السعودية تحسم خيار القطيعة النهائية مع دمشق

كرة اللهب السعودية تتدحرج باتجاه الأسد

السعودية ألغت زيارة المعلم علناً بشكل مهين، ولم تندد باختراق الطائرات الإسرائيلية للأجواء السوريّة

يحي مفتي

كل حادث في المنطقة العربية بات قابلاً للاستخدام في تعميق الإنقسام العربي، وباتت عوامل الفرقة والخصومة تفوق بمرات عدة عوامل التوحّد والتقارب. فالخصماء يخوضون لعبة عبثية غير محكومة بقواعد أخلاقية ولا حتى عقلانية، فالغرائز المشيطنة تشحن طاقات هؤلاء الذين أصبحوا كمصارعين يعتركون بكل أنواع الأسلحة داخل غرفة بلا باب للخروج.

قليل من العقل وكثير من العناد والمكابرة والمصالح الضيّقة والشخصانية المتورّمة هي سمات الحركة الدبلوماسية العربية، يغذّيها إعلام منفلت من عقال السيطرة. وكما كان الوقت عاملاً ضديّاً للسياسة العربية في حقب سابقة، فإنه بات الآن يمارس فعلاً تدميرياً.

خلاف الرياض ودمشق الذي بلغ درجة العداء المحكم، كان ينذر بكارثة سياسية إقليمية، بعد أن اشتعلت الأرض التي يقف عليها الطرفان، فلا مبادىء قومية تحول دون تمدد نطاق الخلاف، ولا مصالح مشتركة تضع حداً لتدهور سريع في العلاقات، ولا حتى مشاعر دينية تخفف من حدّة التمزق الخطير الذي أصاب الروابط التقليدية التي كانت تمثل الضمانة الأخيرة لبقاء الحد الأدنى من الإحساس المشترك بالشراكة القومية والدينية.

خلاف ندرك لحظة اندلاعه، ولم يعد خفيّاً على المراقب لمسيرة العلاقات بين دمشق والرياض. كان اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، لحظة اشتعال النار في رداء دمشق، وكان ضرّبة قاصمة للرياض بعد أن فقدت الساحة اللبنانية شخصية قطبية تمثّل الوجود الرمزي للسعودية في لبنان. وقد دفعت دمشق ثمن حادث لا يمكن الحكم عليه، بانتظار نتائج تحقيق اللجنة الدولية، فخرجت القوات السورية من لبنان بضغط من واشنطن والرياض معاً، واستعمل الملك عبد الله (إبان ولايته للعهد) لهجة بالغة القسوة ضد القيادة السورية، حين حذّرها من مغبة بقاء قواتها في لبنان على وقع تهديدات أميركية بالتدخل لإخراج سوريا من لبنان.

لم يضع الخروج العسكري السوري من لبنان حداً لخلاف دمشق مع الرياض، فقد بقي لبنان يسكب مادة شديدة الاشتعال على الخلاف، من خلال توجيه الاتهامات المتواصلة للنظام السوري في مسلسل الاغتيالات، بل أسرفت قوى لبنانية رسمية في خصومتها مع القيادة السورية الى أن أصبحت عاملاً أساسياً في تعزيز القطيعة والانقسام بين الرياض ودمشق، على أساس أن التقارب بينهما مضرّ بمشروعها وأجندتها السياسية في لبنان.

وجاءت حرب تموز 2006 لتنقل الخلاف السعودي السوري الى العلن، حين شنّ الإعلام السعودي حرباً إعلامية ضد سورية بعد أن اختارت السعودية موقفاً مضاداً للمقاومة اللبنانية خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان، وأصبحت سورية في مركز النقد المفتوح سعودياً ضد كل ماهو سوري، لا فرق بين الشعب والحكومة والثقافة والحضارة في سورية، فقد أصبحت الأخيرة موضوعاً يومياً في الإعلام السعودي، الذي أصبح حاضناً لخطاب قوى الرابع عشر من آذار في لبنان، بل أكثر من ذلك فقد تحوّل الى الترجمة العربية للسياسة الأميركية تجاه سورية وايران وحزب الله وحماس.

