دولة الفتوى

موضوعة الفتوى في هذا البلد ليست حكراً على طبقة محددة، فقد فُتِح بابُ الإجتهاد على مصراعيه، فوهب كل من أوتي حظاً ولو بمقدار شعيرة من العلم حق الإفتاء، ويكاد يعجب المرء كيف أن النزوع الإفتائي تسلل الى اللغة اليومية المتداولة بين الناس، حتى دخلت كلمات من قبيل: حلال وحرام، وكفر وإيمان، وشرك وضلال وبدع، وطائفة من المفردات ذات الطبيعة الحكمية، في نسيج لغة التداول على المستوى الفردي والجماعي.

الإفتاء ليس بحاجة الى لجنة في هذا البلد، فقد بات حقاً مشاعاًَ يتنازعه من علا كعبه أو دنى في حومة العلم الشرعي، ولا حراسة على الأحكام بعد أن تآكلت سلطة الإفتاء طالما أن شروط حيازتها ليست بالأمر المجهد، ولربما صادفك من نبت الريش بالأمس القريب على جسده وقد تحوّل إلى محكمة تفتيش متنقّلة يوزّع بطاقات الجنة والنار على أهل الدنيا كمن يبيع بطاقات المباريات في السوق السوداء.

في هذا البلد، وقد لا تجد شبيه له في بلدان أخرى، يصبح الأنا والآخر على قاعدة دينية مادة سجالية ممتدة، ليس بين العلماء بل وبين الكتّاب وروّاد المجالس الخاصة والعامة بل وحتى المناظرات العقدية العقيمة، وقد تتبطّن أحياناً حتى التقارير الأخبارية، والتحليلات السياسية، ومقالات الرأي التي عادة يكتبها أناس يجهرون بخصومة مطلقة للتطرف الديني.

تتحدد المسافات الإجتماعية بين الأفراد والجماعات على أساس معادلة الأنا والآخر الديني، ولذلك لا غرابة أن يفاجئك السؤال الديني حتى تتحدد، في ضوء الإجابة، المسافة الشرعية بين الأنا والآخر، ليست من منطلق إنساني وإنما من خلفية عقدية غائرة، لتصبح الأنا المسلم والآخر الكافر.

كتب شروحات العقيدة التوحيدية تزوّدك بشلال من الوجيهات التصنيفية، التي تصوغ بوعي أو خلافه عقلية تنزع نحو تقديم حكم شرعي في كل واقعة، بدءً من قتل البعوضة وإنتهاء بالتحليق في الفضاء ومروراً بطبيعة الحال بسلسلة مفتوحة من الموضوعات التي قد لا تخطر على بال بشر وربما لم يسمع قسم عنها إلا من خلال الفتوى.

بعد أن تكاثرت مصادر الإفتاء في السنوات الأخيرة، سعت الحكومة الى بذل جهود أولية لاختبار إمكانية حصر سلطة الإفتاء في هيئة كبار العلماء ولجنة الإفتاء الرسمية برئاسة المفتي العام الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، وكانت المفاجأة أن: سلطة هيئة كبار العلماء تقلّصت إلى حد كبير، وضعف دور المفتي، والأهم من ذلك كله أن عدد المفتين تجاوز عدد المستفتين، أضف إلى ذلك ظاهرة التمرّدات السلمية التي يقوم بها أعضاء المؤسسات الدينية في مستويات دنيا ومتوسطة على تعليمات الدولة، بل هناك من يتحدث عن بدايات تشكّل سلطة دينية موازية غير خاضعة لهيمنة الدولة.

ليس الكلام هنا عن سلطة تمارس دورها في تقسيم السكّان إلى مؤمنين وكفّار، فذلك أمر لم يعد بالإمكان السيطرة عليه لأنه جزء جوهري من الأيديولوجية الدينية للدولة، وبالتالي فإن الأخيرة مسؤولة بدرجة أساسية عن إيجاد حلول حاسمة من أجل تجنيب البلاد تصدّعات بنيوية في المجتمع والسلطة معاً.

ولكن الكلام يدور، بصورة محدّدة، حول انفلات مصادر الفتوى واشتغالاتها الممتدة على مجمل الموضوعات العامة، حتى يخيّل للمرء بأن الفتوى باتت جزءً من الزاد اليومي لقطاع كبير من السكّان، وسنحتاج إلى آلية لقياس عدد الفتاوى التي تصدر في هذا البلد على مدار الساعة، سواء في هيئة إجابات عن أسئلة شرعية أم أحكام ترد في خطبة دينية أو مجلس وعظ أو احتفال ديني أو مخيم صيفي فضلاً عن المنشورات الدينية الشعبية التي تشتمل على عشرات بل مئات الفتاوى في موضوعات عامة وخاصة.

جذر القضية في كل هذا النشاط الإفتائي المفتوح، أن صغير الموضوع وكبيره مشدود بالعقيدة الكبرى (التوحيد)، حيث تخضع شؤون الناس الخاصة والعامة لمعادلة الإيمان والكفر، وهي معادلة تكاد تحيط بكل تفاصيل الحياة اليومية للأفراد: الألوان، وقصات الشعر، والملابس، والأكل، وطريقة المشي، وأسلوب الكلام، وتبادل التهاني، والتصوير، والرياضة، كلها موضوعات للدين الرسمي فيها حكم.

أثيرت دهشتي وأنا أقرأ فتوى للشيخ إبن عثيمين المثبتة في كتاب (فتاوى المرأة المسلمة) الذي جمعه وحقّقه الشيخ عرفان الدمشقي. سئل الشيخ عن: حكم فرق المرأة شعرها على الجنب؟ فأجاب بقوله: (السنّة في فرق الشعر أن يكون في الوسط، من الناصية وهي مقدم الرأس إلى أعلى الرأس، لأن الشعر له اتجاهات إلى الأمام وإلى الخلف وإلى اليمين وإلى الشمال، فالفرق المشروع يكون في وسط الرأس، أما الفرق على الجنب فليس بمشروع..).

كنت أتمنى لو أن هذه الفتوى مثّلت الإستثناء الذي لا يخّل بالقاعدة، فنظرت في سجّلات الفتاوى الصادرة عن العلماء الصغار والكبار فوجدت ما يجلب الذهول، وإذا بهم يخوضون في مسائل لم يصدر فيها نص شرعي صريح، وليس فيها ما يدعو للحكم، مثل قبعة الجندي، وتحية العلم، وتبادل بطاقات الأعياد، وتقديم باقة ورد لمريض وموضوعات أخرى لا حصر لها.

وفيما يتوارى مبدأ (الأصل الإباحة)، يتربّص المفتون ـ وقد تكاثروا كالفطر ـ بالناس وهم يشهرون في وجوهم سلاح الفتوى.. ولو إتبّع الناس فتاواهم لأصابتهم أمراض الهلوسة والتوجّس في حركاتهم وسكناتهم، وسرّهم وعلنهم، ومن كل خطوة يمشونها، وكل لقمة يمضغونها، فهل يبشّر هؤلاء بغير مبدأ الخالق الرحيم بعباده وهو القائل عزّ وجل (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

أعجبني كاتب في صحيفة (اليوم) وهو يطالب في أبريل الماضي بـ (فتوى خضراء) لإنقاذ البيئة من الغازات السامة المنبعثة من عوادم السيارات، فلربما يشجع ذلك على إفتتاح بازار للفتوى ومكاتب خاصة لها تستقبل الطلبات مع (ملف علاقي أخضر).

الصفحة السابقة