بعد الاعتراف بالتعددية

هل يتحقق الاندماج الشامل؟

إذا كانت هناك رسالة بليغة حملها الحوار الوطني في دورتيه الاولى والثانية فإن أهم جزء فيها هو الاعتراف العملي من قبل الحكومة بواقع التعددية الفكرية والمذهبية في بلد ظلت الطبقة الحاكمة فيه تناضل لعقود عديدة من أجل محو الانتماءات الفرعية واذابتها في هوية الدولة سياسياً ودينياً..فالمشاركة الواسعة والمتنوعة لرموز الطيف المذهبي والسياسي تبطن إقراراً ضمنياً بأزمة الواحدية التي شهدتها البلاد، وأن ثمة حاجة ماسّة لتدشين مرحلة جديدة تفتح الأبواب المقفلة بإحكام على الاتجاهات الفكرية والسياسية التي جرى تغييبها عن عمد وسابق إصرار..فقد بدا الآن للطبقة الحاكمة ضرورة الاستعانة بمن غيّبوا للاضطلاع بدور تكافلي لمواجهة تحديات جسيمة.

إن الاقرار بوجود واقع تعددي من قبل الدولة يمثّل الخطوة الأولى ويلزم أن تتلوها سلسلة تغييرات تترجم عملياً هذا الاقرار، وذلك بوضع خطة شاملة كيما تجسّد التعددية نفسها على كافة أجهزة الدولة وسياساتها وبرامجها تماماً كما جسّدت الواحدية فيما سبق نفسها في كل الاصعدة. إن الاقرار بالواقع التعددي لا يكفي وحده لمحو آثار المشكلة العميقة الجذور، وطالما بقيت الواحدية باسطة أذرعها في كل إتجاه، إذ لابد من صياغة واقع جديد وإرساء أسس مختلفة يتناسب وطبيعة التوجه العام الذي تسير عليه الدولة حالياً.

يتطلع المشاركون في الحوار الوطني وما صدر عنهم من توصيات الى بدء تنفيذ خطة عملية تلبّي القدر الأكبر من تطلعاتهم كيما يشعروا بالثقة في أن مشاركتهم لم تكن تلبية لأغراض خاصة لدى الطبقة الحاكمة، وإنما لوضع أساس تسوية شاملة لأزمة الدولة والمجتمع. إن التحفظات والى حد ما المخاوف لدى المشاركين من الطيف السياسي والفكري في الحوار الوطني من تحويّله الى مجرد واجهة إعلامية مسلوبة المضمون، يُنتظر تبديدها من خلال تمفصل التعددية على جسد الدولة بحيث تصبح واقعاً يعيشه المجتمع بكافة فئاته وتياراته واطيافه السياسية والفكرية، بحيث يمكن ملاحظة ذلك في الجوانب التالية:

ـ المؤسسة الدينية: لقد ظلت هذه المؤسسة رهينة إتجاه فكري ومذهبي واحد منذ نشأة الدولة وحتى الوقت الراهن، فأعضاء هيئة كبار العلماء هم متحدرون من المذهب الحنبلي، كما أن لجنة الافتاء والمشرفين على الشؤون الدينية في أقسام الدعوة والارشاد في البلاد والمساجد هم من نفس المذهب، فيما ظل اتباع المذاهب الأخرى محرومين ليس من حق المشاركة في المؤسسة الدينية بل وحتى من التعبير عن معتقداتهم دون إكراه أو قيد. إن الاعتراف بواقع التعددية المذهبية تفرض نظاماً جديداً يعيد الاعتبار لمن حرم من حق الافصاح عن معتقده.. وفي وضع كهذا تصبح الخيارات إما اشراك علماء المذاهب الأخرى في المؤسسة الدينية الرسمية بكافة فروعها ومناشطها، أو السماح لأتباع المذاهب الاخرى بتشكيل مؤسساتهم الدينية الخاصة على أن يصاحب ذلك تخفيض لسلطة المؤسسة الدينية الرسمية حتى تصبح متكافئة من حيث السلطة والصلاحية.

