بعد إغلاق ملف رشاوى اليمامة

ديكتاتورية السعودية تدحر الديمقراطية الغربية

يجب الإقرار بأن السعودية حققت انتصاراً باهراً على الغرب الديمقراطي، فقد نجح الذهب الأسود في إشعال حريق هائل في القيم الغربية وأحالها الى مجرد قطع خشبية متفحّمة. تسارعت خطى النظم الديمقراطية الغربية على وقع إرتفاع المداخيل النفطية في الرياض، وكثّف القادة الغربيون من واشنطن الى باريس مروراً بلندن من اتصالاتهم وزياراتهم الى الرياض بغية الحصول على شيء من البترودولار.. ولكن لا يوجد دولة انتهازية مثل بريطانيا. كانت كذلك وستبقى، ولا قيمة لمزاعم القيم وحتى القانون.

اليوروفايتر

الحجة التي قالتها الحكومة البريطانية في منعها التحقيق في رشاوى التورنادو هو أنه سيؤثر على الصفقات التالية، ويعرض المصالح البريطانية للخطر. وحاولت أوساط حكومية إعلامية خاصة البي بي سي الترويج الى مزاعم تقول أن ما يعتبر خرقاً للقانون في بريطانيا مثل الرشاوى، لا يُنظر اليها كذلك في السعودية! هكذا! نظراً ـ كما يقولون ـ لاختلاف منظومة القيم بين البلدين. بمعنى آخر، إن قيم السعودية تبيح الرشوة والفساد والنهب، وبالتالي يجب التعامل مع آل سعود وفق منظومتهم الثقافية التي تبيح ذلك!

لكن إيقاف التحقيق لم يمرّ دون شكوى وتحدّ، ولازالت الحملة المضادة لبلير قائمة، خاصة من الصحف البعيدة نوعاً ما عن الحكومة كما في الغارديان والإندبندنت.

حزب الديمقراطيين الأحرار، وهو ثالث حزب في بريطانيا، ولازال يواصل صعوده السياسي بشكل مدهش، هاجم قرار مكتب جرائم الإحتيالات الخطيرة وقف التحقيق الذي يجريه بشأن عمليات فساد تتعلق بصفقة أسلحة ضخمة أبرمتها بريطانيا مع السعودية، وانتقد تبرير الحكومة بأن قرار وقف التحقيق يهدف إلى حماية مصالح بريطانيا وأمنها القومي، واتهم الحكومة بوضع المال قبل المبادئ.

جاء ذلك على خلفية مزاعم تفيد بتهديد السعوديين بإلغاء صفقة ملحقة باليمامة لشراء مقاتلات يوروفايتر قيمتها 10 مليارات جنيه إسترليني ما لم يوقف المكتب التحقيق ومنحوا لندن مهلة 10 أيام. ووصف النائب عن حزب الديمقراطيين الأحرار نورمان لامب قرار وقف التحقيق بأنه (مخجل وشنيع ويسيء إلى سمعة المملكة المتحدة)، وتساءل: (كيف يمكن لنا بعد الآن أن نحاضر أمام العالم النامي بعلم السياسة)؟.

من جهته دافع توني بلير عن قرار إيقاف التحقيق وقال: (إن العلاقات التي تقيمها بريطانيا مع السعودية مهمة للغاية، وإنطلاقاً من ذلك فإن إستمرار التحقيق من شأنه أن يسيء إلى هذه العلاقات ويضر بالمصالح البريطانية). واضاف: (واجبي كرئيس للوزراء أن أقدم النصحية حول الأمور التي تخدم مصالح بريطانيا الوطنية ومصالحها الإستراتيجية وليس لدي أدنى شك إطلاقاً في أن القرار الصحيح اتخذ في هذه القضية وأنا أتحمل المسؤولية الكاملة عن هذه النصيحة) مشدداً على أن إستمرار التحقيق والمضاعفات التي يمكن أن تنجم عنه (من شأنه أن يثير أجواء عدم الإرتياح لشهور أو سنوات طويلة بيننا وبين شريك رئيسي وحليف قوي في المنطقة).

كان الجميع يدرك بأن هناك ضغوطاً سعودية بريطانيا على التحقيق، وكانت صحيفة ديلي تلغراف نقلت عن النائب البرلماني نورمان لام قوله: إذا كان هناك من يمارس الضغوط على المدعي العام، فإن ذلك أمر مخز، وعلى من سن قانونا لمكافحة الفساد المالي ان يتحمل عواقبه مهما قست. الصنداي تايمز (17/12/06) نسبت الى أحد كبار المحققين قوله أن الوزراء البريطانيين تعرضوا للإبتزاز من قبل الحكومة السعودية من أجل إيقاف التحقيق الذي يطال أمراء كبار في العائلة السعودية المالكة. وقال روبرت واردل أن رشاوى الستين مليون جنيه استرليني التي منحت كرشاوى تعرض التحقيق بشأنها (الى ضغوط صريحة) من السعوديين بإيقاف الصفقة وكذلك التعاون الأمني بين البلدين.

