(القاعدة) ووزارة الداخلية

من يصنع العنف في السعودية؟

يحي مفتي

هل ثمة ما يستوجب إعادة فتح ملف التفجيرات والمواجهات المسلّحة في السعودية التي جرت منذ 1995 وحتى 2003 وما تخللها من حوادث أمنية واغتيالات وسلسلة الروايات حول اكتشاف مخططات لتفجير منشآت حيوية، يشارك فيها مئات بكميات هائلة من الاسلحة الخفيفة والمتوسطة ومواد شديدة الانفجار؟

ربما كان التحقيق الذي نشرته وكالة آي بي إس في يونيو الماضي حول تفجيرات الخبر في يوليو 1996 والذي كشف فيها عن الخداع السعودي لمسار التحقيق بتواطؤ واضح من قبل مسؤولين في هيئة التحقيق الفيدرالية (إف بي آي) أحد الخيوط الرئيسية، إلى جانب خيوط أخرى كشف عنها سيمور هيرش في تحقيقه حول جماعة تنظيم فتح الاسلام في لبنان ودور فريق ديك تشيني بالتنسيق مع الامير بندر بن سلطان، وما نشرته الصحافة البريطانية من أخبار عن تهديد الامير بندر بن سلطان لرئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بأنه سيعيد تجربة 7/7 في لندن إذا لم يتوقف مكتب التحقيقات في الغش التجاري عن متابعة ملف الرشاوى في صفقة اليمامة التي أبرمت بين السعودية وبريطانيا في العام 1985.

معطيات كثيرة تستدعي فتح ملف حافل بالأسئلة حول الدور الأسطوري الذي لعبه تنظيم القاعدة بما يتجاوز حدود إمكانياته الاستراتيجية والتخطيطية وفوق ذلك الاستخبارية. فالظهور الفجائي لهذا التنظيم محمولاً على أكتاف أميركية لا بد ان يثير أسئلة كثيرة حول العاصفة الاعلامية التي اجتاحت الشرق الأوسط والعالم بأسره بعد يومين من تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والذي عرّف فيه الرئيس الأميركي هذا التنظيم بوصفه المسؤول المباشر عن تلك الهجمات، في وقت لم يسمع أغلب شعوب الشرق الأوسط دع عنك شعوب العالم عن إسم هذا التنظيم فضلاً عن قدراته الخارقة بما يفوق قدرات أعرق التنظيمات المافيوية في أوروبا واميركا. فقد أصبح إسم القاعدة في مقدمة نشرات الأخبار على مدار سنتين بعد الهجمات الأمر الذي أوحى لشعوب ووسائل اعلام عربية ودولية بأن ثمة ظاهرة دولية لم يعرفها التاريخ قد بدأت تهدد السلام العالمي، بما تمتلكه من قدرات بشرية واستخبارية وعسكرية تؤهلها لاختراق كل التحصينات في أي نقطة يشاء عناصر القاعدة الوصول اليها.

ولكن هل الأمر متطابق مع تصويرات الإدارة الأميركية السابقة وفريق ديك تشيني والامير بندر بن سلطان، بالنظر الى طبيعة تكوين القاعدة والتدريبات التي حصلت عليها وحجم الامكانيات التي بحوزتها؟

فمن المعروف ان عناصر القاعدة تدربوا على القتال في معسكرات في أفغانستان وباكستان بإشراف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وبتمويل سعودي، ولم تكن لدى أي من قيادات وكوادر القاعدة خبرة أمنية تؤهلهم لخوض أشد العمليات العسكرية تعقيداً بما تتطلبه من عمل أمني بالغ الدقة والحرفية. فهل يمكن لمجرد خوض معارك عسكرية أو حرب عصابات بأسلحة متوسطة أن تجعل من هذا التنظيم شبكة استخبارية وامنية وعسكرية ممتدة على خارطة الكون، أم أن التصوير الاعلامي المبالغ فيه تمت تغطيته بعمل استخباري وامني من جهة ما أميركية وسعودية كيما يحقق اغراضاً ليس بالامكان تحقيقها بالاتكّال على مجرد نشاطات عسكرية عشوائية او في احسن الاحوال مستمدة من علم حرب العصابات.

خارج البيئة التي نشأ فيها تنظيم القاعدة لابد أن يبعث شكوكاً كثيفة، خصوصاً وأن التنظيم يخوض معاركه الاستعراضية خارج أرض النشأة، بما يجعله مكشوفاً أمام قوى ومعادلات اخرى أقوى منه، فاختلال الميزان العسكري والأمني بين القاعدة والدول التي نفّذ فيها عملياته العسكرية والأمنية تطرح أسئلة جوهرية حول مصادر قوة القاعدة.