ـ القضاء: منذ أن قرر الملك عبد العزيز الغاء الانظمة القضائية في البلاد بعد احتلاله للحجاز بين عامي 1924 ـ 1926 وفرض العمل بالأحكام الواردة في الفقه الحنبلي أصبح أتباع المذاهب الاخرى ملزمين بصورة إكراهية للقبول بما يقضى عليهم من أحكام. إن الواقع الجديد يفرض إعادة الاعتبار للأنظمة القضائية الأخرى مع النظر الى التداخل والتخارج فيما بينها وازالة أوجه التعارض، على أن يتم العمل بكل نظام قضائي بحسب ما هو معمول به عند أتباع كل مذهب، فلا تكون الاحكام القضائية المعمول بها لدى مذهب ما مستمدة من مذهب آخر..كما يلزم تشكيل مجلس قضاء أعلى يضم نخبة متنوعة من أتباع المذاهب السائدة في البلاد، لحسم الخلافات وتنظيم عمل القضاء والمحاكم، وأن يكون في كل بلد قضاة من أهل المذهب السائد فيه، فلا يكون القاضي في هذه المنطقة أو المدينة على مذهب ما وأهلها على مذهب آخر.

ونشير هنا ايضاً الى موضوع الوقف الذي أصابه الحيف الكبير بفعل التصرفات غير المسؤولة التي أدت الى اتلاف وضياع الكثير من الأوقاف، فلا بد من إعادة النظر الجاد في هذا الملف، وأن ترجع الأوقاف الى أصحابها بناء على وثائق وسابقات كما حصل في الحجاز حيث تمت مصادرة كثير من الاوقاف تحت طائل مشروع التوسعة الذي لم ترع فيه المخالفات الشرعية وهدر الحقوق أو إنكارها، فضلاً عن استحصال الإذن من أصحابها أو المشرفين عليها..ولاشك أن المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة قد نالهما من الحيف الشيء الكثير أدى الى إندثار وهلاك أو تلف عدد كبير من الاوقاف دونما رعاية للحقوق وصيانة للحرمات.

ـ التعليم: ليس ثمة شك في أن التعليم كان الحقل الأكثر تمظهراً للواحدية الفكرية والمذهبية، حيث فرضت الحكومة على أتباع المذاهب الأخرى الامتثال لممليات منهج تعليمي يقوم على تنزيه العقيدة الرسمية وتشويه المذاهب الاخرى بل وتكفير أصحابها، وقد أصاب أتباعها قرح عميق بسبب هذا النهج الواحدي، كيف وأن الدولة التي كانوا يأملون منها مراعاة مشاعر ومعتقدات مواطنيها تشجّع الكراهية على قاعدة دينية وأن تزرع بداخل مواطنيها روح الخصومة والشقاق بدلاً من زراعة التسامح والقبول بالتنوع..إن ما تمليه التعددية أكبر من الاكتفاء بمجرد حذف فقرة أو فقرات في هذا الكتاب الديني أو ذاك، بل يلزم إعداد نهج تعليمي متكامل يستهدف أولاً محو ما علق في أذهان أجيال متعاقبة وما قرّ في صدورهم من أفكار ومشاعر، وأن يصار الى اعداد نظام تربوي جديد يعيد تشكيل الرؤى والتصورات لدى الناشئة ويكون للتعدية حضور في تفكيرهم كما ويعكس التعليم واقع التعددية المذهبية والفكرية..

