موقف التيار الإصلاحي الوطني من الإنتخابات

مسار العمل الإحتجاجي في السعودية

إن الحظر المفروض على نشاط الاحزاب السياسة والسيطرة الصارمة على الاعلام تعني بأن المعارضة الرسمية للحكومة أو للعائلة المالكة غير مسموحة بالرغم من تصاعد الاصوات الناقدة التي تسمع في الداخل والخارج. فالمعارضة السياسية مازالت مقتصرة من حيث نشاطها الاعلامي والتنظيمي على الخارج، فيما تفرض الحكومة قيوداً وتدابير قمعية ضد أي عمل معارض لسياسات الحكومة.

في الستينيات والسبعينيات تموقعت عدد من الجماعات الاعتراضية الوطنية واليسارية في العاصمة اللبنانية بيروت، وفي العاصمة العراقية بغداد، وفي الثمانينات كانت القوى المعارضة الدينية والشيعية تحديداً تتخذ مراكز لها في ايران وسوريا وأوروبا والولايات المتحدة، وفي التسعينيات ظهرت المعارضة السلفية لأول مرة في الخارج، في بريطانيا تحديدا، لتبدأ نشاطاً سياسياً احتجاجياً ضد العائلة المالكة.

لقد ناصر كثير من المعارضين السعوديين القدامى القضايا القومية التي هيمنت على الحياة السياسية في المنطقة في السبعينيات، ثم أصبح للقضية الاسلامية أولوية متقدمة في العمل الاعتراضي. ففي أعقاب النهاية الكارثية لحرب 67 وموت الزعيم جمال عبد الناصر فقدت الحركات القومية بريقها السياسي وبدأ المعارضون بالعودة الى ديارهم، ليبدأوا عملاً سياسياً هادئاً بفعل القيود الرسمية الصارمة على أنشطة المعارضة، فيما كانت القوى الدينية تستعد لخوض مضمار المعارضة في أشكال أخرى شعبوية وتنظيمية متقدمة، الى جانب العمل السري الذي تم التوسل به كضرورة في بلدان لا تسمح ببروز تشققات داخل الدولة أو تسهم في تصديع التوافق الاكراهي الذي صنعته الطبقة الحاكمة من اجل تعزيز السلطة وتثبيت أركانها.

لقد شهد العقدان الماضيان أشكالاً مختلفة من الاحتجاج السياسي، وقد أتاحت أزمة الخليج فرصة ظهور القوى السياسية والايديولوجية على السطح عن طريق عرائض مطلبية الى الملك، والتي عكست بجلاء خطابات سياسية وفكرية متنوعة. ولكن الدولة التي كانت فاقدة لزمام السيطرة في ظروف الحرب، لم تكن مؤهلة للتعامل الصحيح مع تطورات داخلية كان من الضروري التعاطي معها بدرجة كبيرة من المسؤولية، كونها تعبر عن مستوى نضج المجتمع من خلال قواه السياسية والاجتماعية. فقد ضربت العائلة المالكة صفحاً عن محتويات العرائض الاصلاحية وأملت على المجتمع أجندة في التغيير تقع خارج سياق تطور المجتمع والدولة معاً، فجاءت بهياكل مسلوبة المضمون الاصلاحي، ولم تتجاوز التغييرات حد وضع (ديكور) جديد للجهاز الاداري للدولة، فقد بقي مجلس الشورى ومجالس المناطق إطارات معزولة عن حركة تطور المجتمع، وعن حاجات اللحظة التي يعيشها الوطن وأبناؤه. لقد أشغلت العائلة المالكة سفهاً الرأي العام بزيادة حجم العضوية في مجلس الشورى خلال دورات ثلاث، فيما ظل نظام عمل المجلس ووظائفه وأدواره جامدة، بالرغم من التطورات المتسارعة التي شهدتها البلاد منذ الاعلان عن تأسيس مجلس الشورى عام 1992 وحتى الآن..

