الشرطة الدينية، المطاوعة، رجال الهيئة

معاناة مجتمع ومصدر بقاء الدولة

الهيئة تداهم وكراً للدعارة.. الهيئة تقبض على مشعوذات.. الهيئة تداهم مطعماً يرتاده الشواذ.. الهيئة تقتحم بيتاً في حي وبداخله كميات من الخمر والحشيش.. الهيئة تحتجز عمال أجانب لا يلتزمون بقرار إغلاق المحال التجارية في أوقات الصلاة.. الهيئة تلقي القبض على شبكة عصابة من الاحداث.. الهيئة تعتقل.. تضرب.. تجلد.. هي كل ذلك، وفوق ما يخطر في البال.

ابراهيم الغيث رئيس الهيئة

فتحت ملفاً مرئياً بعثه لي أحدى الاصدقاء يحتوي على مشهد بالغ الاثارة، التقطته إمرأة من سيارة مليئة بالنساء وهن يصرخن بأنفاس متقطعة ومذهولة لفريسة وقعت في يد رجال الهيئة.. بصوت يبعث على الفزع، تصايحت عائلة الشاب وهو بين أيدي رجال الهيئة وقد انهالوا عليه ضرباً وعصراً، ثم دفعوا به بقوة الى داخل سيارة الجيب، وتحديداً في الموقع المخصص للحقائب، وفيما صرخت إمرأة من داخل السيارة في هؤلاء بأن من وجدتموها معه هي أخته، ولكن ضاع صوتها في الهواء فقد أنهى رجال الهيئة مهمتهم البطولية واقتادوا الفريسة إلى أحد مكاتبهم فيما بقيت أخت الشاب وأفراد عائلته يبكون وهم يدعون ويشتمون هؤلاء الرجال الذين بدوا في حالة هستيرية، وكأنهم قد ألقوا القبض على زعيم شبكة عصابة، في مشهد لافت أمام المارة الذين تجمهروا على مسافة احترازية خشية الوقوع في قبضة هؤلاء الذين هبطوا كمخلوقات عجيبة من كوكب آخر للاقلاع بضحيتهم.

صورة تكاد تكرر نفسها يومياً في مختلف مناطق السعودية، حيث تكمن سيارات تابعة للشرطة الدينية المعروفة بـ (هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) والتي تمتد مظلة صلاحياتها الى مجالات خارج الاطار التنظيمي لعمل الهيئة، حيث يصبح المجتمع بأسره خاضعاً تحت سلطة رجال هذه المنظمة التي ليس هناك ما يحد من سلطتها المضطردة. لايحول دون إلحاق الأذى النفسي والبدني بالضحايا سوى خطاب اعتذار يصيغه متقنون لفن حياكة العبارات الدينية المطرّزة بآيات قرآنية وأحاديث نبوية تحثّ على العفو عن المسيء، والصفح عن المخطىء بلا قصد.. وكان من صاغ هذا الخطاب الاعتذاري التبريري أولى بتطبيق هذه المبادىء الاسلامية الكبرى على نفسه وعلى من يضطلع بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدلاً من إشاعة الهلع في قلوب الناس الذين يؤخذون على الظنة والشبهة دون مراعاة لضوابط قانونية ودينية واجتماعية.

مازالت حادثة مقتل 15 فتاة في مارس 2002 حاضرة بسطوة وتبعث على الأسى والحنق من تصرفات المنسوبين للمنظمة الدينية الذين منعوا 800 طالبة من الهرب من مدرسة في مكة المكرمة، بل قام بعضهم بضرب الفتيات لمنعهن من مغادرة المدرسة التي كانت تلتهمها النيران بحجة أنهن لم يرتدن العباءة، بل منعوا رجالاً آخرين من مساعدة التلميذات وحذروهم من أن (مس الفتيات يعتبر ذنباً)!!

