بعد انتهاء مهلة الشهر

مستقبل العنف في المملكة

من الضروري في البداية وضع المبادرة ـ المهلة في سياقها الموضوعي، فقد جاءت في الثالث والعشرين من يونيو أي بعد اسبوع من مقتل قائد تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية عبد العزيز المقرن، حيث أريد من هذا التوقيت تعميم انطباع من نوع ما، أي الايحاء بأن المبادرة جاءت وكأنها من موقع قوة وبعد أن حققت الاجهزة الامنية انتصاراً نفسياً وعسكرياً بعد سلسلة طويلة من الانكسارات. والحال أن المبادرة جاءت في حقيقة الأمر عقب انهاك شديد للمجهود الامني والنفسي على مستوى المجتمع والدولة معا، فقد جاءت المبادرة بعد أن بدأ عدد كبير من الموظفين الاجانب في الشركات النفطية حزم حقائبهم لمغادرة المملكة، وعقب مطالبة مدراء هذه الشركات من الامراء زيادة الاجراءات الامنية حول المواقع السكنية للعمال الاجانب الى حد تصريح الامير نايف بالسامح للاجانب بحمل السلاح دفاعاً عن أنفسهم، الى جانب اختلال الصورة خارج السعودية والتي أدت الى ضياع فرص استثمارية ذهبية كانت الحكومة تحفر الصخر بحثاً عنها، فيما بدأت كثير من الشركات الاجنبية تعيد النظر في مشاريع الاستثمار داخل السعودية بسبب تدهور الاوضاع الامنية، فضلاً عن الاضطراب الحاد الذي شهدته الاسواق النفطية بعد حادثي ينبع والخبر الذي كان انتصاراً بهلوانياً للقاعدة وفصلاً انهزامياً ساخراً لأجهزة الأمن السعودية.

في هذا السياق العام بكل الخضّات العنيفة والنذر المخيفة جاءت المبادرة ـ المهلة كيما تخرج الدولة من ورطة لم يفلح السلاح في حلها. وقد جاءت المبادرة كما لو أنها ورقة الرهان الاخيرة في اللعبة الدموية بين القاعدة والعائلة المالكة، وقد كرّست الاخيرة جهوداً حثيثة كيما تنجح مبادرتها، مستحثة باعتدادات بعض مشايخ الصحوة مثل سفر الحوالي ومحسن العواجي اللذين وعدا بتقديم المستحيل كيما تختفي كل آثار العنف وتستعيد البلاد الاستقرار الذي فقدته على مدار أربعة عشر شهراً، الا ان المبادرة انتهت بخيبة أمل.

العنف قد يهدأ ولكن لا ينتهي!

وفي الثلث الاخير من الشهر ـ المهلة التي أعلن عنها ولي العهد في الثالث والعشرين من شهر يونيو الماضي كانت الجهود تتكثف من قبل الاجهزة الامنية والمشايخ الصحويين من أجل انهاء أزمة زعزعت بعنف شديد الاستقرار الداخلي وكشفت الطبيعة الهزيلة للبنية الامنية وللأجهزة المسؤولة عن حفظ الامن في هذا البلد الحيوي بالنسبة لاقتصاديات العالم.

وفيما كانت الآمال معقودة على أن يشهر المطلوبون في قائمة الست والعشرين الراية البيضاء الواحد تلو الآخر مستفيدين مما يعتقد بانها الفرصة الذهبية الأخيرة من أجل انقاذ رقابهم من السيف، فإن الآمال بدأت تتبدد كلما تصّرمت أيام المهلة وخصوصاً في ثلثها الأخير حيث ان المفاوضات السرية التي كان الشيخ سفر الحوالي يجريها مع المطلوبين لم تسفر عن نتيجة مرجوّة.

وقد ظهرت المحصلة النهائية بعد نهاية الشهر ـ المهلة أن واحداً فقط من قائمة الست والعشرين قد سلّم نفسه، وأن 6 من المطلوبين من خارج القائمة سلّموا أنفسهم، وهم ثلاثة من الخارج وثلاثة من الداخل، وهؤلاء اما تركوا العمل الجهادي او يعانون من إصابات جسدية سابقة في سوح الجهاد. وفي كل الأحوال فقد رفض المئات من المطلوبين سواء من قائمة الست والعشرين او من غيرها تسليم أنفسهم للاجهزة الأمنية، وأن المهلة التي راهن عليها ولي العهد بعد مقتل القائد السابق لتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية عبد العزيز المقرن حملت مع انتهائها جواباً مختلفاً، وقد فتحت النهاية السلبية الباب امام الامير نايف كيما يجرّب الحل العسكري الذي توقف عنه لفترة نحو شهر رغم الاختراقات المتفرقة التي قامت بها اجهزة الامن.

