سياسات الإنتقام فاشلة

السعوديون ينتقمون من أنفسهم

محمد قستي

(الإنتقام) محرّك السياسة الخارجية السعودية وليس (المصالح).

لم تكن الحكومة السعودية تفتقد الحكمة في الفعل، والتواضع في السياسة، بمثل ما تفتقده اليوم، سواء كان الأمر يتعلق بإدارة الشأن الداخلي أو الخارجي. هناك صَلَف غير عادي يطبع السياسات الملكية، يعاند التاريخ وسننه، ويعاند الواقع وحقائقه، ويتمسك بقراءاته الخاصة التي بان عوارها وفشلها. صلف ورعونة بلغت مديات غير مسبوقة في تاريخ الحكم السعودي، في وقت لم تعد فيه السعودية تلك السعودية التي نعرفها، لا من جهة المكانة ولا من جهة القوة ولا من جهة القدرة على ابتداع الأفكار وتنفيذ الأفعال (القرارات).

التواضع ليست صفة ملكية سعودية على أية حال، والتراجع السياسي عن موقف ما كان يحدث في الماضي في موضوع أو آخر إذا ما تورطت العائلة المالكة في موقف خاطئ وصدامي لم تكن تسعى إليه، لكنها اليوم عكس ذلك تمشي بغير هدى، وحتى لو رأت التراجعات من حولها فهي مستمرة في المشي الى آخر الطريق تحكمها في ذلك الإنفعالات الشخصية، والهواجس الطائفية، بحيث أنها ترى نفسها غير قادرة على التعديل ولا نقول التغيير في المسلك السياسي أو تحسينه.

مثلاً، الإصرار على تخريب إتفاق الدوحة، وكيل الشتائم لحزب الله في الإعلام السعودي المعبّر بصدق عن الرأي الحكومي، في وقت تسير فيه الدولة اللبنانية العرجاء الهوينى باتجاه ترقيع ما يمكن ترقيعه، هو أمرٌ غير مستوعب. فهل السعوديون أحرص من حلفائهم اللبنانيين على لبنان. هل هم أحرص من اللبنانيين جميعاً على بلدهم؟. لا تزال السعودية مصرة على مواجهة فريق المعارضة عبر الفتنة الطائفية في الشمال. هي تريد العودة الى لبنان ولكن ليس بطرق التفافية وبجهد سياسي سلمي نظيف وبمشروع واضح مرغوب فيه شعبياً، بل بطريقة تدميرية تخريبية. لبنان يعيش أمراً واقعاً بعد أحداث 7 مايو، الجميع بدأ بالتراجع، سواء كانت قوى محلية لبنانية أو حتى دولية كفرنسا واميركا وحتى إسرائيل، ولكن السعودية لم تغير، ولا نقول تستسلم، بعد أن انتهت المعركة، فهي تبحث عن إشعال حرب أخرى ليست قادرة لا هي ولا حلفاؤها ـ مجتمعين ـ على القيام بها. ومثل هذا لا يجعل السعودية الباحثة عن التشفي السياسي رابحة في المستقبل.

والسعودية أيضاً مصرّة على فتح المعركة السياسية والإعلامية ضد النظام السوري، حليفها القوي بالأمس في لبنان وفي شؤون المنطقة الأخرى، وهي تتحرك علناً على فرنسا وأميركا وحتى إسرائيل، بل والمعارضة الإنقلابية السورية، إن لم يكن في سبيل السعي لإسقاط النظام السوري، فعلى الأقل إبقاء حصاره قائماً. وهذا أيضاً أمرٌ مستغرب، فالمعركة حُسمت لصالح دمشق التي خرجت عن الطوق، وبدأت حلقات الحصار تتفكك. كل من يقرأ السياسة يفهم هذا، إلا آل سعود، الذين لازالوا يديرون (سياسات انتقام) ترتد عليهم وتكلفهم باهضاً، هذا إذا كانوا بالفعل قادرين أصلاً على (الإنتقام) لذواتهم النرجسية.

وفي الملف العراقي، كابر السعوديون ولازالوا يكابرون. لا يريدون أن يعترفوا بالنظام الجديد هناك لأنه نظام شيعي طائفي، وكأن نظامهم أحسن منه توصيفاً، حتى تكسرت الحلقات، وبدأت السفارات العربية مجللة بالخزي تعود بعد أن خسر العرب الكثير من ابتعادهم عن بغداد. واليوم لم تعد هناك أهمية كبيرة لعودة السفارة السعودية مثلما كان في الماضي، ولا الشارع العراقي ـ السني والشيعي والكردي ـ ينظر الى السعوديين إلا بعين الريبة بعد المجازر التي أقامها أفراخ الوهابية هناك كادت تقضي على النسيج الإجتماعي العراقي الى الأبد في حروب مصدّرة من عاصمة الوهابيين. وحتى إن كابر السعوديون، فقد فات القطار، وعدم عودة السفارة والسفير الى بغداد لا يعني سوى خسارة السعودية لموقعها، وتأكيد النظرة إليها كعدو له حدود طويلة مع العراق.