كثيرة هي أخطاء هذه المنظمة الدينية، وضحل هو منسوب وعي رجالها، وعبثية هي إجراءاتها، حيث لا يتم احتواء الاخطاء الا بعد أن تركت الكدمات واللكمات بصماتها السوداء على وجوه الضحايا. ولكل هؤلاء تجارب مماثلة من حيث ظروف التوقيف، وطريقة المعاملة، وأدوات المعروف المستعملة!. يقول أحدهم: كنت أسير في شارع صفوان التميمي بحي منفوحة عند الساعة 9:30 مساء وإذا بثلاثة رجال يهجمون عليّ من الخلف حيث قاموا بضربي ضرباً مبرحاً ومزّقوا ملابسي واقتادوني إلى سيارة مدنية وأركبوني فيها بالقوة وأنا في حالة ضعف وهوان من شدة ما تعرضت له من الضرب أمام أعين الناس. وحين طلب منه رجال الهيئة إبراز بطاقته المدنية قالوا له ببساطة: (لم تكن أنت الرجل المطلوب لدينا ونحن نعتذر منك ونرجو منك قبول اعتذارنا عن هذا الخطأ غير المقصود. كل ذلك بعد أن أهانوا كرامتي أمام المارة وألحقوا بي الضرر في عيني اليمنى وبعض الكدمات).

وفي مارس من العام الماضي قام إثنان من رجال الهيئة مع عسكري بالاعتداء على مواطن وزوجته، ونقلت صحيفة (الوطن) أن مواطناً في العقد الرابع من عمره فوجئ باندفاع شخصين يستقلان سيارة صغيرة بيضاء ويرتديان ثيابا مدنية يقفان خلف سيارته حين كان يهم بركوبها بصحبة زوجته مما دعاه أن يطلب من الزوجة ضرورة الدخول إلى العمارة بقصد حمايتها لاعتقاده أن الأمر محاولة (اختطاف).

وأثناء ذلك لحق الشخصان بالمرأة في محاولة للقبض عليها حيث أمسك أحدهما بعباءتها في الوقت الذي كانت تحاول فيه إغلاق الباب الخارجي للعمارة، بينما تمكن الزوج من الإمساك بأحدهما والاشتباك معه.

واصل أحد الشخصين محاولته سحب الزوجة إلى خارج العمارة بواسطة عباءتها غير أنها استطاعت الإفلات والدخول إلى شقة أحد الجيران بعد أن فتح باب شقته المحاذية لشقتهما إثر سماع أصوات الصراخ في الخارج في حين سقطت العباءة عند باب العمارة الخارجي. في تلك الأثناء، وصلت سيارة (جمس) رسمية تابعة للهيئة إلى المكان يقودها أحد منسوبي الهيئة بصحبة رجل أمن والذي انهال على الزوج بالضرب بواسطة 'القايشب ثم أركبه إلى السيارة، وأكمل ضربه بينما خرج عدد من الجيران يستنكرون الحادثة، مؤكدين أن الرجل المعتدى عليه هو جارهم ومن معه هي زوجته. ولم يكتف رجال الهيئة بشهادة الجيران، بل قاموا باقتياد الزوج بعد أن صادروا مقتنياته الشخصية من جوال وكمبيوتر محمول الى مركز الهيئة بحي الملك فهد، وبعد برهة من الوقت أعادوه الى مسكنه على أن يتابع الزوج المركز للحصول على مقتنياته الشخصية!

ونقلت زميلة إحدى ضحايا الهيئة بأن رجلاً ملتحياً انقض من سياره كامري على طالبه واقفه امام بوابه جامعة الملك سعود.. ليسحب جوالها من يدها ويجرها من حقيبتها وعندما قاومته ضربها بالحقيبه وأمام الماره.. وامام الزجاج العاكس، في مرأى ومسمع جميع الطالبات اللاتي كن ينتظرن عند بوابة رقم ثلاثه بجامعة الملك سعود بالملز للأقسام العلميه والدراسات الطبيه، اتضح فيما بعد انهم من رجال الهيئه وكانوا متنكرين في كامري، وقد قاموا بسحب الفتاة معهم، بحجة أنها نزلت من سيارة شخص ولم تدخل للجامعه بل انتظرت امام البوبة كغيرها من الطالبات.

وقد أثار المشهد إستياء هيئة التدريس في الجامعة كما استهجنه الذين شاهدوا منظر هؤلاء الرجال وهم يسحبون فتاةً للزج بها في سيارة أمام مرأى ومسمع المارة، ثم سحبها بطريقة مهينة ومصادرة مقتنياتها الخاصة.

