي باتت ثمارها واضحة للعيان، وأن يرفعوا من وتيرة النشاطات الاصلاحية المشتركة من أجل تعزيز الواقع القائم ورسم خط عملي للدولة والمجتمع للبدء بتنفيذ بنود الاجندة الاصلاحية. فليست الدولة وحدها العامل الوحيد الذي يحكم التحوّل السياسي، بل هناك قوى تغيير في المجتمع لابد أن تنخرط بصورة كثيفة في عملية التحوّل تلك، مع التذكير دائماً وأبداً بأن للدولة رؤيتها في الاصلاح وأهدافها منه ورجالها الذين تعتمد عليهم في إدارة مجرياته بطريقة تحفظ لها مصالحها وتحد من تأثيراته والخسائر الناجمة عنه، في المقابل، إن للمجتمع رؤيته وأهدافه ورجاله الذين يعوّل عليهم في تحقيق تطلعات كافة فئات المجتمع من العملية الاصلاحية الشاملة. إن التجارب السابقة تنبّه وتحذِّر الى أن الدولة ليست على إستعداد لبلوغ مستوى التطلع الشعبي العام، وبالتالي فهي تسعى لبذل القليل من أجل جني الكثير، هذا إن كان القليل يحقق ابتداءً الحد الادنى من حاجات الناس. إن المرحلة الراهنة بما تحمل من أزمات شاملة وعميقة لا تقبل حلولاً على هيئة (شرهات مقطوعة) أو تسويات سطحية، أو مسكّنات مؤقته، فالاصلاح الشامل والفوري بات عنواناً عريضاً للتغيير يتفق عليه الجميع من أقصى الغرب الى أقصى الشرق. وهذا ما تعكسه العرائض، ومنتديات الحوار العامة والخاصة وصفحات الجرائد المحلية، واخيراً اللقاءات الفكرية، أي ان الحديث هنا لا يدور عن احتناكات سياسية يتم الترويج لها من قبل قوى مغرضة، بل هو موقف شعبي وطني عام.

دور المجتمع في مقابل السلطة

إن ثمة مناخاً سياسياً وثقافياً جديداً تعيشه البلاد منذ أكثر من عام، يترافق مع تحولات كبرى على مستوى منطقة الخليج، والعالم عموماً، وأن ما كان يرتجى من العائلة المالكة القيام به من أجل الافادة من المناخ الجديد ووضع البلاد على سكة الاصلاح السياسي قد تلاشى وهذا عطّل الاحساس العام بقدرتها على الاضطلاع بدور من هذا القبيل، مما فرض على قوى التغيير الاجتماعي أن تعيد تشكيل نفسها في إطارات أوسع، في عملية لملمة عفوية مدفوعة بالحاجة الى بناء جبهة وطنية تكون قاطرة للاصلاح في السعودية. ولاشك أن الاستجابات الفاترة والمتلكئة والمماطلات الساذجة أحياناً من قبل القيادة السياسية كانت تدفع غالباً باتجاه تعزيز خيار العمل الوطني المشترك لتكثيف الضغط من أجل ازالة الانسدادات الحاصلة في رأس السلطة، ومرور القرارات التاريخية المنتظرة وتجنيب البلاد كارثة محققة.

إن تأسيس مركز للحوار الوطني يمثل بداية صحيحة ولكنها تبقى في نهاية المطاف خطوة ناقصة، إذ ان الطرف الآخر من الحوار الوطني مازال غائباً، وهو المجتمع. إن الهدف من الحوار يكمن في وضع تصورات لمشكلات المجتمع مع الدولة، ولذا فإن اللقاء يجب أن يبدأ على مستوى المجتمع كيما يحقق أغراضه المنشودة. وما يظهر حتى الآن أن الدولة ترمي الى تسوية مشكلة خاصة بها ومسؤولة عن صناعتها، فيما تدعو العرائض الاصلاحية الى لقاء وطني مفتوح يضم ممثلين عن كافة القوى السياسية والاجتماعية في البلد من أجل تحديد مشكلات المجتمع ووضع تصورات أولية لحلها. مع الالتفات هنا الى أن توصيات المشاركين في اللقاء الوطني الثاني خالفت غرض السلطة السياسية وخرجت عن خط سيرها وانتقلت الى مسار التيار الاصلاحي الشعبي. ولكن ما تدعو اليه العرائض الاصلاحية شيئاً مختلفاً وهو لقاء وطني يكون بين الدولة والمجتمع، وتشارك فيه الفعاليات السياسية والفكرية والاقتصادية من كافة المناطق ويكون لقاءً علنياً ومفتوحاً.

ثمة أمر لا يقل أهمية، أن اللقاء الوطني يلفت الى ضرورة الاسراع في الاعدادات القانونية والسياسية من أجل تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، فمن غير المنطقي الدخول في مشروع دمقرطة دون خلق مجتمع مدني قادر على ادارة المشروع وتوفير الضمانات الكفيلة والظروف الضرورية لنجاحه واستمراره. وفيما يبدو فإن الحكومة وتحديداً الامراء الكبار في العائلة المالكة ينزعون الى احتواء المؤسسات الاهلية داخل ماكينة الدولة كما ظهر في لجنة حقوق الانسان، ولجنة الصحافيين واخيراً لجنة العمل والعمال، وهذا يبعث على القلق إزاء محاولات تشويه مفهوم ودور وهدف المؤسسات الاهلية، مما ينبّه الى خطورة مستقبلية حين تبدأ العملية الديمقراطية من خلال الانتخابات البلدية والبرلمانية حيث تكون الدولة محوراً أساسياً في العملية بما يفرغ المشروع الديمقراطي من مضامينه الحقيقية وتحويله الى مجرد إطار مفرّغ من محتوياته الصحيحة، تماماً كما يجري الآن في البحرين والى حد ما في الكويت، حيث تخفي حكومات هذه الدول وراء لافتة الديمقراطية ممارسات أقل ما يقال عنها أنها مرواغة سياسية لغرض تضليل الرأي العام الدولي.

إن ذلك كله يفرض على المجتمع بكافة فئاته وقواه السياسية والثقافية أن يرسي أساسات المنظمات الاهلية المستقلة التي تعمل بعيداً عن سلطة الدولة وتدخلاتها، وأن تفرض واقعاً من خلال الاعلان عن تشكيلات نقابية ومهنية وسياسية وحقوقية وثقافية وأدبية والمطالبة بترسيمها بوصفها حقاً مشروعاً، وعدم السماح للسلطة بالتدخل فيما لا شأن لها فيه، لأن هذه التشكيلات تمثل قنوات تعبير مشروعة وضرورية لايصال صوت المجتمع الى الدولة وهي أيضاً الحواضن الرئيسية لنمو ديمقراطية صحيحة.

الصفحة السابقة