وهذا يعيدنا الى النشاطات الاولى المسلّحة للتنظيم خارج أفغانستان، فقد كانت الاعمال العسكرية المنسوبة الى القاعدة في السعودية (تفجير الرياض سنة 1995 وتفجير الخبر 1996) وحتى تفجيرات سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام لم تكن أعمالا عسكرية محض، بل تطلبا عملا أمنياً كثيفاً ومعقداً وكذلك تفجير بارجة كول في عدن فضلاً عن تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، دع عنك تفجيرات لندن في 7 يوليو 2005 وسلسلة التفجيرات الاخرى في مدريد وغيرها، وكلها تشير الى تفوّق الجهة التي قامت بتلك الاعمال على خبرات الجيش الجمهوري الايرلندي ومنظمة الباسك الانفصالية في اسبانيا.

نايف يتفقد أسلحة مصادرة من القاعدة

فهل ثمة جهة ما كانت تضطلع بالمهمة الاستخبارية والأمنية لتمهيد السبيل أمام عناصر القاعدة لتنفيذ العمل العسكري؟

يتفق الخبراء العسكريون والأمنيون في الولايات المتحدة وأوروبا وحتى في الشرق الأوسط على أن العمليات العسكرية المنسوبة للقاعدة لم تكن تحقق نجاحها دون جهود استخبارية وأمنية بالغة الدقة. فقد كان اختيار الاهداف مدهشاً الى حد أن من يدقق فيها يتوصل الى ان ثمة اختراقات أمنية واستخبارية غير مألوفة من تنظيمات صغيرة، ولابد أن أجهزة استخبارية كانت تقف وراء ذلك. تفجير الرياض في نوفمبر 1995 والذي استهدف فريق التدريب العسكري الأميركي للحرس الوطني لم يكن موقعاً عاديا، شأن الاشخاص الذين تم استهدافهم. وكان يمكن تفادي حدث عسكري آخر فادح الخسارة لو كان الأمر متعلقاً بعمل عسكري محض، ولكن جاءت الضربة الثانية أشد إيلاماً حيث تم ادخال طن من المواد شديدة الانفجار والنادرة الى داخل المجمع السكني الخاص بالنخبة العسكرية في القاعدة الجوية الأميركية في الظهران، حيث حصد الانفجار أنفاس عشرات من الطيارين العسكريين الأميركيين ما حدا بوزير الخارجية الأميركية الاسبق وارن كريستوفر للقول بأن الانفجار شكّل ضربة موجعة للأمن القومي الأميركي. نشير هنا الى التحفظات التي أحيطت بموضوع عدد الضحايا فبينما جرى الحديث عن 19 قتيلاً وعشرات الجرحى، فإن مصادر في مستشفيات أرامكو بالظهران ذكرت بأن الضحايا كانوا أكثر من هذا الرقم بأضعاف كما كشفت عن ذلك ثلاجات الموتى.

وبقي السؤال مطروحاً: لو كان الاتهام الموجه الى ايران بأنها وراء التفجير صحيحاً لما تردّدت الولايات المتحدة في شن حرب خاطفة على طهران، ولو كان ما يعرف بحزب الله الحجاز مسؤولاً عن تلك التفجيرات لما تم الافراج عن المئات منهم خلال شهور قليلة وتم الاحتفاظ بعشرة منهم للمساومات السياسية والأمنية؟

على أية حال، فإن الحديث عن تفجير الخبر يضيء على كل العمليات العسكرية المنسوبة للقاعدة، التي تعمّدت السلطات السعودية استبعاده كطرف مشتبه به، بحسب تقرير آي بي إس الأميركية في يونيو الماضي.

الشكوك المحيطة بتلك العمليات لابد أن تسلط الضوء على فريق ديك تشيني بالتنسيق مع الأمير بندر بن سلطان والذي تحدّثت عنه تقارير أميركية بأنه، أي هذا الفريق، قد أعدّ خطة لشن حملة اغتيالات وتفجيرات من أجل تصعيد الخطر على المصالح الحيوية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط لتبرير وجودها العسكري، بما في ذلك اغتيال رئيس الوزراء الأسبق في لبنان رفيق الحريري في 14 فبراير 2005.

أحد الخبراء الاستراتيجيين يقول جازماً بأن فريق ديك تشيني والامير بندر بن سلطان كان المسؤول عن تهيئة الواقع الأمني كيما يسلّم المهمة لتنظيم القاعدة لتنفيذ عملية عسكرية هنا وهناك، بحيث كلما وقع حدث أمني نسب الى القاعدة أو تم القبض خلاله على عناصرها.