وفي وادي الدواسر، قام أحد منسوبي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باقتحام ثانوية اللدام الأولى للبنات في وادي الدواسر وقام بإطلاق النار على شخص أدى الى وفاته. وكان هذا الرجل يحمل السلاح ويتجول به داخل المدينة إضافة الى الاشتباك به واستخدامه للقتل واطلاق النار. وقد رفضت الهيئة تقديم تفسير واضح لسبب اقتحام المدرسة ومباشرة اطلاق النار.

وفي حادثة أخرى مثيرة، ألقى رجال من هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على إمرأة فيلبينية في مارس الماضي بعد عام من اعتناقها الاسلام! وكانت تتجول مع زوجها في أحد أسواق حي البطحاء في الرياض، بتهمة (الخلوة غير الشرعية)!! بالرغم من عقد النكاح الذي أبرزه الزوج قبل اعتقاله. وبالرغم من صدور خطاب من هيئة التحقيق والادعاء العام يفيد بشرعية عقد الزواج ويتضمن أمراً بالإفراج عن العاملة. واستنكر محامي الزوج والزوجة من الجنسية الفيلبينية، قائلاً: (تم القبض على الزوجين على رغم وجودهما في مكان عام، وليسا في شبهة بحجة أن غالبية الأسر الفيلبينية في السعودية غير متزوجين بصفة شرعية، ولم تفلح محاولات الزوج في شرح موقفه، إذ إن عقد الزواج ـ الموثق من السفارة الفيلبينية ـ مكتوب باللغة الإنكليزية).

وقد ارتفع في السنوات الاخيرة عدد الحالات التي شهدت مخالفات صريحة وتتسمة بالهمجية من قبل منسوبي هذه المنظمة التي يعتبرها البعض عاملاً أساساً في استقرار النظام السعودي. قصص الانقضاضات التي يرويها الضحايا تشتمل على تفاصيل معاناة عاشها هؤلاء، وتعكس الى حد كبير السلطة المطلقة التي منحت اليهم من قبل الدولة، كما تعكس في الوقت ذاته ضحالة الوعي الثقافي والاجتماعي والديني لدى كثير من المنتسبين للهيئة، الأمر الذي يثير أسئلة حول الوظيفة الحقيقية التي يزاولها هؤلاء!!

على محك الشريعة

تحالف الاستبداد السياسي مع التطرف الديني

يعقد الضحايا والمتضررون مقارنة بين سلوك الهيئة المشتمل على كثير من الاقترافات الخطيرة المخالفة للنصوص الدينية الواضحة وكذلك سيرة الصحابة والسلف. فقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم بحسب رواية المقدام بن معدي كرب عن أبي أمامة قائلاً: إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم. وقد حذّرت آيات القرآن الحكيم من التجسس ومراقبة الناس (ولا تجسسوا)، وحذّرت من الظن السيء (إن بعض الظن إثم)، ودعت الى الحكمة في التبليغ (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)، وأسبغ على المؤمنين صفة الرحمة (رحماء بينهم)، وحذّر رسول الاسلام والانسانية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من سبر النوايا، ففي القصة المشهورة التي جرت لأسامة بن زيد على مكانته في الاسلام وهو الذي تسمى جيش المسلمين بإسمه (جيش أسامة) ، الا أنه حين قتل إمرءاً بعد أن شهد أن لا اله الا الله، وبّخه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال له أقتلته بعد أن قالها، فلما قال له بأنه إنما قالها خوفاً وليس إيماناً، فأجابه المصطفى: هلاّ شققت عن قلبه. وفي ذلك درس بليغ وتحذير شديد من أخذ الناس على غير ظاهرهم. وأن المتسالم عليه هو قبول ما عليه ظاهر المسلم وليس لأحد أن يشارك الله سبحانه وتعالى فيما اختص به، وهو العالم بالخفايا وما تنطوي عليه النوايا.

ويكاد فقهاء وعلماء المسلمين قاطبة يجمعون على التثبّت من وجود منكر ظاهر يراه الناس كأن يشرب شخص الخمر أمام الملأ وفي الاسواق العامة، دون تجسس أو تفتيش، وقد روى ابو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ولا تجسسوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباداً الله إخواناً) وفي هذا الحديث تأكيد للآية الكريمة (ولا تجسسوا..الآية). كما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطريقة تفضي الى زوال الأثر، بمعنى أن الآمر بالمعروف يلزم تحليه بصفات مؤثرة في النفوس وليست منفّرة كما هي الصورة التي رسمها رجال الهيئة عن أنفسهم بفعل الطبيعة البدائية والخشنة والحادة التي يتسم بها سلوكهم.