في النظرة الاولية والمباشرة فإن الموقف الرافض للمهلة من قبل المطلوبين ينم عن إحدى إحتمالات: الاول أنعدم الثقة في الحكومة ومبادراتها، الثاني: أن المهلة جاءت ناقصة كونها تعاملت مع جماعة من منظور جنائي، ولذلك اكتفت المبادرة بالعفو عن أفراد الجماعة الجهادية من زاوية الحق العام، وفي ذلك إتهام مبطّن لها وتقليل من شأنها كيف وهي تنظر الى نفسها باعتبارها حركة اصلاح اجتماعي وديني وحضاري وتحمل رسالة في التغيير، وتتبنى استراتيجية تحرير العالم الاسلامي من الاستعمار، والثالث: هو تصميم اعضاء التنظيم الجهادي ـ القاعدة على مواصلة الطريق نحو تحقيق الاغراض الكبرى التي حملوها وأفصحوا عنها، اي تخليص الجزيرة العربية من المشركين واقامة الدولة الاسلامية المضطلعة بتطبيق الشريعة.

اما من منظور استراتيجي فإن المبادرة ـ المهلة أخفقت الى حد كبير في إتمام مهمتها وتحقيق أهدافها لأن المحرّك عليها والدافع اليها كان خاطئاً، لأن المنطق كان هو الرغبة في ازالة الاثار الخارجية وتمظهرات العنف مع اغفال متعمد لمصادر العنف وجذوره. إن مصادر العنف كما يحددها بعض المراقبين والمتابعين للوضع الداخلي هي الاوضاع الاقتصادية المتردية وانبثاث ثقافة الاقصاء والاستئصال المؤسسة على معتقد ديني أحادي التوجيه، ووجود نظام سياسي استبدادي مازال يلّح بعناد شديد على رفض فتح النظام السياسي لمشاركة أوسع في صناعة القرار، وارساء أساسات التعددية في أشكالها المختلفة السياسية والاجتماعية والفكرية والمشاركة الشعبية والعمل الاهلي الحر. وما لم يتم التعامل بصدق وجد مع هذه المصادر فإن مآل أي مبادرة الفشل، فحل مشكلة العنف ليس بالقضاء على الاشخاص بل بالتوصل الى تشخيص موضوعي ودقيق لحال الامة والسعي الجاد للتفكير في انتاج حلول حاسمة.

قد تحقق الدولة انتصاراً عسكرياً ولكن انتصارها الحقيقي هو في ازالة جذور التوتر الامني.. إن مولّدات عديدة للعنف يجب أن تتوقف ولا يمكن ان تتوقف ما لم يبدأ المجتمع حواراً وطنياً واسعاً يلامس جذور الأزمة الشاملة، أي حوار يؤسس لعلاقة جديدة بين المجتمع والدولة، يزيل كافة الانسدادات الحاصلة في شبكة العلاقات الداخلية، ويشيد دولة القانون، ويبني المؤسسات الدستورية، والجمعيات الاهلية، ويضع تصورات حل للمشكلات الكبرى الاقتصادية والاجتماعية غيرها.. فالقضية ليست محصورة في تنظيم جهادي مؤلف من عشرات أو مئات الاشخاص بل هي قضية وطن بأكلمه، لا تتوقف مشكلته على انفجار العنف في بعض اجزائه بل هي حاجات ومطالب وتطلعات شعب بأكمله يريد رؤية دولة يتقاسم فيها الغُنم والغُرم.

