مملكة بلا فرامل

ليس هناك من هو قريب من السلطة يشعر بأن الحكمة دليلها او المنطق مرشدها، فهي تسير على غير هدى، رغم أن ما يطفو على السطح قد يصنع انطباعاً مضللاً، خصوصاً حين ينظر الى بعض الانشطة المستحدثة مثل اللقاء الفكري، والانتخابات البلدية، ومشروع توظيف العاطلين عن العمل وغيرها، فكلها مفردات قد توحي بأن ثمة عقّلا مدبّراً يدير سفينة الدولة الى شاطىء الأمان، ولكن الواقع غير ذلك على الاطلاق.

فمازالت مظاهر الفساد والفوضى والتحلل في أجهزة الدولة تزداد تفشيّاً، ومازال النهم يستبد باللصوص الكبار، وأن ما تم تداركه من الفائض المالي بفعل ارتفاع أسعار البترول في الاسواق العالمية لم ينعكس في مشاريع تنموية واضحة ومشهودة.

ومن المثير للغرابة أن الأمراء الكبار يدركون تماماً بأن أسس الدولة بدأت بالتصدّع ومازالوا موهومين ببطانة تزيّن لهم السوء كما فعلت حاشية صدام حسين الذي زرعت في ذهنه فكرة موهومة بأن الشعب العراقي قد تحوّل الى حرس خاص عن القصر الجمهوري وأنهم باتوا على أهبة الاستعداد للفداء بالروح والدم من أجل حياة الرئيس.

ولكن فساد البطانة من فساد السلطة، ولأن الاولى تقتات على مائدة الثانية، فقد يهيم أحياناً رؤوس السلطة بخيال القوة والجبروت ويعتقدوا بأن السلطة مستقرة وأن ليس هناك ما يحول دون الاستمرار في ذات السياسة التي ساروا عليها منذ أن تأسست الدولة عن طريق القوة والاكراه.

وفي الوقت الذي تشهد فيه الدولة انتقادات من كل أنحاء العالم، وتتفجر الالغام من تحتها في الداخل، يضرب الامراء الكبار صفحاً عن التحديات الخطيرة مستأنسين بوهم القوة التي بلا ريب قد صدمت بعضهم حين تهاوت هيبة الدولة في فترة قياسية فلم تعد تفرض احترامها على أحد حتى من رعاياها في الداخل، وقد لحظ ذلك صاحب القبضة الباطشة الامير نايف في لقائه بدعاة الاصلاحيين وهم يردّون مقولته بكل صلابة وتؤدة.

إن ما كان منتظراً من الدولة في السنوات القليلة الماضية بات مرفوضاً من قبل التيار الشعبي العام، فقد أصاب اليأس الجميع من خروج فارس من داخل العائلة المالكة يعيد الامور الى نصابها ويضع البلاد على سكة الاصلاح، فقد تجاذب الأمراء أطراف السلطة وباتوا يفعلون بها كما يشاؤون دون رقيب ولا حسيب، فلم يعد للدولة كبير يرجع اليه، فالكبار باتوا كثر في سنام السلطة، وكل يرى رأيه في شؤون الدولة، فقد يقرر الامير نايف ما لا يقبله الامير عبد الله، وقد يقدم الاخير على سياسة ينبذها الامير سلطان وهكذا..

فليس للدولة كبير يجمعها، ولا رشيد يضفي عليها من حكمته، ولا حصيف يصنع قرارات انقاذية توقف مسيرة التدهور التي شهدتها الدولة منذ سنوات عديدة.. لقد تعددت مراكز القوى، حتى لم يعد المرء يشخّص أحياناً من هو الحاكم الفعلي للبلاد، ولم يعد للناس جهة تظّلم يجأرون اليها بشكاواهم ضد من حرمهم أو تعدّى على أملاكهم، فقد يلجأون الى ظالمهم مضطرين او دون إدراك مسبق..

دولة تسير بلا فرامل حقاً، وكان يؤمّل أن تتشكل لجان طوارىء متخصصة في أرجاء البلاد من أجل وضع الخطط الاستراتيجية لتسوية المشكلات الكبرى في الدولة، وهذا ما كان يفترض حصوله منذ سنوات، أي منذ أن دخلت الدولة في النفق المظلم.. بالرغم من أن المتخصصين والخبراء في الداخل والخارج قد بذلوا جهوداً مضنية من أجل تقديم مقترحات عملية بل وخطة اصلاحية شاملة كيما تسير عليها الدولة من أجل معالجة المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.. كل ذلك نعلم يقيناً بأن الخبراء المحليين قد ساهموا فيه بجدية واخلاص وتفانٍ، ولكن الامراء لا يقرأون ولانهم يعيشون عالمهم الخاص فإنهم لا يكترثون لما يكتب طالما أن السلطة مازالت مقبوضة بيمينهم.. في مناسبات عديدة يتحدث أصحاب الرأي والخبرة عن لقاءات جمعتهم بأصحاب القرار في العائلة المالكة عن أن جهودهم تضيع سدى لأن أصحاب القرار لا يدركون أصل الموضوع فضلاً عن طريقة التعاطي معه، ويتفق أصحاب الرأي على نتيجة واحدة: لقد خرجنا من اللقاء ولا نعتقد بأن الامير الفلاني قد أدرك مما نقول شيئاً، فنحن نتحدث عن قضية ليست حاضرة في ذهنه وإن حضرت فتكون بطريقة مقلوبة، وقد يسأل عن أشياء لا صلة لها بالقضية المطروحة من قريب او بعيد.

نتمنى أن يلهم الامراء الحكمة من يجود بها عليهم حتى لا تضل الدولة طريقها وتسير في منزلق بدون فرامل بل ولا يوجد من يضع قدمه على الفرامل إن أمكن تنصيبها قبل الوصول الى حافة الطريق.. وفي الاخير فإن ما يظهر أن الدولة تساق كالمغشي عليه ولا معين الا بارىء النسمة.

الصفحة السابقة