وقد روي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال (إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة). وهذا يدلل بوضوح على حرمة التجسس بصورة مطلقة، وأن الاصل هو التعامل مع الناس بحسب ظواهرهم لا بواطنهم.

وقد نقل القرطبي في الجزء السادس عشر من تفسيره المعروف بـ (تفسير القرطبي) عن عبد الرحمن ابن عوف قوله: حرست ليلة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة إذ تبين لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى قلت أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه قال الله تعالى: (ولا تجسسوا) وقد تجسسنا فانصرف عمر وتركهم. وقال أبو قلابة حدث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته فانطلق عمر حتى دخل عليه فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن إن هذا لا يحل لك قد نهاك الله عن التجسس فخرج عمر وتركه.

وعن زيد بن وهب قال أتى ابن مسعود فقيل هذا فلان تقطر لحيته خمرا فقال عبد الله إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا ينفذ به.

فليس من الاسلام في شيء من يتربّص بعباد الله في كل زاوية وزقاق وعمارة من أجل اقتناص شخص متلبّس بالمنكر، وفي ذلك هتك لستر أراد الله صيانته، فقد أراد الرب الجليل العزيز حفظ أعراض الناس وسترها لا فضحها والتشهير بها، وقد أمر رسول الرحمة أصحابه بدفع الاذى بأشكاله المختلفة، ودعا الى الرفق في الحال كله، وأوصى المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه قائلاً (يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفروا)، وقد كشفت الحوادث التي وقع فيها رجال الهيئة في مخالفات صريحة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد عسّروا على أناس ونفّروهم من الدين، حتى صارت ألسنة الناس تلهج بالنقد والدعاء ضد رجال الهيئة ومن يدعمها.

وبرغم ما يقال عن التزام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنظام الاجراءات الجزائية، وبخاصة القبض على المتهمين في حالة التلبّس بالجريمة، وحالة الندب من قبل سلطة التحقيق (هيئة التحقيق والادعاء العام) الا أن قصص المخالفات التي يرويها الضحايا في أرجاء مختلفة من المملكة، تكشف عن أن تمادياً فاضحاً، فكثير من المنتسبين الى هذه المنظمة الدينية الرسمية يفتقر الى وعي قانوني وديني يرسم حدوداً واضحة لوظائفهم ويحول دون اقتراف انتهاكات صارخة وطفولية ضد حرمات الناس. الانكى، أن هذه المنظمة الدينية تحظى برعاية ودعم الامراء الكبار وخصوصاً وزير الداخلية الامير نايف وأمير الرياض سلمان، بالرغم من إدراكهم التام بالاخطاء الفادحة التي يرتكبها رجال الهيئة. يوهم المدافعون عن الهيئة والدولة معاً بأن ثمة ضوابط قانونية وضعها نظام الاجراءات الجزائية في المملكة، وهي المسؤولة عن كبح جماح رجال الهيئة من الوقوع في الخطأ. فبحسب المرسوم الملكي بتاريخ 28 رجب 1422هـ، ينص نظام الاجراءات الجزائية على (إن الإنسان بحكم طبيعته له أسراره الشخصية، ومشاعره الذاتية، وخصائصه المتميزة، وحياته الخاصة، وتقتضي حرمة هذه الحياة أن يكون له الحق في إخفاء السرية على مظاهرها وآثارها). ونصَّت المادة الأربعون من نظام الإجراءات الجزائية على أن: (للأشخاص ومساكنهم ومكاتبهم ومراكبهم حرمة تجب صيانتها. وحرمة الشخص تحمي: جسده وملابسه وماله وما يوجد معه من أمتعة، وتشمل حرمة المسكن: كل مكان مسور أو محاط بأي حاجز، أو معد لاستعماله مأوى). كما نصّت المادة السابعة والثلاثون من النظام الاساسي للحكم والصادر في مارس 1992 بأن (للمساكن حرمتها، ولا يجوز دخولها بغير إذن صاحبها ولا تفتيشها إلا في الحالات التي يبينها النظام).

