ورقة طرابلس الأخيرة

دمشق تأكل العنب، والرياض تبحث عن الناطور

هاشم عبد الستار

لماذا يصبح الحديث عن الشمال اللبناني مثيراً بالنسبة للسعودية وكأنه جزء تابع لها أو مقطوع منها أو كأنها تستودع فيه كل رهانات، وأموال، وأخطار، ومواجهات تحمل بصماتها الفاقعة منذ انفجار قضية (فتح الإسلام) العام الماضي، ثم الارتدادات السياسية والأمنية التي اعقبت 7 أيار/مايو الماضي، وانطلاق المرحلة الثالثة من التعبئة الأصولية السلفية بعد فشل محاولات الصدام مع المقاومة اللبنانية على قاعدة تفجيرات متنقّلة بطابع طائفي، وبعد فشل دور الاغتيالات في استدراج الجيش للمواجهة مع المقاومة، أو حتى سحب الأخيرة الى القتال الداخلي؟.

لم يعد الدور السعودي في الشمال اللبناني مقتصراً على المتضررين في الداخل، أو حتى في الدول المجاورة، فقد زار كثير من الصحافيين والمراقبين الأجانب منطقة طرابلس والتقوا مع قيادات سلفية على صلة وثيقة بتيار المستقبل، وفي الوقت ذاته أعدّت أجهزة استخبارات أوروبية (بريطانية، فرنسية، هولندية وغيرها) تقارير تفصيلية عن الدعم السعودي للجماعات الأصولية السلفية التي باتت على صلة وثيقة برئيس مجلس الأمن القومي الأمير بندر بن سلطان، مهندس نشاطات تيار المستقبل في لبنان.

وصف أحد المحللين السياسيين التجاذب السعودي السوري بأنه حرب باردة تدور رحاها على الأرض اللبنانية، بدأت منذ فبراير 2005، أي بعد اغتيال رجل السعودية في لبنان رفيق الحريري، لتضفي لاحقاً لونها على كل الملفات: العلاقات الدولية وتوظيفه كعامل ضغط، الصراع الطائفي على خلفية حدث العراق، المفاوضات مع الدولة العبرية، الجماعات الأصولية السلفية في شمال لبنان، الانتخابات القادمة.

لاشك أن سورية واجهت تحديّات خطيرة خلال العامين الماضيين هدّدت النظام السياسي فيها، وبلغت الضغوطات الدولية حد عزله عن العالم الخارجي، ويمكن تسجيل نجاح كبير للسعودية في هذا الشأن بالتعاون مع فريق 14 آذار اللبناني، وجرى استغلال المحكمة الدولية والاتهامات المفتوحة بضلوع سوريا في اغتيال الحريري. ماحققته الضغوطات على سوريا في الموضوع اللبناني كان كبيراً، فقد جرى تحصين الساحة اللبنانية عبر سلسلة ضغوطات وحملات إعلامية مكثّفة من أجل بتر الذراع السورية كيما لا تعود مرة أخرى الى لبنان. لكن التمادي المقصود في تحويل لبنان إلى قاعدة متقدّمة لزعزعة وتهديد الأمن السوري كان خطأً قاتلاً خصوصاً حين يتم في التوقيت الخاطىء، أي بعد أن بدأت دمشق في استيعاب الأخطار وخروجها من نفق الحصار الدولي المفروض عليها منذ أكثر من ثلاث سنوات.

منذ نهاية حرب تموز 2006 ونتائجها الصادمة للمراهنين على توجيه ضربة قاصمة لحزب الله وتالياً سوريا وإيران، بدأت سوريا تتأهب لخوض مرحلة جديدة بقدر كبير من الثقة من أجل قلب المعادلة وسحب زمام المبادرة من خصومها في لبنان والمنطقة عموماً، استهّلها الرئيس السوري بشار الأسد بمقولة قارعة لقادة معسكر الإعتدال حين وصفهم (أنصاف الرجال)، والتي أشعلت الغضب داخل خيمة المعتدلين، وبدأت السعودية وحلفاؤها بالتحرّك العاجل حيث عمدت بعد حرب تموز الى تحريك عناصر سلفية نحو طرابلس جاءوا إليها من العراق والسعودية وسوريا والأردن لخوض مواجهات مفتوحة داخل لبنان، كان من المقرر أن تنتهي الى صدام مسلّح مع حزب الله، ولكن خطأ الحسابات قاد الجماعات السلفية ممثلة في تنظيم (فتح الإسلام) للدخول في حرب مع الجيش اللبناني، والتي انتهت بضربة قاصمة تعرّضت لها الجماعات القاعدية، إضافة الى النتائج الفادحة التي أسفرت عنها الحرب سواء على سكّان مخيم نهر البارد أو على الوضع الأمني اللبناني. كشفت حينذاك تقارير أميركية ولبنانية وسورية بأن عناصر التنظيم جاءوا الى لبنان بالتنسيق والدعم من السعودية عبر تيار المستقبل.

