عزاؤنا فيك يا فقيد العلم يا عالم مكة

الشيخ أحمد زكي يماني



آخر صورة التقطت للفقيد الراحل

ما أظن أن سكان أم القرى وما جاورها قد أصابهم فزع وذعر كما أصابهم نبأ فقدان عالم مكة ورمزها وسيد أهلها، السيد الجليل، والعالم الكبير، السيد محمد بن علوي مالكي الحسني، الذي رحل عنا ونحن في أشد الحاجة لوجوده بيننا.

لقد عرفته قبل أن أراه عندما حدثني والدي رحمه الله عنه وعن نبوغه في علم أصول الفقه عندما كان يدرس على يديه، حتى قال والدي لوالده السيد علوي ليدخل السرور عليه (هذا فرع فاق أصله) وكان هذا الفرع الشريف عندما حدثني والدي عنه ينهل العلم من منبعه الآخر في الأزهر الشريف.

عاد لوطنه وقد تأكد من جوهر حقيقة الإسلام في تنوع مذاهبه وتعدد اتجاهاته واحترام آراء الآخرين، وحمل تلك المعرفة من المسجد الحرام الذي كانت تعج حلقات العلماء فيه على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم. كما عرفها في أروقة الأزهر الشريف حيث تتسع الصدور لآراء من يخالفهم الرأي، فالله جل وعلا غرس في طبيعتنا حرية الرأي وحرية الإختلاف ولذلك خلقنا.

كان رحمه الله واسع العلم، كريم النفس، صريح الرأي، لا تأخذه في الحق لومة لائم، يثور عندما يتوهم المتوهمون أنهم يستطيعون الحجة عليه أو كبح جماح علمه، ولقد رأيته في حوادث متعددة وهو يقف شامخ الرأس رافع الصوت، يزلزل أقدام المنافقين، ويسكت ألسنة المتزلفين، لا تشتريه الأموال، فالعلم لا يُشترى بالمال، وإن كان بعض المنتسبين إليه يشترون بتلك الأموال. ألف العديد من الكتب وألقى الكثير من المحاضرات في عواصم عالم الإسلام، من المغرب حتى إندونيسيا، ولكن كان علمه الغزير حبيس داره في وطنه يقصده المئات من طلابه ينهلون العلم منه رغم الحواجز والموانع.

تكاثف الهجوم عليه بمؤلفات عديدة، وبيانات هزيلة وهو ساكت لا يبالي، ولما قال له يوماً أحد جلاسه بيتاً من الشعر يتضمن كلاماً لا يليق، انبرى له رحمه الله قائلاً: لا أسمح بأن تصفهم بذلك، فلهم رأيهم ولي رأيي، ما نرفضه هو أن نلزم الجميع بالتزام رأي واحد، والإسلام رحب قد اتسع صدره لتعدد الآراء تحت راية لا إله إلا الله.

قبل وفاته المفاجئة بليال ثلاث كان ضيفي على السحور، ودعوت على شرفه بعض محبيه وعارفي فضله، وقد أمتعنا بالعديد من الأخبار والآراء، وكنا نجلس بين يديه ونقول ليته يستمر ولا يسكت، ولقد وعدني رحمه الله أن يرتب لي موعداً مع أحد علماء الشافعية في البلد الحرام بعد عودته من المدينة ولكنه ذهب لجوار ربه ولن يعود للوفاء بوعده.

لقد فجعنا نحن أهالي مكة في أقل من شهر بمصيبتين، عندما رحل عنا شاعرنا شاعر العروبة السيد محمد حسن فقي، الذي وهبه الله الحكمة ونبوغ الفكر والملكة الفريدة في الشعر، فنأى بما أعطاه الله عن التزلف والإنحناء، وعندما سطعت أضواء شعره خارج الحدود عرف الناس ماذا أصابه من جحود.

وتأتينا الآن مصيبتنا الثانية في عالمنا وفقيهنا الذي رحل عنا وترك فراغاً لا يعزينا في فراقه إلا إيمان بأن رسالته ورسالة الإسلام الخالدة لن ينتقص منها التزمت والتنطع، ولن ينتهي ضوؤها الساطع باختفاء نبراس واحد.

توارى جثمانه الطاهر بمقبرة المعلا الى جانب أبيه العلامة السيد علوي، وحرمت وأنا على سرير المرض أن أودعه لمثواه، وخفف من ألم حرماني التهليل والتكبير في المسجد الحرام الذي عرفت جموع المصلين أن أمراً جللاً قد حصل، والجموع الغفيرة التي امتلأت بهم مقبرة المعلا في حشد دلّ على عمق محبة الناس له.

رحمك الله أيها الحبيب يا حفيد المصطفى عليه وعلى آل بيته السلام.

الصفحة السابقة