كانت تجربة مجلس الشورى، دع عنك مجالس المناطق، كافية لإقناع القوى السياسية الوطنية بعدم جدوى وجدية التغييرات التي تجري على يد العائلة المالكة، وهذا ما دفع بها للافادة من تحولات سياسية اقليمية بعد حرب العراق وفي ظل مناخ سياسي شديد التقلب كيما تبدأ جولة جديدة في العمل الاصلاحي المطلبي، فتشكّل تيار اصلاحي وطني يضم طيفاً واسعاً من القوى السياسية الدينية والوطنية على أساس مبادىء اصلاحية مشتركة، وتقدّم بأجندة اصلاحية شديدة الاتقان وتنسجم تماماً مع اللحظة المعاشة وحاجات المجتمع والدولة، فكانت عرائض التيار الاصلاحي بدءاً من (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي رفعت في يناير 2003 وانتهاءً بوثيقة الملكية الدستورية التي رفعت في نوفمبر من العام نفسه، لتعبّر عن مستوى راقِ من النضج والموضوعية في الطرح المطلبي، وقد حظي نشاط التيار الاصلاحي بإعجاب وتقدير المناصرين للديمقراطية في العالم. على الضد، كان للعائلة المالكة موقف آخر وسلبي للغاية، بالرغم من الحفاوة الشكلية التي أظهرها ولي العهد في استقباله لعدد من رموز التيار الاصلاحي.

ومنذ الخامس عشر من مارس من العام الماضي شهدت البلاد انتكاسة اخرى في مسيرة العمل الاصلاحي الوطني، حين أقدمت وزارة الداخلية بعد اجتماعات اتسمت بالحدية والتحدي مع وزير الداخلية على اعتقال عدد من رموز التيار الاصلاحي، وكأن سيرة الأمس في أزمة الخليج الثانية تتكرر بحذافيرها في أزمة الخليج الثالثة، حيث تنطلق مسيرة الاصلاح في ظل ضعف الدولة، فتبدي الاخيرة استعداداً لتلبية مطالب التيار الاصلاحي، وما إن تبدأ العائلة المالكة باستعادة السيطرة على الوضع العام في البلاد حتى توجه ضربة قاصمة لرموز التيار ثم تفرض العائلة المالكة أجندتها الخاصة بالاصلاح المزعوم.

سيناريوهات متكررة، والمحصلة النهائية هي إتساع الهوة بين الدولة والمجتمع، وتفاقم القطيعة بينهما، وإنهيار آخر في الثقة بالحكومة ووعودها، بانتظار أزمة أخرى تكره العائلة المالكة على إحداث تغييرات شكلية أخرى.. فقد صار مألوفاً أن الاصلاح حتى في حده الشكلي لا يتم الا عقب أزمة تهدد استقرار الدولة، وهذا يدحض مدعيات العائلة المالكة بأنها تسير في تطورها التدريجي وفق شروط موضوعية وعلى أساس حاجات المجتمع، إذ لم يكن لهذه المدعيات أية صدقية حين توضع في سياقها التاريخي، بل كان التغيير على الدوام منوطاً بأزمة، وناشئاً منها.

لقد فرضت العائلة المالكة أجندتها في الاصلاح، وصادرت مطالب التيار الوطني العام، وتراجعت الحريات العامة الاستثنائية بصورة حادة، وباتت حرية التعبير مقتصرة على الدفاع عن الحكم القائم، وأن من شذّ طاله قرار الاعتقال الغاشم، أو أكره وقلبه مطمئن بالايمان على التوقيع على تعهد بعدم مزاولة النشاط الاعلامي والسياسي السلمي.

بدأت الدولة أجندتها في الاصلاح من حيث بدأ الآخرون وليس من حيث إنتهوا، واستبدلت الاعلى بالادنى الذي سبقت اليه من كانت قبلها من الدول، ولم ترعَ تطور المجتمع ولا تطور البشرية، فقد نفخت في قربة مثقوبة فتوهمت أنها قد ملئت هواءً، وأرادت تمرير (كذبة) الانتخابات كيما تدرج نفسها ضمن قائمة النظم السياية الانتخابية، تماماً كما أدرجت نفسها ضمن قائمة الضحايا في مسلسل العنف الذي بدأ منها واليها عاد. اكتفت بمسمى الانتخابات وحشرت في جوفها كل مفردات الاستبداد، فلا النظام الانتخابي انتخابي بالمعنى التام ولا اللوائح التنفيذية للانتخابات انتخابية ولا الفعل الانتخابي انتخابي، ولا وظائف المجالس البلدية المنتخب نصفياً ستكون انتخابية، فأقصى ما تمخض عنه الجبل لم يتجاوز فأراً صغيراً.