ويقال ذات الشيء عن الجامعات وبخاصة الدينية منها والتي لا يجب أن تخرّج دعاة سلفيين فحسب تكون غاية أهدافهم إبلاغ رسالة في تكفير الآخرين وتغيير معتقداتهم، بل يلزم أن يعاد النظر الجاد في مناهج الدراسة في هذه الجامعات، بحيث تعاد صياغة هذه المناهج وفق الواقع التعددي المذهبي والفكري، وأن تفتح هذه الجامعات أبوابها أمام المذاهب الأخرى غير المذهب الرسمي للدولة..كما يجب أن تضم الهيئات الدراسية في الجامعات الدينية أعضاء من مختلف الطيف المذهبي والفكري، فلا تكون حكراً على مذهب الدولة الرسمي، فيما يتم فرض قيود صارمة على أتباع المذاهب الأخرى حتى من مجرد عقد حلقة درس ديني فضلاً عن افتتاح مدرسة أو كلية دينية.

ـ التمثيل السياسي: إذا كانت للتعددية في المجالات سالفة الذكر أهمية بالغة، فإن أقصاها يصل الى التمثيل السياسي. وليس خافياً الاختلال الفاضح في عملية التمثيل السياسي في هذا البلد، فمن الواضح لأدنى باحث بأن هناك فئة معينة وأحياناً (من بلدة معينة) تسيطر على الجهاز السياسي، ولا داعي للتذكير بخطورة هذا الاحتكار الشديد للسلطة، ففيه افتئات على باقي المناطق والفئات بل وافتئات حتى على المنطقة التي تنتمي اليها تلك البلدة الأثيرة. فأن يتم رفض هذه الفئة من الوصول الى مناصب محددة في وزارة ما ولتكن الخارجية، أو الداخلية فهذا يستبطن عزلاً سياسياً مغلّفاً، أو أن تقوم فئة ما بالسيطرة على وزارة ما بكاملها ويترك الفتات فيها للفئات الأخرى، فهذا من شأنه أن يولّد إحساساً بالحرمان والتمييز والغبن ما يجعلها ناقمة على الدولة وكارهة لها بل وأن لا تدين لها بالولاء والطاعة لأن الدولة تصبح في نظرها بأنها غير عادلة. إن بقاء الوزراء ووكلاء الوزراء وأصحاب المراتب الرابعة عشرة والخامسة عشرة بيد فئة محدودة دون سواها من شأنه أن ينمي مشاعر الانفصال والخروج على الدولة، لأن هذا النهج يجعل الغالبية تشعر بعدم الانتماء لهذا البلد الذي يحرمها من حقوقها، ولذلك قيل بأن التمثيل السياسي والاندماج وحده الكفيل بتحقيق غايتين: ولاء المواطن، ووحدة الوطن. فإذا قررت الطبقة الحاكمة الاستمرار في نهج العزل والتهميش فإنها بذّلك تخلق مبررات الخروج عليها والانفصال عنها.

ومن المؤسف أن الدولة وهي تحاط بأزمة شاملة وتواجه خطر التفكك والتقسيم ليس بفعل عوامل داخلية بل هذه المرة بفعل عوامل خارجية بالدرجة الاولى ومن قبل حليف الأمس الاستراتيجي، مازالت تتلكأ في اتخاذ خطوات في عملية الدمج السياسي رغم أنها تعتبر خطوات استراتيجية سيما في وضع خانق كهذا..إن الحكمة السياسية تتطلب من الطبقة الحاكمة إدماجاً حقيقياً للجماعات المتنوعة سياسياً ومذهبياً في جهاز السلطة، كيما تحقق غاية كبرى وهي تحويل الدولة الى غنيمة جماعية وليست عقاراً خاصاً بفئة. إن هذا الدمج فيما لو تحقق بصورة عادلة سيجعل الخوف من ضياع المكاسب مبسوطاً على الجميع، بحيث يندفعون في حال الخطر بصورة تلقائية للدفاع عن دولة يجدون في بقائها مصلحة مشتركة. إن ما حصل في العراق بالأمس القريب كان عبرة لمن يريد الاعتبار، فإن تقليص حيز السلطة وتضييقه الى حد تحويله على مقاس شخص الزعيم وحده أدى الى أن يفقد ثقة ليس شعبه بل وأن تتخلى عنه حتى الطبقة القريبة منه وهكذا الحارس الشخصي الذي يأتمنه على حياته. إن وهم واجب الولاء للسلطة مستبدة كانت أم عادلة يجب أن يزول، إذ لا يمكن أن يكون الولاء في الحالتين سواء بناء على مدعيات دينية وغير واقعية، كيف في حال كان الحاكم مشهوراً عنه انحرافه ومخالفته للشرع؟!

