الجيل الجديد.. والايديولوجيا الإسلاميوية

محمد بن علي المحمود

لا أخفي أنني في هذا المقال سأعمد إلى التلميح أكثر من التصريح.وليس مرد ذلك إلى كون الكثير مما أريد قوله لا يمكن قوله صراحة، وإنما - إضافة إلى تعذر الصراحة - لكون الموضوع يخضع لاحتمالات قرائية متعددة؛ تقضي عليها المباشرة والصراحة؛ عندما ترتبط بالمتعين والمشخص.لكن، لا يعني هذا أن المقاربة ستكون في العموميات النظرية، بل ستعمد إلى نوع من التحديد؛ دون التعيين.وكل ذلك صادر عن ثقة فائقة بذكاء القارئ؛ إلى درجة الاسترواح من إغواء عنوان المقال.

الجيل الجديد - رغم كل ما يقال عنه في السالب - جيل مختلف في الإيجاب - غالبا -؛ يمتلك الكثير مما لا يمتلكه جيل الآباء والأجداد.ومع الاحتفاظ بحق التوقير لجيل المعاناة: جيل الآباء والأجداد، فليس ما يمتلكه هذا الجيل محصورا فيما توفره له وسائط المعرفة الحديثة؛ مما لم يكن متوفرا للأجيال السابقة فحسب، وإنما - أيضا - لكونه نتاج تاريخ عاصف، مليء بالتحولات المطّردة، التي جعلته يعاين الماضي القريب - بما فيه من تيارات وأحداث وتحيزات - بكثير من الأسى والفهم، وقليل من الاستخفاف والجهل.

لكن، ورغم الأمل الذي يعد به هذا الجيل الجديد، من حيث كونه نتاج تجارب ثرّة، وانفتاحاً غير مسبوق، فإنه - في الوقت نفسه - جيل حائر في آلامه وآماله؛ لديه القابلية للاستلاب من قبل الإيديولوجيات الغيبية، وشبه الغيبية، بل والخرافية، التي أصبحت تحتضن الملفات السياسية الساخنة - جماهيريا - على امتداد جغرافية العالم الإسلامي اليوم.

إن إيجابية (التديّن) التي تعتبر من الميزات الفارقة التي تطبع معظم أبناء هذا الجيل، وتميزه - إيجابا - عن جيل القومويات العروبوية، والتي نباركها قد تجعل من بعض أفراده أرضا خصبة؛ لاستزراع مقولات التطرف والإرهاب المعنوي والمادي.

إن تدين هذا الجيل، أي ميله للاشتباك مع مقولات الدين الحنيف، وإيمانه بضرورة الالتزام بمبادئه - حتى وإن لم يلتزم كفرد بذلك - من الأشياء التي تجعل من هذا الجيل جيلا إيجابيا من ناحية، وجيلا أكثر استقرارا من ناحية أخرى.وهذا يستدعي أن يكون هذا الجيل قادرا على خوض غمار الحداثة بكل ثقة؛ ما دام يمتلك الأساس العقائدي، والمخزون الروحي، اللذين يجعلانه قادرا على اجتراح الحلول للمشكل الراهن، من خلال التجارب الإنسانية كافة، مهما كانت مباينة ومغايرة، بل ومعادية، لنسقه الثقافي الذي ينتمي إليه.

لكن، للأسف، فإن إيجابية هذا التدين المتمثل في التوجه الإيماني، لم يتم استغلالها في الاتجاه الصحيح الذي يجعل منها رافدا حضاريا للأنا، وإنما تم - ويتم استغلالها إيديولوجياً - في سبيل نشر الكراهية للآخر، وازدراء حضارته، بل وللتفريق بين أبناء الأمة الواحدة بدعاوى مذهبية وطائفية، أصبحت كالسرطان في هذا الجسد الإسلامي الواحد.أي أن الإسلامويين قاموا بتحويل هذه الإيجابية الكامنة في (حالة التدين) لهذا الجيل إلى مادة سلبية، بحيث جعلوا من التدين أرضية للتخلف من ناحية، وللاحتراب الداخلي من ناحية أخرى؛ رغم أن التدين (في الأصل) محفّز من محفزات التقدم، والسلام الداخلي.