القضاء على تنظيم (فتح الإسلام) حرم السعودية من اللعب بورقة الفتنة الداخلية، فلجأت لخيار الاغتيالات والتفجيرات التي بدأت باغتيال القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية في فبراير الماضي وانتهاءً بتفجير دمشق في نهاية سبتمبر الماضي. وفي حقيقة الأمر، منذ نهاية المواجهات في (نهر البارد) بدا واضحاً أن السعودية بدأت تخسر تدريجياً رهانها على إشعال الفتنة الداخلية في لبنان، بالرغم من الحوادث الأمنية المتنقّلة في الجنوب والبقاع، وجاء 7 أيار الماضي ليضع نهاية حاسمة للوجود الأمني الاستخباري السعودي والأردني، وكانت تلك ضربة حاسمة وجّهت للسعودية خسرت معها ما يقرب من ملياري دولار جرى استثمارها لدعم حلفائها في السلطة، ويمكن تخيّل الخسارة السعودية في الطريقة التي هرب فيها سفيرها في لبنان عبد العزيز خوجه، حين استقلّ البحر باتجاه قبرص للعودة إلى دياره محمّلاً بأنباء حزينة على ضياع جهود مضنية تم بذلها على مدار سنتين.

رسم 7 أيار اللبناني مساراً سورياً جديداً، بدأ بانهدام جدار العزلة الدولية، على وقع تقهقر الرهان السعودي في لبنان وفي إحكام الطوق حول دمشق، فقد خرجت الرياض من التسوية السياسية اللبنانية، ولم تعد معادلة (سين سين) التي بشّر بها رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري ذات جدوى عملية، بعد ترجيح كفة قطر في لعب دور مركزي في إبرام الإتفاق بين الموالاة والمعارضة، والذي خرجت منه الأخيرة بتحقيق شروطها كاملة.

كان واضحاً بأن السعودية لم تهضم الهزيمة كما أفصح إعلامها عن ذلك، فقد واصلت تحريك الفتن المتنقّلة من موقع الى آخر سواء في بيروت أو البقاع ليتكثّف لاحقاً في طرابلس، التي وضع فيها السعوديون ثقلاً مالياً وسياسياً كبيراً، وبصورة مفاجئة تحوّلت طرابلس عاصمة (أهل السنة)، التي خصّها السفير السعودية خوجه بزيارة عمل من نوع خاص، فيما جرى تنظيم حملات التبرع السعودية لصالح أهالي طرابلس.

اشتباكات طرابلس: رد فعل سعودي طائفي بعد خسارة سياسية

بدا السوريون على درجة تأهب قصوى حيال ما تخطط له السعودية في طرابلس، حين رصدت على مدار الشهور الثلاثة الأخيرة انتقال جماعات سلفية بين سوريا والعراق، وقامت بتشكيل بؤر أمنية وعسكرية في بعض المناطق السورية وخصوصاً في البساتين سواء في ضواحي دمشق أو في المناطق الحدودية القريبة من العراق، في محاولة لإعادة إحياء فكرة (الإمارة الإسلامية) الوهابية بامتياز، تكون أشبه بامتداد للوجود السلفي المتعاظم في طرابلس. تقارير أمنية سورية تحدّثت في يوليو الماضي عن تحرّكات مريبة يقوم بها عناصر الجماعات السلفية في المناطق السورية، وأن ثمة مراقبة دقيقة لمراكزها لجهة استكمال جميع المعلومات حول نشاطات وارتباطات هذه الجماعات، فيما يميل المسؤولون الأمنيون السوريون الى أن دوراً سعودياً واضحاً بالتعاون مع جهات سورية محلية وخارجية وأطراف لبنانية لتوظيف العناصر السلفية من أجل زعزعة الأمن في سوريا، بعد أن شعروا أن العراق لم يعد مكاناً مناسباً لتحقيق حلمهم الأيديولوجي. ونقلت صحيفة (الأخبار) اللبنانية في 30 سبتمبر الماضي عن مسؤول أمني سوري رفيع المستوى قوله (أن جهات في السعودية لم تكن بعيدة عما يجري، وأن عواصم غربية باتت على علم بهذه التفاصيل).

السعودية التي تضع رهانها على عاتق العناصر غير السعودية بدرجة كبيرة، بعد أن واجهت حرجاً شديداً في العراق ومن ثم لبنان خلال المواجهات مع الجيش، فإن من وقع في قبضة الأجهزة الأمنية السورية وهم بالعشرات قدّموا معلومات بالغة الخطورة عن نشاطات الجماعات السلفية ومصادر تمويلها وجهات الإرتباط التي تقف وراءها، وقد حصلت مخابرات الجيش اللبناني على ملعومات من الجانب السوري سهّلت مهمة مراقبة تحرّكات المجموعات السلفية، وهو ما دفع السلطات السعودية للإبقاء على العناصر السعودية التي استردتها من الأجهزة الأمنية اللبنانية بالرغم من وعودها بإعادتهم الى لبنان فور الانتهاء من التحقيق معهم أو محاكمتهم داخل السعودية.