ما لم تصبغ التعددية التمثيل السياسي في الدولة تصبح الاخيرة غير جادة في إزالة آثار الواحدية بصورة شاملة، فالواحدية السياسية قد تكون أخطر على الدولة من أي أشكال واحدية اخرى..فكسب الولاء للدولة وللقيادة السياسية فيها، وتحقيق الاصطفاف الشعبي خلف الدولة في مواجهة الاخطار الخارجية وحتى الداخلية كما في مواجهة العنف لا يتم الا في حال اشراك ممثلين عن الفئات المنضوية داخل حدود الدولة في الجهاز السياسي.

ـ توزيع الثروة والخدمات: صار معروفاً أن الدولة اعتمدت برامج تنموية غير متعادلة من حيث التوزيع، حيث منحت مناطق جزءاً كبيراً من الثروة وحرمت أو أجحفت في حق مناطق اخرى، وهذا بدوره نمّى شعوراً بالغبن والحرمان لدى فئات عديدة. لا شك أن العائلة المالكة كانت صاحبة النصيب الأكبر في الثروة الوطنية، الى درجة أن المخصصات المفروضة لها ساهمت ومازالت في تأزيم الاوضاع الاقتصادية، الا أن التفاوت المناطقي في موضوع توزيع الثروة والخدمات كان الآخر عاملاً في تأجيج مشاعر السخط لدى الغالبية العظمى، التي وجدت نفسها إما محرومة أو مغبونة. إن مثل هذه السياسة تنجب بصورة تلقائية مواقف سلبية وقد تسوق كثيراً منهم بصورة قهرية لأن يصطفوا ضد الدولة، وقد يشكّلوا رأسمال الانتفاضات الشعبية. إن التعددية بما هي واقع معترف به تفرض قدراً متيقناً من العدل في توزيع الثروة والخدمات الصحية والاجتماعية بين المناطق والفئات المختلفة من أجل تصحيح الاختلال الحاد.

ـ الجهاز العسكري: سيطرة فئة أو منطقة على الجهاز العسكري، وبخاصة المراتب العليا فيه تغذّي شعوراً لدى باقي الفئات بأن استثناءها قائم على أساس انعدام الثقة بينها وبين الطبقة الحاكمة، أو على أساس نزعة الاحتكار الضارية لدى هذه الطبقة، التي قد تبدو في نظر الغالبية (كما حصل في العراق) وكأنها تتحرك ليس كدولة وانما كعصابة تسيطر على الدولة. إن خلفية هذه السياسة تبدو خطيرة لأنها تفترض بأن أمن الوطن هو مسؤولية فئة معينة دون سواها، وهذا يشير من طرف آخر الى التشكيك في ولاء الأغلبية الساحقة من المجتمع. وفي وضع كهذا من الطبيعي أن تبادل الأغلبية حكامها بموقف معاكس وبنفس القدر، فتبدي عدم اكتراث لما تتعرض له البلاد من تحديات أمنية خطيرة، فضلاً عن أن سياسة العزل والتهميش والاستثناء تجلب تلقائياً نقمة الفئات المعزولة، والا فإن الدفاع عن البلاد يعتبر مسؤولية جماعية، ولذلك لابد من إدماج الجميع في الجهاز العسكري، بل وفي المراتب العليا فيه.

هذه بعض الجوانب الهامة التي لابد للتعددية أن تكون منعكسة بصورة واضحة وعملية فيها، حتى تضع البلاد عجلاتها على سكة التحوّل من دولة الفئة الواحدة الى دولة الأمة الواحدة.

الصفحة السابقة