وعلى أية حال، فإن انقضاء الشهر ـ المهلة يكشف عن أن خيارات الحكومة باتت محصورة في المواجهة اذ أن الخيار التفاوضي سقط عشية الثاني والعشرين من يوليو، وبات الخيار العسكري الامني هو المرشح للعودة الى المسرح مجدداً، وهو ما أعدت الاجهزة الامنية نفسها له، كجزء من التجاذب الذي يحكم المراهنات بين شخصيتين قويتين ومثيرتي للجدل وهما ولي العهد ووزير الداخلية، الذين باتا حاضرين في الموضوعين المحوريين: الاصلاح السياسي والعنف، وأن مواقفهما المتضاربة حيال الموضوعين تعكس حالة الاستقطاب المتنامية بين هاتين الشخصيتين. في المحصلة النهائية فإن انتهاء المبادرة يعني تلقائياً وميدانياً رجحان كفة وزير الداخلية وتبعاً له الخيار الامني، وفي نهاية المطاف عودة الامير نايف الى الواجهة كرجل المرحلة القادمة، وربما هذا ما أراد الاخير تثبيته على الارض حتى قبل نهاية المهلة.

فقبل ثلاثة أيام من انتهاء المهلة التي حددها ولي العهد للمطلوبين من اجل تسليم أنفسهم كيما يشملهم التنازل عن الحق العام قامت قوات الامن بغارة على مسكن القائد الجديد لتنظيم القاعدة في الجزيرة العربية صالح محمد العوفي. وقد جاءت الغارة في العشرين من يوليو بعد أن ظهرت بوادر فشل المهلة وهي ما كشفته عنه المحاولات اليائسة التي تضاعفت في الثلث الاخير من الشهر ـ المهلة طمعاً في إقناع المطوبين من قائمة الست والعشرين بالاستسلام.

هل تعود (كتائب الحرمين) للواجهة؟

لقد أدت الغارة على مسكن العوفي الى مقتل اثنين من اعضاء التنظيم وجرح ثلاثة منهم وكان يعتقد بأن العوفي من بينهم. ولكن من اللافت في هذه الحادثة أن المبادرة باتت في يد الأجهزة الأمنية بعد أن كانت في يد جماعات العنف طيلة اربعة عشر شهراً، ولذلك فإن من غير المحتمل أن تشن القاعدة هجمات انتقامية ضد الاجهزة الامنية، ولكن قد يدفع هذا الحادث كتائب الحرمين (وهي مجموعة تركّز هجماتها ضد البنية التحتية للنظام السعودي) لبدء الهجوم. فمن المعروف بأن المعركة بين تنظيم القاعدة والحكومة بقيت ضمن حدود وتراوحت بين الهجوم والدفاع. وبناء على الديناميكية بين النظام والقاعدة فإن ثمة معلومات تفيد بأنه من غير المحتمل أن يقدم الفرع السعودي للشبكة الجهادية على شن هجمات انتقامية ضد الحكومة او الاهداف الغربية.

ومن المعروف فإن موت القائد السابق لتنظيم القاعدةعبد العزيز المقرن قد وضع حداً لاستهداف الغربيين في المملكة. ولكن وبالرغم من أن القاعدة قد لا تشن هجومات جديدة، الا أن المجموعة الاسلامية المسلّحة التي تطلق على نفسها (كتائب الحرمين) والتي تكرّس هجماتها ومخططاتها العسكرية لملاحقة النظام السعودي الذي يعارض شن هجمات ضد الاهداف الغربية قد تضطلع بدور بديل لتنظيم القاعدة في شن الهجوم على الحكومة هذه المرة.

ومن المعروف فإن (كتائب الحرمين) قامت بعملية تفجير انتحارية في الحادي والعشرين من أبريل الماضي على مبنى يستعمل من قبل القوات السعودية الخاصة وأجهزة مكافحة الارهاب التابعة لوزارة الداخلية. وقد أعلنت هذه المجموعة مسؤوليتها في الحادي والثلاثين من ديسمبر 2003 لتفجيرها سيارة مسؤول أمني خارج مسكنه من أجل تحذير قوات الامن السعودية ملاحقة او مراقبة المجاهدين. كما تبنت هذه المجموعة مسؤولية قتل عقيد من قوات الامن السعودية في الخامس من ديسمبر من العام الماضي. وقد أصدرت كتائب الحرمين في السادس من ديسمبر 2003 بياناً يقول: فيما تحارب القاعدة القوات الغربية، فإنها ستكّثف إهتمامها على النظام السعودي، والذي تتهمه بقتل المجاهدين والتعاون مع الغرب ضد الاسلام والمسلمين.