لم يكتف الجانب السوري عند هذا الحد، فقد وضع بعض المعلومات حول ضلوع السعودية في دعم مجموعات إرهابية سلفية تحت تصرّف جهات غربية (فرنسية وألمانية بدرجة أساسية)، الأمر الذي سهّل على دمشق اتخاذ قرارها الأخير بحشد قواتها على الحدود الشمالية للبنان، من أجل مواجهة الجماعات السلفية التي تتسلل الى سوريا للقيام بأعمال تفجير، وهو ما حظي بترحيب متحفّظ من دول أوروبية عدّة، الأمر الذي دفع برئيس تيار المستقبل سعد الحريري إلى رفع الغطاء عن الجماعات السلفية من أجل كبح أي خطوة احترازية سورية قد تؤدي الى عودة الجيش السوري الى لبنان.

الإيحاء السعودي لفريق 14 آذار بتنظيم جولة على بعض العواصم الأوروبية لتضخيم خطر الحشود السورية لم يلق آذاناً صاغية بل سمع الفريق كلاماً منغّصاً، حين طالبه المسؤولون الأوروبيون بعدم اللعب بالنار في الشمال، ووقف الدعم عن الجماعات السلفية. واصلت السعودية وحليفها الإستراتيجي في لبنان سعد الحريري حملة التهويل إزاء الحشود السورية، ولكنه جاء متهافتاً. في باريس حذّر نائب رئيس (مجموعة الصداقة البرلمانية الفرنسية ـ اللبنانية) جيرار بابت من أن مجموعات سلفية ترتبط بالقاعدة تسعى لجعل شمال لبنان (مركزاً جديدا للإرهاب الدولي)، فيما رأى بابت لوكالة (آكي) الإيطالية أن إنفجار طرابلس (يندرج ضمن إستراتيجية زعزعة الاستقرار التي تتبعها مجموعات سلفية مقربة من تنظيم القاعدة بهدف جعل شمال لبنان مركزا جديدا للإرهاب الدولي).

بدأت إرهاصات السخط اللبناني والدولي بالتعاظم تدريجياً حيال ما تقدم عليه الرياض من أجل تعويض خسارتها السياسية عبر اشعال الشمال اللبناني. ونجحت سوريا في ظل المناخ الجديد في تغذيته بما يفقد السعودية كثيراً من أوراق السياسة. وفيما تمسّكت الرياض بورقة الفتنة المذهبية، حيث اعتبرت المواجهات في الشمال بين السنة والعلويين بأنها محاولة لتغريم سوريا، فاختارت الأخيرة الورقة المناسبة في الوقت المناسب، حيث شهرت موضوع الإرهاب في وجه السعودية، حين اعتبرت طرابلس مركزاً للجماعات السلفية المتطرّفة، وبذلك حظيت الحشود العسكرية السورية على الحدود الشمالية للبنان بدعم الاتحاد الأوروبي، وإن جاء مشفوعاً بتحذير بعدم الدخول الى الأراضي اللبنانية. في السياق نفسه يأتي مؤشر جديد حول احتمال رفع واشنطن الحظر عن سوريا.

هنا تبدو أن ورقة الجماعات الأصولية لم تعد حكراً على السعودية، فهذه الجماعات التي كانت فيما مضى تحظى بغض نظر سوري حين كانت تقوم بأعمال مسلّحة في العراق ولبنان أصبحت اليوم محاصرة، الأمر الذي قد يفسّر إقدامها على الهروب للأمام والدخول في مواجهة مع سوريا.

ادرك اللبنانيون طبيعة التجاذب السوري السعودي في الأرض اللبنانية، فقد مرّر نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الشيخ عبد الأمير قبلان في 30 سبتمبر الماضي تصريحاً بدلالة لافتة حين قال بأن ثمة تصفية حسابات تجري بين أطراف خارجية في الداخل اللبناني، وقال (إذا كان هناك من طرف يريد تصفية حساباته مع أعدائه فليصفها على أرضه وليس في لبنان..). رئيس تيار التوحيد اللبناني وئام وهاب أعقبه بتصريح مماثل حيث وجّه أصابع الإتهام الى السعودّية بالوقوف وراء تفجير طرابلس.

السعودية التي تصرّ على إبقاء حالة العداء مع سوريا لم تعد قادرة على التخلّص من عقدة العلو والقوة الوهمية بالرغم من أنها تلحظ بالعين المجرّدة كيف أن تلك العقدة كبّدتها خسائر باهظة، وأن حلفاءها الدوليين قد تخلّوا عن استراتيجية القطيعة والمواجهة مع سوريا. باتت الرياض تدرك بأن لا خيار أمامها للنجاح في مواجهة دمشق، وأن الفرص قد تقلّصت الى أقصى حد، ولم يعد عامل الزمن يسدي خدمة من أي نوع للسعودية لتسديد ضربة قاصمة لسوريا فقد أكلت دمشق العنب والرياض لا زالت تبحث عن الناطور.

الصفحة السابقة