وقد سبب ايقاف التحقيق هيجاناً في البرلمان البريطاني، وقال برلمانيون معارضون بأن ما حدث يُظهر وكأن بريطانيا تتصرف كأحدى (جمهوريات الموز). وقال واردل ان المدعي العام غولد سميث، وبالرغم من شعوره بأن هناك حاجة للتحقيق، وأن مواصلته لن تؤدي الى فعل أي شيء للأمراء إذا ما قدموا لبريطانيا، ولكن ذلك الإستمرار سيؤدي الى كثير من الأضرار لبريطانيا.

من بين تلك الأضرار، ليست فقط خسارة صفقة التسلح، ولكن وحسب مصادر مسؤولة في وزارة الدفاع البريطانية فإن السعوديين هددوا بوقف مدّ بريطانيا بمعلومات استخباراتية حيوية عن القاعدة، وحسب مصدر بريطاني فإن مساهمة السعوديين في المعركة ضدّ القاعدة لا يمكن الاستهانة بها (فالسعوديون مهمون جدا في هذا الجانب). لكن آخرين قالوا بأن معلومات السعوديين يمكن الإستغناء عنها، فضلاً عن أن بريطانيا تزود السعودية ـ في المقابل ـ بمعلومات استخباراتية عن إيران. وقيل أن السعوديين هددوا بأنهم سيطردون عسكريين ورجال استخبارات بريطانيين موجودين في المملكة. وقد شعر البريطانيون بأن السعوديين يمكن ان يتمادوا الى أبعد الحدود في اتخاذ إجراءات لإيقاف التحقيق وبأي ثمن. وهذا جعل البعض في لندن يزعم بأن الخمسة آلاف بريطاني الموجودين في السعودية والعاملين في شركات خاصة يمكن أن يتعرضوا للخطر في حال تدهورت العلاقات بين البلدين.

الأوبزيرفر (17/12) قالت في افتتاحيتها أن الحكومة البريطانية خضعت للإرادة السعودية بوقفها التحقيق في صفقة اليمامة وقدمت (تبريرات سياسية منها أن العلاقات السعودية البريطانية استراتيجية وهامة، فالمملكة من وجهة نظر بريطانيا الرسمية أغنى بلد نفطي في العالم، وفيها مدينتا مكة والمدينة أكثر المدن الإسلامية قداسة دينية، وهي بالتالي أهم بلد في العالم الإسلامي، وزيادة على ذلك فإن السعودية تنافس إيران على قيادة مسلمي العالم). واعتبرت الصحيفة ان التحالف مع السعودية ربما يكون مؤقتاً وضاراً كون السعودية تمثل (مصدر التمويل للجهاديين، وأن نظامها قمعي وقاس، ولا أحد يستطيع التنبؤ بمصير ترسانة الأسلحة التي ستشتريها السعودية من بريطانيا فيما لو سقط نظام آل سعود).. وتساءلت الصحيفة: (لماذا تلجأ الحكومة البريطانية إلى كسر القانون البريطاني لإرضاء السعودية؟).

وفي سياق الحملة العنيفة ضد قرار بلير بتوقيف التحقيق، وأنها تخرق قوانين بريطانية محلية، هددت منظمة تناهض تجارة السلاح، ومقرها لندن، هددت باللجوء الى القضاء لمحاسبة حكومة بلير، ورأت أن ديمقراطية بريطانيا لا يجب أن تستسلم لشركات السلاح. وقال نيكولاس غلبي من المنظمة، إنه كان على الحكومة السماح لمكتب مكافحة الفساد باستكمال تحقيقاته، مضيفاً أن التزام الحكومة بمحاربة الفساد لا يعني شيئاً إذا وضعت شركة BAE Systems فوق القانون، فالديمقراطية يجب أن لا تستسلم لاستبداد شركات الأسلحة). وتابع بأن (البريطانيين يتوقعون ان تخضع مجموعة بي ايه اي سيستمز للقوانين نفسها شأننا جميعا، لكن هذا القرار يدل على ان الامر ليس كذلك. ونحن نثق في الطعن في هذا القرار امام المحاكم).

وأمهلت هذه المنظمة اضافة الى منظمة ذي كورنر هاوس التي تكافح بيع الأسلحة، بلير والمدعي العام اسبوعين كي يستأنفا التحقيق قبل ان تتقدما للقضاء ضدهما، كون قرار التوقيف يشكل انتهاكاً للمادة الخامسة من معاهدة منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية حول مكافحة الفساد والتي وقعتها بريطاني في ديسمبر 1997، حيث تفيد المادة بأن اي تحقيق حول الفساد في بلد يستهدف مسؤولا رسميا اجنبيا يجب ان لا يخضع لاعتبارات تتعلق بالمصالح الاقتصادية او انعكاساتها على العلاقات بين البلدين.