وسواء كانت هذه التهديدات جدّية أم لا فإن الحكومة السعودية تخضع تحت تأثير الضغط الاميركي من اجل الانخراط في الهجمات الاستئصالية ضد القاعدة كمراهنة على اخماد صوت البنادق الجهادية لأطول فترة ممكنة. كما تحتاج الرياض الى إقناع المجتمع الغربي الوافد بانها قادرة على السيطرة على الوضع الداخلي وتوفير الامن من اجل منع الهجرة الجماعية الواسعة للعمال الاجانب.

إن الهجمات ضد تنظيم القاعدة هي بلا شك خطوة يائسة من قبل النظام السعودي من أجل تأمين استمرار تدفق النفط والذي يتطلب بقاء العمال الاجانب، وهي من جهة أخرى تعتبر خطوة عالية الخطورة لأنها قد تؤدي الى تقوية المسلّحين، فكلما أصبح النظام أكثر عدوانية ضد المسلّحين، كلما انقلب الرأي العام ضد النظام لأن هذه العدوانية سينظر اليها على أنها تلبية لرغبة واشنطن ومطلبها. ومن المتوقع فإن اندفاع قوات الامن السعودية في هذه الفترة لشن سلسلة هجمات ضد تنظيم القاعدة قد يدفع الاخيرة الى الانزواء والتركيز على حفظ التماسك الداخلي لبنية التنظيم حتى نهاية الخريف، حيث من المحتمل ان تعاود نشاطها المعتاد بعد ذلك.

ومن الضروري الفات الانتباه الى أنه لا يجب التعامل مع حوادث العنف وكأنها فقاعات يمكن أن تتلاشى وتتبدد بوخز الابر، إذ نحن امام ظاهرة ممتدة ولها أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية. ومن يقول بأن هذه الظاهرة نبتة غريبة يحاول اختزال التاريخ وتشويهه، فهذه الظاهرة حميمية وصميمية في بنية الخطاب السياسي والديني الرسمي هو الخطاب الذي حرّض الاخوان الاوائل عام 1926 وما بعدها، وحرّض جماعة جهيمان عام 1979 وهو يحرّض الآن الجماعات الجهادية في الجزيرة العربية، وأضاف اليها تدهور الاوضاع الاقتصادية والسياسية علاوة الى عوامل اخرى ثقافية واتصالية واجتماعية أبعاد جديدة وفي الوقت نفسه تحريضية.

إن الحكومة تقترف خطأ كبيراً من خلال التعامل مع ظاهرة العنف باعتبارها ظاهرة جنائية، ولذلك فإن المبادرة تأتي في لغة عفو ومكرمة ملكية وشفاعات سرية كالتي تجري الآن من اجل تسليم قائد تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية صالح العوفي عن طريق الضغط عليه من خلال احتجاز عائلته، تماماً كما حصل بالنسبة لسلفه علي الغامدي الذي سلّم نفسه بعد اعتقال زوجته المغربية.. وفيما يوضع العوفي بين حدين: قضيته وعائلته تحتدم النقاشات السرية حول التكتيكات المحتملة التي قد تقدم عليها الحكومة والتنظيم مع مراعاة الخسائر والارباح التي قد تجنى من وراء اعتقال او قتل العوفي.

وفي الأخير يمكن القول بأن الكثيرين كانوا بانتظار مبادرة أخرى تاريخية، أعني مبادرة الاصلاح الشامل التي من شانها احتواء الازمات المتفجرة في هذا البلد، اصلاح النظام السياسي بوضع نظام دستوري وإرساء أساس دولة القانون، واشاعة ثقافة حقوق الانسان واطلاق الحريات العامة وبالتحديد حرية التعبير والصحافة، وتشجيع المؤسسات الاهلية.. هذه المبادرة كفيلة بأن تمتص موجات التوتر الاجتماعي والسياسي والايديلوجي، الا أننا نشهد الآن قراراً غاشماً بتقديم الاصلاحيين الثلاثة الدكتور متروك الفالح والدكتور عبد الله الحامد والشاعر الاستاذ علي الدميني للمحاكمة في التاسع من اغسطس الحالي!

الصفحة السابقة