إن هذا الجيل الذي يقف على قمة الهرم الحضاري اليوم، رغم وعيه الذي فتحت آفاقه وسائط المعرفة الحديثة، بحيث أصبح من المتعذر أن تلتهمه تيارات اليمين واليسار، ليس جيلا معصوما من إغواء الخطاب المتلبس بالديني؛ إذ يمكن أن تتسلل إليه روح التطرف؛ من حيث هو يبحث عن الوسطية والاعتدال.

لم تعد المشكلة - اليوم - في مروجي التطرف الذين يعلنون مقولاتهم التي تُقصي وتنفي، وربما تدعو إلى القتل والتفجير، فهؤلاء أصبحوا وباء يبتعد الجميع عنه، ويُحذّر الجميع منه، وإنما الخطورة التي قد تغيب عن الكثير من أبناء هذا الجيل، الذي قد يستدرج من ناحية العاطفة الإيمانية، تكمن في فريق من أولئك الذين يدّعُون (الوسطية) ادعاء؛ بينما يُمرّرون مقولات التطرف، ومفردات الاحتراب، في هذا المجلس/ المحفل أو ذاك.

هناك فريق (وأقول: فريق، وليس الجميع ولا الأغلبية) ممن يصنف نفسه في سلك الدعاة، أو طلاب العلم، يعمد إلى حيلة لبس الأقنعة، بحيث يتراءى بأكثر من وجه؛ حسب ما تقتضيه طبيعة الجماهير، وخصوصيات المنابر، التي يبدأ بها من مقولات الإيجاب: (الرأفة، التسامح، الرفق، الأخوة، الإحسان..إلخ) وينتهي بها - بعد حين غير بعيد - إلى مقولات السلب: (وصف المختلف بالنفاق، والتآمر، والعداء للإسلام، والعلمانية، والليبرالية، والإباحية..إلخ)، حتى يصل إلى درجة استعداء الجماهير - التي تم تفريغها سلفا - على أبناء المجتمع، وتصويرهم في صورة المنافقين والملحدين والمفسدين في الأرض.

هذا الخطاب الاستعدائي، الإرهابي بامتياز، لو كان يصدر عن شخصيات معروفة بتزمتها ونزقها، لهان الأمر، ولم نتكلف هذه المقاربة؛ لأن الشخصيات التي واكبت الإرهاب لدينا بالدعم والتأييد الصريح أو الضمني، أصبحت معروفة للجميع، ومرفوضة من الأغلبية الساحقة من أبناء هذا المجتمع المتدين. المشكلة تأتي؛ عندما يقوم (أحدهم!) بتصدير خطاب معتدل عبر منبر من منابر الإعلام، حتى يعرف - أو يتراءى - بأنه مظنة التسامح والاعتدال، ويترسخ هذا الظن لسنوات. لكنه، ما إن تحين له الفرصة، ويجد نفسه بين أساتذته وزملاء تطرفه، حتى يخرج بمقولات الإرهابي ذاتها، وتسمع منه رمي المجتمع، أو بعض أفراده - صراحة وضمنا - بالضلال والانحراف والتآمر على الإسلام والمسلمين، وكأن الإسلام هو إسلامه الخاص!، وكأن المسلمين ليسوا إلا هو أو تياره الحركي.

خطورة هذا الفعل الانتهازي، أنه يستخدم دعوى الاعتدال لزرع واستنبات مقولات التطرف؛ إذ يتخذ من مقولات الاعتدال - في طرف من خطابه - طريقا نحو إقناع الجماهير باعتداله، بينما هو في الحقيقة منطوٍ على رؤية في غاية التزمت والانغلاق، بل وربما كان منخرطا في مشروع تنظيمي - أو شبه تنظيمي - تتضح معالمه من خلال تطابق المقولات والمواقف الإيديولوجية، ومن خلال طبيعة الندوات (الفكرية!) التي ينظمونها، وتكون ذات طابع خاص.