فهل بات السؤال الآن ملحاً حول العلاقة بين القاعدة والاجهزة الأمنية السعودية والاميركية؟ وهل يستدعي ذلك فتح ملف التفجيرات والاعمال العسكرية في الداخل والخارج؟

مهما كانت الاجابة عن العلاقة المشبوهة بين القاعدة وأجهزة استخبارية اميركية وسعودية فإن ثمة حقائق يجدر تسجيلها:

أولاً: ان خطة تتويج القاعدة كمصدر تهديد للسلام العالمي، وتحويله الى تنظيم معياري لكل التنظيمات الاسلامية من اجل تبرير الحرب على الارهاب، المكافىء اعلامياً في الغرب للإسلام، كما يلفت الى ذلك المفكر الفلسطيني الراحل ادوارد سعيد في كتابه (تغطية الإسلام)، قد نجحت الى حد كبير، واستطاع الاعلام الغربي والأميركي أن ينصّب القاعدة باعتبارها ممثلاً قهرياً للعقل السياسي الإسلامي والسني منه على وجه خاص، بينما توارت تنظيمات عريقة ووزانة عن المشهد الإعلامي كونها متناقضة في تكوينها الفكري والسياسي وحتى الايديولوجي مع الوهابية مثل تنظيم الاخوان المسلمين في مصر بكل تفريعاته واشتقاقاته في المغرب وتونس والجزائر والسودان وحتى سوريا وفلسطين ولبنان والكويت.

فتنظيم الاخوان المسلمين الذي بقي متمسّكاً بخيار المقاومة عن فلسطين ضد الاحتلال الاسرائيلي ودافع بكل صلابة عن المقاومة اللبنانية في وجه العدوان الاسرائيلي على لبنان في صيف 2006 ثم في دعمه المطلق للمقاومة الفلسطينية في غزة في حرب ديسمبر ـ يناير 2009، هو من رفض في الوقت نفسه تكفير المجتمعات او اعتماد الخيار العسكري في التغيير السياسي والثقافي، كما فعل تنظيم القاعدة. ومن اللافت ان بيانات الاخير حول فلسطين ولبنان كانت تأتي متأخرة وفي الغالب سلبية وتحمل لهجة خصامية ضد مشروع المقاومة، وكأنها بيانات مصمّمة في غرف سوداء متخصّصة في الحرب النفسية.

ثانياً: ان قسماً كبيرا من عناصر القاعدة قد خضعوا تحت تأثير خديعة كبرى من قبل قادتهم في التنظيم، والذين أوهموهم بأنهم يدافعون عن كرامة الامة وعزتها وشرفها وعن الاسلام والجهاد في سبيل الله ضد الصليبيين واليهود. وقد تفاجأ قادة الجيش اللبناني من ان العناصر السعودية التي تم أسرها اتسمت ببساطة تبعث على الضحك والشفقه في آن واحد، كونهم اعتقدوا وهم في مخيم نهر البارد انهم يقاتلون في فلسطين المحتلة. لقد اماط وزير الداخلية الامير نايف عن بعض من هذه السذاجة لدى المقاتلين السعوديين بعد أن فاحت رائحة الفضيحة بعد أن تم استغلال غباء المقاتلين السعوديين لتنفيذ العمليات الانتحارية فحسب، أي استعمالهم كقنابل بشرية.

وهنا يطرح السؤال: هل يعقل ان تنظيماً يضم آلاف العناصر من السعودية خلال الحرب الافغانية لم يتم الكشف عنه الا بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر وأن يقوم بتنفيذ عمليتين عسكريتين نوعيتين عبر تهريب كميات كبيرة من المواد المتفجرة ثم تستبعد السلطات الأمنية السعودية والأميركية أي دور لجماعات الافغان العرب الذين عادوا بوجه آخر الى بلدانهم، ولم يستقبلهم أهاليهم استقبال الفاتحين بل انخرطوا على الفور في مهمات أخرى كان من بينها تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر؟

ثالثاً: في ضوء التحقيقات المحلية (لبنان والعراق وسورية واليمن) ودولية نشرت بعض فصولها صحف اميركية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست حول دور المقاتلين السعوديين في العمليات الامنية في العراق، على سبيل المثال، تجعل من الضروري اجراء مسح شامل لعمليات القاعدة. اشارات تقارير اللجنة الدولية المسؤولة عن التحقيق في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري في 2005 والتفجيرات المتنقلة التي تشير التحقيقات في بعضها على الاقل الى أصابع قاعدية وسعودية، كما تبين بوضوح في تحقيقات استخبارات الجيش اللبناني مع تنظيم فتح الاسلام والذي تبين ان نسبة كبيرة من مقاتليه سعوديون جاءوا في أوقات متزامنة الى لبنان من مطاري دبي والبحرين، يضاف اليها غزوات الفنادق في الهند، والتي كشف فيها النقاب عن سعوديين، وكذلك تفجيرات دمشق والمواجهات المسلّحة في القامشلي ودير الزور والغوطه، علاوة على الامارات الاسلامية من منطقة القبائل في الباكستان الى امارة طرابلس في لبنان.

لا يمكن النظر الى مثل هذه النشاطات العسكرية والامنية التي قام بها تنظيم القاعدة بعين واحدة، بل لا بد من ادخال كل ادوات التحليل السياسي والثقافي لفهم أبعاد مستورة في تنظيم عسكري نشأ في منطقة بدائية أن يحقق أشد العمليات العسكرية تعقيداً من الناحية الأمنية.

الصفحة السابقة