وتبقى إيران التي تشكل غصّة في الحلق السعودي، حيث المقاربة طائفية في اكثرها.. فآل سعود بين من يتمنى الحرب الأميركية أو الإسرائيلية على إيران، حتى يزال الصداع الى الأبد، أو حتى ينتهى من الدمّلة كما قال كاتب سعودي (مشاري الذايدي).. وبين من يخشى من تبعات تلك الحرب على صعيد حرق خيام السعوديين خاصة المنشآت النفطية إن لم يكن أكثر من ذلك ويتعلق بالشيعة في السعودية وانفجار الوضع المحلي. ومع هذا تمضي السعودية، في وقت خفف الغرب لهجته ضد إيران، قدماً في برنامجها شبه وحيدة إلا من صقور البيت الأبيض (تشيني وجماعته)، فيطير بندر بن سلطان، مستشار الأمن القومي، وعلناً، لشراء أسلحة روسية، فيما أنظمة الدفاع السعودي كلها غربية، وذلك بغية محاصرة إيران والضغط عليها. ولو كان الإيرانيون يريدون فتح معركة مع السعوديين لفتحوها منذ زمن، ولكنهم ـ بصبر السجاد العجمي ـ يشتغلون بهدوء بدون إثارة كي يحققوا أهدافهم في النهاية.

حصار إيران صعب، وكذلك مهاجمتها عسكرياً، وإن كان غير مستحيلاً، لكن ما هي مصلحة السعودية النهائية غير الإنتقام الذي قد يرتد عليها صواريخ وتوتر داخلي؟

السعودية تريد أن تسترد مكانتها (المهانة) إسلامياً وعربياً، لأن إيران، ومعها سوريا وحماس وحزب الله، نافستها وبزّتها في ذلك وحققت مكاسب كبيرة، في حين أن السعودية، حليفة أميركا، سلكت توجهاً سياسياً آخر غير مرغوب فيه من الشعوب، وارتكبت أخطاء كبيرة في كل الأزمات ما مكن منافسيها ولا نقول أعداءها من الفوز واقتحام مناطق النفوذ. وبدل أن تسترد مكانتها الضائعة بهجوم إصلاحي سياسي في تحركها، زادت الطين بلّة وأصرت على نهجها خلاف موقف الأفرقاء الأقوياء الذين تعمل معهم (أميركا وفرنسا واسرائيل). أي أنها مصرة على (التخبيص السياسي) الذي لا يُعيد الى السعوديين هيبتهم المفقودة، ومكانتهم القديمة ومجدهم الضائع في محيطهم الإسلامي والعربي.

إذا كانت الحكومة السعودية تريد العودة الى مواقعها القديمة، فإن ذلك لا يتأتّى إلا بـ:

أولاً ـ إعادة تقييم واقع السياسة الخارجية السعودية. ستكتشف الحكومة السعودية أنها بحاجة الى العودة الى موقعها القديم من خلال لعب (دور الوسيط) الأقرب الى الحياد في تناول القضايا المعقدة عربياً وإسلامياً. فقد كان انحيازها لمشروع غير مجمع عليه عربياً، سبباً في خروج دول عديدة وأوراق عديدة من يديها. ثم إن السعودية قد تجد نفسها ملزمة بإعادة النظر في مسألة استخدام المال في السياسة الخارجية، فلا الماضي البعيد كان صحيحاً حيث الصرف المالي لتغيير المواقف كان صحيحاً، ولا إيقاف الدعم في المجمل ـ كما هو الحال الآن عدا عن البعض ـ يفيد السعوديين. المساعدات المالية هي وسيلة للتأثير على الأطراف وتمرير الرؤى والمواقف السياسية التوافقية دون أن تفقد صفتها الحيادية (الحادّة).

ثانياً ـ السعودية بحاجة الى إعادة بناء الإجماع العربي، وبقدر مساهمتها فيه وفي انجاحه، يمكنها أن تستعيد مكانتها العربية. فهي ـ أي السعودية ـ ساهمت في تهديم ذلك الإجماع، وأشعلت حرباً من هذا النوع بين الدول العربية نفسها، وجعلت السعودية طرفاً، لهذا وبعد أن غاب الإجماع العربي، غاب النفوذ السعودي أو ضعف عن بعض الأماكن والقضايا. أول الأوليات المفترضة لإصلاح السياسة السعودية هو ترتيب لقاء مع القوى العربية الكبيرة: العراق، سوريا، مصر، السعودية، الجزائر، وربما المغرب أيضاً، لكي ترسم استراتيجية جديدة للعالم العربي، تحدد أولوياته وأهدافه المستقبلية. هناك اليوم استراتيجيات متناقضة، وبالتالي من المهم التوصل الى استراتيجية واحدة وموقف تجاه القضايا العامة التي تشغل العالم العربي.