الإعلام السوري الضعيف حجماً قرر عدم المشاركة في الحرب الإعلامية مع السعودية، ببساطة لأنه يدرك سلفاً خسارته كونها حرباً غير متكافئة، ولذلك فضّل الانكفاء، فيما كان الإعلام السعودي يواصل حرباً لا هوادة فيها، بل بلغ حد الدعوة غير المباشرة الى إسقاط النظام في سورية عبر اجتياح عسكري أميركي ـ إسرائيلي.

العراق، لبنان، فلسطين، النظام الإقليمي العربي، موضوع السلام في الشرق الاوسط، موضوعات باتت تأكل من رصيد العلاقة السورية السعودية، خصوصاً بعد أن رسمت رايس خطاً فاصلاً بين معسكرين داخل المنطقة، حيث غدت السعودية قطباً إقليمياً في معسكر الاعتدال في مقابل معسكر الخصوم للولايات المتحدة، وفيما تراهن سورية على تحجيم النفوذ الأميركي الطاغي في ملفات المنطقة، فإن الرياض تشعر بثقة مفرطة في ظل الدعم الأميركي لها.

لا شك أن توصيف فاروق الشرع، نائب الرئيس السوري السياسة الخارجية السعودية بالشلل كان دقيقاً، ولم يكن توصيفاً جديداً، فقد كتبنا عنه كثيراً على صفحات هذه المجلة، كما كتب عنه مراقبون أجانب للدور السعودي في العراق الذين فوجئوا بسبات سعودي لسنوات ثلاث ثم صحوة متأخرة مصحوبة بالهلع من حقائق جديدة على الأرض، وأخيراً إستنفار غير واعٍ ينطوي على عقلية تخريبية وليست إستيعابية.

أياً كان الحال، فقد باءت كل محاولات التهدئة بالفشل حتى الآن، فلا اللقاء السعودي السوري الذي تم على هامش قمة الرياض في مارس الماضي أثمر في تطويق الخلاف، خصوصاً وأن الجانب السعودي كان يضغط باتجاه الحصول على موافقة غير مشروطة من دمشق لمبادرة السلام السعودية، فقد عاد بشار الأسد الى بلاده دون إتفاق على وضع آلية صلبة لإدارة ملف الخلافات السورية السعودية، ولم يفتح نقاش جاد لتجسير الفجوة المتزايدة بين الدولتين، ولا لقاء مكة الذي جمع حركتي حماس وفتح ساهم في ترطيب الأجواء بين الرياض ودمشق بالرغم من حاجة الطرفين الى ذلك من أجل ممارسة الضغط على قيادتي فتح وحماس للقبول بتسوية والخروج باتفاق ناجح، ولكن الملك عبد الله قرر إخراج العامل السوري من أي إتفاق يديره شخصياً مع فتح وحماس.

وكان يمكن أن تحمّل السعودية القيادة السورية مسؤولية فشل لقاء مكة وقد فعلت فيما يرتبط بأحداث غزة، الا أن حقائق الأرض كانت أقوى من الجنوح بعيداً وتحميل دمشق نكبة فتح وحماس، وقد كان موقف الملك عبد الله فصيحاً حين رفض استقبال محمود عباس في عمّان بعد سيطرة حماس على قطاع غزّة، وقبل أن يستقبله في جدّة في الحادي عشر من سبتمبر لغاية أخرى مرتبطة بمشروع السلام برعاية أميركية في الخريف المقبل.