أذكر - ولم أنسَ! - أن (أحدهم) كان طلق المُحَيّا، دائم البسمة، رقيق العبارة جدا، هادئ النظرات، يخرج علينا بين الحين والآخر في قناته الفضائية المفضلة؛ حيث يبلغ التزمت فيها قمته، بذلك الوجه السمح المسالم. ومع أني تساءلت عن سر هذه العلاقة بينه وبين هذه القناة التي - يظهر - أنه لا يبيح لنفسه الخروج في غيرها؛ بحيث بدا وكأن المسألة مسألة ولاء وبراء، إلا أنني كنت أغرق كغيري - عاطفيا - في تلك السماحة التي طمرت كل تساؤل - بريء - من ناحيتي. لقد كان يدعو وكان يذكر آراءه في بعض الأحكام. ومع أن تلك الآراء كانت تميل - بوضوح - إلى التشدد، وتحجير الواسع الفقهي، إلا أنني كنت أحترم اختياراته التي لا ينسبها - في الغالب - لنفسه؛ خاصة وأنه لا يهمل ذكر الخلاف، وإن كان لا يهمل تفنيده المخالف أيضا.

التشدد في الآراء من حق كل من يتعرض لإبداء رأيه، وطرح اختياراته؛ ما دام أنه يرى - صادقا - أن هذا ما توصل إليه اجتهاده؛ وما دام هذا الاجتهاد لا يذكي فتيل التطرف والإرهاب. إن رفضنا لمقولات من يتشدد في أحكامه، لا يعني أننا نريد منه أن يستجيب لأحكامنا، وأن يتوافق مع رؤيتنا للنص وللواقع. هذا حجر على حرية الفكر. وهذا ما نسعى لتقويضه واستزراع نقيضه.

كنت مرغما - عاطفيا - على إحسان الظن فيه؛ رغم احتفاظي بحقي - المعرفي - في مخالفته في أحكامه. ورغم أن مقولته الشهيرة التي فاحت منها رائحة التشفي، كانت كاشفة؛ إلا أن وقوعي في سحر تسامحه الظاهر، جعلني أعد ما وقع منه نتيجة جهل، وليس نتيجة ضمور في مساحات التسامح لديه، إذ كنت أظن أن هذه المساحات كانت - لديه - بعرض الفضاء!

هذا المتسامح التقليدي الذي تندى أسارير وجهه بالبراءة من الأحقاد، وتوحي ابتساماته (الخادعة) بالحب والإشفاق، ألقى كلمة في ندوة (فكرية!) نقلتها إحدى الفضائيات، فكشف عن نفسه بكل وضوح. كان الحضور في أكثريته الساحقة لأتباع التقليدية المتشددة؛ في تيارها السروري خاصة. ورغم حضور بعض من يمتلك نوعا من خطاب العقلنة داخل خطاب التقليد، إلا أن الصفوف الأولى لضيوف الندوة الكبار! - كما تأملتها عبر الشاشة - كانت مزدحمة بالأعين (التقليدية)، ذات الشرر الحارق، وذات التاريخ الطويل من الشحن (التقليدي) - غير البريء - لبسطاء الجماهير؛ أيام العهد (الغفوي) الجميل.

من الطبيعي أنه لم يعمد إلى كشف الوجه الآخر له، وإنما كشفه سياق الفكرة وسياق الجماهير؛ كان منساقا - بحماس نوعية ضيوف الندوة - إلى طرح رؤيته التي ورثها عن أساتذته - كما صرّح - ومن بينهم بعض الحضور، من زعماء التقليدية. ومن أجل أن يثبت لأساتذته أنه مازال الابن البار لمقولات الاحتراب، وأن تسامحه الذي اشتهر به لم يكن إلا تسامح (صورة) لا أكثر، فقد بدا هائجا أشد ما يكون الهياج، مندفعا أشد ما يكون الاندفاع؛ إلى درجة اتهام بعض أطياف مجتمعه بالتآمر على المجتمع، والسعي لإفساده، وتوصيف معارضيه بالمنافقين، والعلمانيين والليبراليين (ويقصد المعنى الخاص بمنظومته الذي يقرن هذين المصطلحين بالكفر) والتغريبيين، والزنادقة...إلخ. كان مسرورا بهذا الدور الذي لا يحتاج فيه للمداراة ولا لتزوير القناعات. لقد كان ينظر - مغتبطا - في عيون المستمعين من أساتذته وزملائه الأجلاء، وكان يطلب منها المدد في هذا المحفل العاصف القاصف.