إن مسافة فلكية تفصل بين مطالب التيار الاصلاحي الوطني وبين أجندة العائلة المالكة، وإذا كانت الاخيرة تملك ماكينة اعلامية تحيل من الحبة الى قبة، فإن المراقب لا يخدع بمثل هذا الحدث الضئيل في أثره والقليل في ثمرته، ولن يلهى بإنتخابات لا تنطوى سوى على شكل آخر من أشكال التخلف، ما لم يبدأ الاصلاح من الرأس.. إن فساد السمكة يستدل عليه من رأسها، كما أن المياه الصالحة للشرب لا تصب في بركة آسنة كيما تعيد لها نقاوتها وصلاحيتها، وأن الدولة تشبه الآن بركة آسنة لا يمكن لمجالس بلدية عرجاء ومكبّلة أن تحدثاً تغييراً هائلاً في تلك البركة، وإن أقصى ما تفعله هو تحريك المياة الآسنة وليس تطهيرها.

لقد صمت التيار الاصلاحي الوطني، وحقه أن يصمت، والصمت هنا ليس علامة رضا وانما إحباط ورفض مما يجري، وقد تكون علامة سخرية أيضاً.. ليس غباءً في التيار الاصلاحي أن يصمت، فقد صمت من كان قبله، وحين أزفت ساعة المواجهة مع الذات أطل برأسه ليقول كلمته ويسجّل موقفاً وطنياً صادقاً.. يجب أن تخشى الدولة صمت التيار الاصلاحي الوطني، فالصمت الذي إستمر لعقود طويلة تفجّر دوياً في أزمة الخليج الثانية، فلم يكن أحد في الخارج يدرك تمام الادراك بأن في جعبة التيار الديني السلفي مخزون غضب على الدولة بالحجم الذي ظهر إبان تلك الازمة، ولعل ما كشفت عنه (مذكرة النصيحة) كان ينم عن تصور عام لدولة آل سعود التي يكاد أصحاب المذكرة أن يوصموها بالكفر البواح، فاكتفوا بتزويق العبارات وترنيمها لتكون سهلة الهضم، والا فإن المذكرة طالبت بإعادة صياغة شاملة لمجمل أجهزة الدولة وتأسيسها على أحكام الشريعة السلفية.

فالصمت إذن ليس دليلاً كاملاً، وسيبقى صمت التيار الاصلاحي الوطني ظرفياً وانتظارياً، من أجل مرور سحابة الاصلاح المصطنعة من قبل العائلة المالكة، واذا كان للأخيرة فرض الواقع وتغييره وفق مرئياتها باعتبارها تملك أغلب أدوات الهيمنة والتعبئة، الا أن هذا التغيير يظل هو الآخر ظرفياً ما لم يحصل على قبول المعنيين، وكما أخفت الاصلاحات السابقة في أن تحظى بقبول أغلب القوى السياسية والاجتماعية فإن مصير الاصلاحات الاخيرة سيكون مماثلاً، وأن الاصلاح سيكون سجالاً بين الحكومة والتيار الاصلاحي.