فهذه التشريعات لم تضع حداً لتغوّل دور الشرطة الدينية، الذين يمتثلون لتشريعات خاصة بهم وضعت من قبل الايديولوجيين الدينيين الذين يصوّرون المجتمع على كونه جاهلياً يجب أن يعاد تأهيله إيمانياً، وأن يتعرّض فيه المخالف لأقصى العقوبات المقررة في شريعة هؤلاء الايديولوجيين. ليس مستغرباً، أن يمارس رجل الهيئة دور الداعية أحياناً فيطالب ضحاياه ممن على غير العقيدة السلفية بتغيير معتقداتهم كبديل عن العقاب المقضى. فحين تكون نظرة رجل الهيئة صورة طبق الاصل للكتلة العقائدية القيادية يصبح المجتمع بالنسبة لرجال الهيئة ساحة مواجهة بين الايمان والكفر.

المرسوم الجديد.. تقليص أم تحوير

يدرك ضحايا هذه المنظمة الدينية الأمنية قبل غيرهم بأن الاخيرة أدمنت اختراق الحدود والحرمات، وبالتالي فهي لن تقبل بإجراءات تلطيفية تحدّ جزئياً من صلاحياتها، فرجالها يضعون أرجلهم في جبهة الامن كما يضعونها في جبهة الدعوة، بمعنى آخر هم يمارسون سلطة سياسية واجتماعية. ما تم الاعلان عنه في الخامس والعشرين من مايو الماضي أن تعزيزاً قد تمّ لدور المنظمة الدينية في المجتمع وتقليص دورها في السياسة، بنقل سلطة الاحتجاز الى هيئة أمنية أخرى، في لعبة كراسي متهالكة. المرسوم ذاك الصادر ينص على أن دور سلطات هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ينتهي باعتقال الافراد المشتبه فيهم وتسليمهم إلى الشرطة، التي تقدمهم بدورها للمدعين مع تقرير حول الحادث المعني.

وفيما يبدو، فإن ثمة إصراراً شديداً من قبل الامراء الكبار وخصوصاً نايف وسلمان وسلطان على تعزيز دور هذه المنظمة الدينية ذات الطابع الأمني، كونها تسهم بدرجة فاعلة في ترسيخ السلطة وتعزيز أركانها، وأن مجرد وقوع مخالفات مهما بلغت فداحتها فإنها تؤدي غرضها في ضبط الاوضاع السياسية في وقت أصاب الوهن جسد الدولة وتعرّضت هيبتها للعصف العنيف خلال السنوات الاخيرة. وهناك من يرى بأن الاعلاء من دور الهيئة بات ضرورياً في زمن العولمة، يستدعي معه الدور الذي لعبته في سنوات التحديث، بالرغم من أن الظروف الحالية تختلف كلياً عن السابق، بالنظر الى منسوب الوعي السياسي والثقافي لدى فئات المجتمع، والطبيعة الاكتساحية لتيار العولمة والانفتاح الذي يغمر الفضاء العام. يوحي بعض الأمراء الى رجال الدين المقرّبين بأن وجود الهيئة تأكيد على العلاقة المصيرية بين السلفية الوهابية والسلطة السعودية (دين ودولة)، فيما يفهم المراقبون هذا التأكيد على أنه بمثابة تعويض نفسي عن الخسارة الكبيرة التي تكبّدها التيار الديني بفعل الاجراءات المتوالية المتعلقة بدرجة تغلغل السلفية في أجهزة وبرامج الدولة.

في 29 مايو الماضي طمأن وزير الداخلية التيار الديني حيال المرسوم الاجرائي الخاص بتنظيم عمل الهيئة بقوله إن (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة بواجباتها ونفى أن تكون قضية إحالة قضايا المعاكسات إلى التحقيق والادعاء العام تقليصاً لدورها، فالدعم مستمر لها كونها تشكل ركن من أركان الإسلام الفقهية). وكشف الامير نايف، الداعم الأكبر للهيئة، بأن اجراءات إحالة قضايا المعاكسات الى التحقيق العام لن يحرم رجال الهيئة من سلطة مطلقة تمتعوا بها زمناً طويلاً، فقد أكّد على (أن رجال الهيئة سيشاركون في التحقيق بحكم الاختصاص). وفي تلطيف واضح الغرض منه قال الامير (نحن لا نريد أن نحملهم أعباء أكثر والحمد لله فرجال هيئة التحقيق والادعاء العام هم على مستوى جيد من التأهيل الشرعي فهم يماثلون إخوانهم رجال الهيئة. ومن الممكن التنسيق مع رجال الهيئة بأن نشرك أحد رجال الهيئة بالتحقيق، والذي سوف يوثق أمام القضاء هو الادعاء العام لذلك هيئة التحقيق والادعاء العام مهمتها أن تتولى التحقيق وتمثل الادعاء).