لقد كان صاحبنا شخصا آخر؛ غير الذي اعتدت على رؤيته من قبل.صورته الإيجابية المتسامحة التي عززتها عشرات الحلقات من برنامجه الخاص، بدت بعيدة كل البعد عن هذه الصورة التي تتلبس صورة زعيم من زعماء الإرهاب.للحظة لم تطل، تخيلت أن الذي أمامي على الشاشة: (أبو حمزة المصري) أو (أبو قتادة) أو (أيمن الظواهري) أو (الزرقاوي). لكن، لم يطل هذا الخيال، فقد كان هو صاحبنا، بشحمه ولحمه وعظمه، وشعره المنقوع بصبغة حالكة السواد.

هل من المعقول أن تكون السماحة الظاهرة، من شبكات الاصطياد، التي يضعها التقليديون لهذا الجيل البريء الذي يمتلئ حماسة لدينه، ولأمته؟. إلى أي مدى يجب الحذر؟، وهل يجب أن يكون أولياء الأمور على حالة ارتياب دائم؟ وكيف يمكنهم دفع ضرر هؤلاء عن أبنائهم؟، بل كيف يمكن فضح هذا الخطاب؛ ما دام التصريح بالأسماء والمقولات محفوفا بالمخاطر؟.

إن الأمر في غاية الخطورة، فحجم الاتصالات التي تنهال على برنامج هذا وأمثاله، تدل على أن هناك شريحة كبيرة من الجماهير، لا زالت تمنحه ثقتها وعواطفها؛ دون أن تأخذ على نفسها عبء البحث عن خلفيته المعرفية، وحقيقة انتماءاته - شبه التنظيمية - التي يكافح في سبيل دعمها بجماهير الغوغاء. الناس لدينا سريعو الثقة، مشدودون - بعمق - إلى إيقاع الشكل، ولغة المظاهر.

لقد قلت من قبل: إنه يجب علينا أن نبحث عن الخلفية الثقافية التي ينتمي إليها مدّعو التسامح؛ مهما بدوا متسامحين جدا. إن التقليدية - بمقولاتها التفصيلية التي ترتقي بها إلى مستوى العقائد اليقينية - تلتهم ذوات أفرادها التهاما؛ فلا يبقى منهم - بعد ذلك - أي شيء ذاتي أو فرداني، يمكن أن ينبع من قناعات خاصة. إنهم أدوات للثقافة التي تتكلم من خلالهم، ولا يملكون من أنفسهم شيئا في سياقها.

إن المقولات الحادة في أي منظومة متشددة، تجعل من أي منتمٍ إليها، مجرد متكلم باسمها؛ لا أكثر. لا يستطيع التقليدي أن يكون متسامحا؛ حتى ولو حاول أن يكون كذلك، بل إنه لا يستطيع أن يحاول؛ لأنه في الوقت الذي يجنح فيه إلى التسامح، يخرج من كونه تقليديا. قد لا يستطيع التقليدي أن يصرّح بكل ما يؤمن به من مفرداته التقليدية الحادة.لكن، لا يعني هذا أنه يتنكر لها، بل ولا أنه يؤجلها طويلا، وإنما يعني أنه يدعو إليها في مكان آخر، وإزاء جمهور مختلف.والتسامح - لديه - ليس إلا ورقة إعلامية، من لوازم المرحلة.ومع كل هذا، فهو ينجح في تمرير الكثير؛ لجهل الكثير بتراث منظومة التقليد، وبأنساب المقولات المتوالدة من أمهات غير مجهولات الهوية.

لا سبيل إلى النجاة من براثن التقليديين، إلا بفضحهم، وإحراجهم بمقولات المنظومة التي ينتمون إليها؛ فإما يعلنون البراءة منها، أو يعلنون التزامهم بها؛ ليصبح الجميع على وعي بحقيقتهم التي يجمجمون بها. لكن هذا (الفضح) لا يجدي أن يقوم به عدد محدود، ولا أن يتبناه منبر إعلامي واحد، وإنما هو مهمة الجميع من أبناء المجتمع الإسلامي، خاصة أولئك الذين يحاولون أن يوجهوا أنظار أمتهم إلى غد أفضل، بعيد عن تشنجات التقليدية؛ مهما كانت التضحيات الفردية، ذات الطابع الخاص.

الصفحة السابقة