ثالثاً ـ السعودية بحاجة الى استعادة هامش الحرية الذي خسرته لصالح الولايات المتحدة بعد احداث سبتمبر. هذا الهامش من الحرية ضروري لإنجاح موقع المملكة في عالمها العربي. السعودية اليوم لا تواجه راديكالية عربية فحسب تخالفها في بعض توجهاتها السياسية، بل أن واشنطن نفسها تضغط على السعودية لتبني مواقف عربية وإسلامية ليست في صالح السعودية ومكانتها الإقليمية، كما هو واضح بالنسبة للموقف من حماس وسوريا وموضوع السلام مع اسرائيل، وموقفها المنحاز من المتخاصمين في لبنان، الأمر الذي أفقدها الكثير من سمعتها ومكانتها. وقد قامت أميركا بتخريب كثير من الجهد السعودي السياسي، وأوضح مثال على ذلك، هو اتفاق مكة بين حماس وعباس، حيث رفضت أميركا الاتفاق وعمدت الى تخريبه. يمكن للسعودية أن تتحلى بقدر أكبر من الشجاعة في مواقفها مع اميركا، ويمكنها استخدام نفوذها المالي والإقتصادي لتحقيق علاقة متوازنة مع واشنطن يمكنها أن تنفرد بقدر من الحرية في علاقات السعودية الإقليمية، وفرض وجهة نظرها.

رابعاً ـ السعودية بحاجة الى إعادة النظر في مسألة العلاقة مع ايران ومع العراق. فبدون تنسيق مشترك لا يمكن ضمان أمن الخليج بصورة صحيحة. إن مقولة (أمن الخليج يوفره أبناؤه) ليست خاطئة. لقد ثبت أن المواجهة مع ايران لا تخدم استقلال وسيادة السعودية ودول الخليج الأخرى، ولا توفر الأمن المنشود. وإيران قوة كبيرة لا يمكن تجاهلها في هذا الموضوع. ومن الأفضل ان تتوصل السعودية والعراق وايران لاتفاق (تضمنه قوى كبرى: الصين والهند وتحت مظلة الأمم المتحدة كما قال سعود الفيصل ذات مرة) يضع الخطوط العامة لأمن الخليج، ذلك أن التواجد المكثف للبحرية الأميركية والقواعد الأميركية في الخليج، خطر (استراتيجي) يهدد السعودية بقدر ما يهدد إيران نفسها. والأهم أنه لا يوفر الأمن للخليجيين والإيرانيين والعراقيين عموماً.

خامساً ـ استهلكت السعودية خلال العقدين الماضيين الكثير من سمعتها ومكانتها في العالم الإسلامي لصالح الحركات الإسلامية ولصالح إيران. ولا يمكن للسعودية أن تستعيد مكانتها إلا بمراجعة صادقة للتحولات في السياسة الخارجية السعودية، وما إذا كانت تلك السياسات خدمت السعودية وحلفاءها في واشنطن أم لا. وإذا كان الجواب بـ: لا، فإنها تستطيع أن تكون قوة اعتدال اسلامية بدون فتح جبهات مع عشرات من القوى الصغيرة والكبيرة، لا تخرج السعودية منها إلا بالضرر في سمعتها مجروحة في مكانتها كما هو الحال الآن.

سادساً ـ هناك فرصة للسعودية لتقوم بتعديل سياستها الخارجية، وذلك مع احتمال كبير بمجيء رئيس ديمقراطي، الذي سيقوم هو الآخر بمراجعة لسياسات واشنطن، وكما فعلت باريس حتى الآن أيضاً. وبالإمكان التنسيق مع واشنطن وإقناعها بأن (سعودية قوية) في محيطها الإقليمي، أكثر فائدة من زجّها في صدامات ومعارك آنية تريدها واشنطن، فتكون الخسارة مضاعفة للطرفين.

نعلم أن آل سعود لا يسمعون، ولا يقيمون، ولديهم بطء في الحركة والفهم أيضاً، ما يجعلهم بعيدين جداً عن مراجعة أنفسهم وسياساتهم خاصة لدى الجيل المعمر الديناصوري القائم والحاكم. هذا الجيل اعتاد استخدام وسيلتين سهلتين في عمله: الوهابية التي كانت ولاتزال تنشط للقمع في الداخل، فأوكلت لها اليوم مهام في الخارج (تخريبية) لصالح السياسة السعودية لم تؤد حتى الآن إلا الى إضعاف سمعة الدولة وشعبها؛ وهناك المال الذي يعتقد آل سعود أنه يحل كل مشاكلهم، وهذا من أتفه القول. المال عامل مساعد وقد يكون حاسماً إذا ما توفرت الرؤية الصحيحة، فكثرته لا تدل على تثميره سياسياً بالشكل الصحيح. وها هي السعودية أنفقت في العراق وفي لبنان الكثير من المال، ولكنها لم تجن شيئاً ذا بال كمحصلة نهائية، لأن الكثير من المال يخرّب الحلفاء وضمائرهم ولا يفيدهم في معاركهم، بل قد يتحول الى وسيلة إضعاف لهم ولنفوسهم ولجماهيرهم. وكم من المال السعودي ذهب الى غير موضعه، نظن أن أكثره ذهب في غير موضعه.

الصفحة السابقة