لاشك أن ظروف المرحلة الراهنة تختلف كثيراً عن ظروف أزمة الخليج الثانية، حيث لم تكن المنطقة ولا العالم تشهد هذا التحول الكبير، فالموجة الديمقراطية تتصاعد في أرجاء المنطقة، وأن إرادة التغيير هي الاقوى ليس في السعودية فحسب، ولدى التيار الاصلاحي الوطني فحسب، بل ولدى المجتمع الدولي، الذي يرى في الديمقراطية حلاً لمشكلة الارهاب والعنف، اضف الى ذلك أن المشكلات الاقتصادية والامنية والاجتماعية في الداخل تفرض نفسها بقوة على العائلة المالكة من أجل التعامل بجدية أكبر مع الموضوع الاصلاحي، الذي لم يعد مجرد مطلب خاص بتيار منفصل عن المجتمع، بل إن التقاء القوى السياسية الدينية والوطنية في تيار وطني موحد يؤكد على أن الاصلاح مطلب شعبي بدرجة أساسية، وليس بإمكان العائلة المالكة التعاطي مع الشأن الاصلاحي بوسائل تقليدية كما السابق، حيث تصطاد الرؤوس المدبّرة وتقطع رأس الافعى بحسب تعبير أحد الأمراء لتتوقف حركة الاصلاح.. لا ليس الأمر كذلك، فإن التيار الاصلاحي بات اليوم المصداق الحقيقي لارادة الشارع، وأن مطالبه تحظى بمصداقية أكبر مما كانت عليه في الماضي، وهذه المصداقية لا تقتصر على الداخل بل وحتى على المستوى الدولي الذي بات ينظر الى رشد ونضج التيار الاصلاحي بعين مختلفة، أكثر انبهاراً بالتفكير الاصلاحي..

الانتخابات البلدية بدأت في الرياض بإقبال صغير للغاية، ولم يكن الناتج منها مغرياً، ولاريب أن المستوى المتدني للاقبال يعكس الى حد كبير الاحباط الشعبي، أو قلة البضاعة المغرية، بالنظر أيضاً الى السقف الاصلاحي الرفيع الذي وصل اليه التطلع الشعبي.. لقد غاب الاصلاحيون في الرياض عن الانتخابات البلدية وكان متوقعاً، فهم لم يراهنوا على تغيير بهذا التسافل.. كان غياباً مقصوداً وحق لهم ذلك، فالتضحيات التي قدموها من أجل منجز اصلاحي كبيرة لا تقبل ثمناً تافهاً بهذا الحجم، وحتى الذين خانتهم لياقتهم السياسية والوطنية واكتفوا بقبول اصلاح الخطوة خطوة وأشادوا بقطرات الدولة من أجل امتلاء البحر، قد تنطعوا في مباركة هذا التغيير الشكلي.

تدرك العائلة المالكة سر اختفاء رموز التيار الاصلاحي عن الاحتفالية الوهمية للانتخابات البلدية، لأن الاختفاء هنا يصبح موقفاً سياسياً، ولاشك أن مثل هذه المناسبة أرادت الحكومة منها تعبئة المجتمع خلفها ومباركتها.. وبطبيعة الحال، فإن تدني الاقبال على التصويت في الانتخابات البلدية في الرياض قد لا يعكس الحالة نفسها في المنطقة الشرقية، وأن الاقبال الكبير المتوقع فيها لا يعكس قبولاً تاماً بالمنجز الاصلاحي الرسمي، وإنما يندرج في سياق آخر يعبر عنه بالتجاذبات الاجتماعية والرغبة في تحقيق الذات، وخصوصاً بالنسبة للشيعة الذين يجدون فرصة في الانتخابات البلدية للتعبير عن ذاتهم بعد تغييب لفترات طويلة.

بالنسبة للاصلاحيين في الحجاز، فإن الانتخابات لا تشكل هاجساً ولا موضوعاً يجلب الاهتمام الزائد، فأهل الحجاز ليسوا بحاجة الى انتخابات تجاوزها الزمن، ولا يخدعوا بمثل هذا الطعم، كيف به إن لم يكن مغرياً.. ليس هناك أجواء احتفالية للانتخابات البلدية في الحجاز، لأنها تقع خلف التطور التاريخي لمنطقة الحجاز التي احتضنت تجارب انتخابية متقدمة بما فيها انتخاب أول مجلس للشورى فضلاً عن انتخاب اعضاء المجالس البلدية، فليس هناك ما هو جديد أو مغرِ في الانتخابات البلدية، بل هناك أكثر من سبب لاهمالها.

الصفحة السابقة