أما العراق الذي تشارك فيه دمشق والرياض بأدوار متشابهة أحياناً ومتصادمة أحياناً أخرى، فإنه يمثل قضية خلافية، فبالرغم من الإتهامات التي تسوقها الرياض ضد دمشق بتهريب المقاتلين العرب، فإن الرياض تبدو في موقف هزيل، كون هؤلاء المقاتلين قد تدّفقوا من أراضيها ومن حملة جنسيتها وجوازات سفرها. ومع ذلك فإن الملف العراقي بوصفه جزءً من الخلاف السوري الاميركي فلا بد أن يكون أيضاً جزءً من الخلاف السعودي السوري، ولذلك رفضت السعودية المشاركة في مؤتمر دمشق الذي عقد في أغسطس الماضي لمناقشة الوضع الأمني في العراق، دون أن تبدي أية تفسيرات لذلك، واعتبرته دمشق رداً غير لائق من الجانب السعودي الذي وفّر حضور بشار الأسد لقمة الرياض فرصة نجاح.

كان مثيراً للغاية أن توظّف السعودية معلومات تلقّتها من الحكومة السورية كبادرة حسن نيّة حول جهات داخل لبنان تخطط لاغتيال السفير عبد العزيز خوجه ضد سوريا نفسها، فذلك خروج مشين عن الحدود الدنيا من الخلق العربي. ومن حق السوريين القول بأن السعودية تستعمل خلافها السياسي معهم لإطلاق الاتهامات جزافاً ضد دمشق في كل ما يحصل داخل لبنان وربما خارجه أيضاً كما في قصة تهريب المقاتلين الى نهر البارد، رغم ما كشفت عنه التقارير أن غالبتهم جاءوا من مطارات خليجية الى مطار رفيق الحريري في بيروت.

الذين يسجّرون نار الأزمة في العلاقات السورية السعودية سواء في فلسطين أو لبنان كمن يقطع الغصن الذي يقف عليه، إذ لاشك أن أزمة العلاقات بين الرياض ودمشق ستترك أثرها المباشر والسلبي على القضايا ذات الإهتمام المشترك، أي فلسطين ولبنان تحديداً. كانت تدرك الرياض أن غياب دور سوري عن أي إتفاق في الملفين الفلسطيني واللبناني يعني تجاهل عنصر أساسي للنجاح، وقد بدا ذلك بوضوح في الفشل السريع الذي تعرّض له لقاء مكة، كما يبدو واضحاً منذ سنوات في الأزمة اللبنانية الداخلية وصولاً الى ملف الانتخابات الرئاسية التي تحاول السعودية الاستفراد به بدعم أميركي والى حد ما فرنسي، رغم أنها تدرك تماماً أن لا تسوية في موضوع الملف الرئاسي اللبناني ولا أية موضوع آخر يتعلق بمصالح اللبنانيين جميعاً ما لم يكن لسورية وإيران دور فيه.

لا شك أن اللبنانيين أول المتضررين المباشرين من الخلاف السوري السعودي، وإن أصرّ بعض الفرقاء (جنبلاط وجعجع) على رفع درجة الأزمة في العلاقات السورية السعودية، ولكن هؤلاء يعملون على الموجة القصيرة للسياسة الاقليمية والدولية، فهذا البعض سيرضخ في نهاية المطاف الى منطق المصالح المشتركة والمتبادلة، وهذا يفسّر تقلبات الزعيم الدرزي جنبلاط، وإشاراته المتكررة وغالباً الخفيّة لدمشق بالرغبة في التسوية والمصالحة.

على أية حال، فإن الرياض دخلت هذه المرة على خط الأزمة اللبنانية الداخلية من بوابة الخلاف مع دمشق الذي وجدت فيه مشتركاً مع فريق 14 آذار ما جعلها تخسر دورها الرعوي، فليس هناك من ينظر إليها الآن باعتبارها طرفاً محايداً يريد مصلحة اللبنانيين جميعاً، بل هي، وفي لبنان بوجه خاص، توظّف الملفات الاقليمية وخصوصاً ملفي العراق وفلسطين لجهة ترجيح كفة طرف على آخر.