من جهته قال رئيس اتحاد المحامين الليبراليين الديمقراطيين اللورد ليستر، إن على بريطانيا أن تضغط بسرعة من أجل تغيير القانون وذلك لوقف التدخل السياسي في تحقيقات الفساد، منبهاً إلى أن الأمر الخطير في هذه القضية هو تهديد حكم القانون وتهديد سمعة مكتب المدعي العام في ظلّ تدخل سياسي خارجي من هذا النوع. واعتبرت سوزان هايلي من (كورنر هاوس) ان تحقيق مكتب مكافحة الاحتيال المالي (كان ينظر اليه دائما على انه محك لالتزامات بريطانيا الدولية في مجال مكافحة الفساد).

الفاينانشيال تايمز شككت في جدية التبريرات الرسمية لوقف التحقيق، وقالت أن مسؤولين سابقين في الاستخبارات البريطانية والأميركية شكَّكوا هم أيضاً في المخاوف الأمنية القومية والدولية التي زعمها بلير. ونقلت الصحيفة عن مسؤول سابق بالاستخبارات البريطانية قوله إن العلاقة الاستخباراتية البريطانية السعودية هي علاقة لا تحكمها الثقة ولم تُثمر أبداً، فمعظم المعلومات التي تلقتها بريطانيا أتت من أميركا. كما استبعد مسؤول استخباراتي أميركي سابق أن يكون للتهديدات السعودية بقطع التعاون الاستخباراتي مع بريطانيا وزن، موضحا بأن الرياض توفِّر القليل من المعلومات الاستخباراتية الموثوقة لوزارة الدفاع البريطانية، وأن واشنطن ستقدم إلى لندن أية معلومات تحصل عليها وكالات الاستخبارات الأميركية من السعوديين.

صحيفة الغارديان نسبت الى مارك بيث رئيس مجموعة مكافحة الفساد في منظمة التعاون الإقتصادي قوله بأن المنظمة ستضغط على بلير بشأن التحقيق، واضاف بأن المخاوف بشأن مدى التزام بريطانيا بقوانين محاربة الفساد تزايدت بشكل كبير، واضاف بأن السبب الوحيد المشروع لاتخاذ مثل هذا القرار هو غياب أية فرصة لحصول إدانة ناجحة، لافتاً إلى أن المنظمة تريد أن تعرف من بريطانيا ما حدث بالضبط، مؤكداً أن لدى المنظمة لائحة بالعقوبات التي قد تتخذ شكل التدخلات السياسية الرسمية.

ونقلت صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الأمريكية عن روبرت واردل المسؤول في مكتب مكافحة الفساد نفيه للمزاعم القائلة بأن المكتب لا يمتلك أدلة كافية للمضي قدما في رفع دعاوى جنائية معترضا بذلك على وقف النائب العام للتحقيق حول فساد انطوت عليه الصفقة.

وكانت صحيفة الديلي تلغراف قد نسبت الى رموز المعارضة السياسية في بريطانيا قولهم بأنهم يمارسون ضغوطا على الحكومة لنشر الوثائق المصاحبة للتحقيق. فيما ذكرت صحيفة ذي انديبيندانت بأن رجال الشرطة الذين تولوا التحقيق قالوا بأنهم تعرضوا لعمليات تصنت وأن سرية التحقيق لم تراعى. وقال أحدهم: (ماذا يعني ذلك فيما يتعلق بالتداخل بين السياسة والإقتصاد؟ إننا نستأسد على بعض الدول، بينما لا نستأسد على البعض الآخر. هناك فرق شاسع بين اتخاذ مواقف متشددة من دول مثل إثيوبيا حول المعايير التي تتبعها في نظام المشتروات الحكومية واتخاذ ذات المواقف مع أكبر منتج للنفط في العالم. عادة ما تكون انتهاكات حقوق الإنسان أقل شأنا في الدول النافذة كالصين مثلا منها في دول يمكن التصرف معها دون خوف من العواقب الإقتصادية كزمبابوي مثلا. إنه لأمر جيد أن يتم إلقاء الضوء على المعايير المزدوجة).

وهكذا أسدل الستار على التحقيق، وأعلنت السعودية رافعة شارة النصر يوم 6 يناير لتقول أنها ستبدأ بتسلم 72 مقاتلة من طراز يوروفايتر! جاء ذلك على لسان ولي العهد ووزير الدفاع سلطان، في إشارة منه الى أن الرياض، رضيت بالمجهود الذي بذلته الحكومة البريطانية، وأن الصفقة ستكون من حصتها، وأعلن متحدث باسم شركة السلاح البريطانية فرحاً: (نحن نرحب بتصريحات ولي العهد، لكننا لا نستطيع أن نعطي تعليقات إضافية خاصة وأن الصفقة ما زالت قيد التفاوض).

الصفحة السابقة