يشيد رؤوساء الهيئة على الدوام بدعم الامير نايف الذي يتقاسم معهم مصلحة مشتركة أمنية وإجتماعية وسياسية فقد أثنى عبد الكريم التويجري المدير العام بالهيئة على تصريحات الامير نايف الداعمة لدورها وقال في مقالة نشرتها صحيفة الشرق الاوسط أن (ولاة الامر في مهبط الوحي حرصوا باستمرار على قيام الهيئة بدورها وان أكبر شاهد على ذلك ما صرح به الامير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية يوم الاحد 18 ايار/مايو في مؤتمر صحفي اذ ذكر أن الهيئة باقية ما بقي الوطن وأنها ركن أساسي في حكم الدولة الاسلامية). وأضاف (هذا دلالة كبيرة على حرصه وحبه ودعمه للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ورغبته في ايضاح اللبس والخلط والتجني الذي يطال جهازاً من أجهزة الدولة).

ومن الواضح، فإن الامير نايف الخاضع تحت ضغوطات عليا وشعبية من أجل كف أيدي رجال الهيئة عن النيل من حرمات الناس، بعد أن تزايد عدد الاختراقات المشينة لحقوق الافراد وحرياتهم عبر التجسس والتفتيش والمداهمات الفجائية للمساكن الخاصة، يلجأ الى التغييرات الشكلية القائمة على بعث مرسومي قديم، أو العمل وفق نظام اجرائي تم اصداره سابقاً ولكن جرى تجميده كما هو الحال بالنسبة للمرسوم الاخير الصادر منذ عدة سنوات، والقابل أيضاً للتجميد في وقت لاحق في حال قررت الحكومة العودة عنه الى غيره. بكلام آخر، ليس هناك قوة للقانون بقدر قوة الواقع، فحين يفرض الواقع نفسه على الدولة يصبح قانوناً استثنائياً وظرفياً، فإذا ما حافظ الواقع على مستوى قوته يعني ادامة القانون لفترة أخرى، وللعائلة المالكة حينئذ أن تتوسل بالمقولة الهالكة: لقد قررنا ذلك من قبل. تماماً كما قال أحد الأمراء حين طالب الناس بمجلس للشورى منتخب، بأن الملك المؤسس قد أرسى الديمقراطية والشورى في البلاد قبل ذلك. ولكن، عاشت البلاد تحت نير استبدادية مطلقة طيلة تاريخ الدولة السعودية.

يبقى القول، بأن الامير نايف الذي يربط مصير الهيئة بمصير الدولة يدرك تماماً بأن الايديولوجية الدينية وحدها الضمانة الوحيدة لتماسك السلطة والدولة، لاستنادها على قاعدة نجدية سلفية، وأن إضعاف دور الايديولوجية الدينية السلفية النجدية يفضي الى فصل القاعدة عن البناء. فالمشروعية الدينية للدولة تظل منقوصة كونها تقتصر على إقليم نجدي يشكّل الحاضنة الأم للعقيدة السلفية، التي لو تخلت الدولة عنها لفقدت رصيدها الديني والشعبي النجدي، وبالتالي فإن مايقوم به الأمراء إزاء ضغوطات الداخل والخارج لتخفيض دور المؤسسة الدينية ليس أكثر من تكثيف صدى الجعجعة لايهام الآخرين بأن ثمة تغييراً جوهرياً وكبيراً قد حصل داخل بنية المؤسسة الدينية، وفي الحقيقة، أن الأمر لا يعدو كونه استبدالات وهمية لمواقع أو تحويرات يراد منها احتواء الضغوطات المتراكمة على الدولة وولاة أمرها.



الصفحة السابقة