وسواء كان من موقف ضعف أو مناورة سياسية لدرء أخطار أميركية وإسرائيلية، فإن العقلية السورية تبدو أكثر ميلاً الى التوافق والتسوية مع القيادة السعودية، أملاً في عدم جنوح الأخيرة الى أبعد مما ذهبت إليه في علاقاتها مع واشنطن وتل أبيب. فمنذ نشوب الخلاف بينهما، لم ترفض دمشق دعوة سعودية بالمشاركة في مؤتمر أو لقاء او زيارة أو عمل مشترك، وكانت تفسّر ما طرأ على العلاقات السعودية السورية بأنه لا يعدو أكثر من سحابة صيف، وأن ثمة جذوراً أخوية وعائلية تحول دون تطوّر الخلاف. في المقابل، أبدت السعودية شراسة غير معهودة مع أية دعوة سورية، وتكررت هذه المواقف مراراً، بدءً من تجاهل سورية في إتفاق مكة رغم أن دمشق تمثل مقر إقامة قيادة حركة حماس ممثلة في خالد مشعل، ومروراً برفض المشاركة في مؤتمر حول العراق في دمشق، وأخيراً إلغاء السعودية من جانب واحد زيارة وزيرالخارجية السوري وليد المعلم الذي كان يحمل رسالة هامة حول أزمة الرئاسة اللبنانية.

إلغاء السعودية زيارة وزير الخارجية السوري التي كانت مقررة في الحادي عشر من سبتمبر بحسب مصدر رسمي سعودي لوكالة الصحافة الفرنسية دون الكشف عن الأسباب كانت بمثابة إغلاق الباب الأخير أمام المساعي السورية لتبريد السطح الملتهب في العلاقة مع الرياض. ولم تجد دمشق أمام هذا الإحراج الذي تسببه الموقف السعودي سوى أن تستغرب خبر الزيارة جملة وتفصيلاً!

الأمر اللافت والمستغرب أيضاً هو بيان مجلس الوزراء السعودي الذي لم يأت على ذكر خرق الطائرات الاسرائيلية للأجواء السورية والذي يملي موقفاً إستنكارياً في الحد الأدنى كما جرت العادة العربية الرسمية. الا أن البيان على العكس من ذلك ألمح الى إمكانية التطبيع والاعتراف بإسرائيل إذا ما تعاملت بإيجابية مع المبادرة العربية للسلام.

ثمة سؤال كبير ينبعث من السلوك غير المتوازن للقيادة السعودية حول من هي الجهة داخل العائلة المالكة التي تسعى الى تقويض العلاقات السورية السعودية والوصول بها الى مستوى القطيعة الشاملة؟

هناك دون أدنى شك جناح داخل العائلة المالكة يجنح الى تفجير العلاقة مع دمشق، ممثلاً في الجناح السديري الذي أوكل هذه المهمة للأمير بندر سلطان الأقرب الى تل أبيب منه الى دمشق، بل والأبعد عن مصالح العرب والمسلمين. وقد يكون الملك عبد الله الذي كان يحسب في سنوات سابقة طرفاً قريباً من دمشق، بحكم صلاته الوثيقة بعائلة الأسد، فهو اليوم يمارس دور البدوي الذي يريد الإنتقام من قتلة رجل العائلة المالكة في لبنان رفيق الحريري. ولكن يبقى، أن هذا الجنون السياسي المطّرز بالزهو والغرور يبدو طارئاً، وهو يقترب من عقلية فردية تفرض منطقها، وترسمه توجّهاً سياسياً.

الحريق المشتعل على سكة العلاقات السعودية السورية يثير دون ريب قلقاً مشروعاً وجماعياً، لأنه لا يكتفي بتقويض فرص إحياء العمل العربي المشترك، ولكنه يوفّر أجواء مؤاتية للتغلغل الأجنبي وبخاصة الأميركي في المنطقة، كما يقوّي الموقف التفاوضي للدولة العبرية التي تستعد لخوض معركة دبلوماسية جديدة للفوز بقرار الإعتراف والتطبيع، وستجني ثماراً كانت مرّة في حربها مع المقاومة في لبنان وفلسطين.

الصفحة السابقة