أزمة فكرية أم تحوّل اجتماعي؟

بعد العريفي.. البرّاك في قلب العاصفة

فريد أيهم

إنكسر برنامج الحماية الذي وضعه مشايخ الوهابية في السعودية لأنفسهم تحت عنوان (لحوم العلماء مسمومة)، فلم يعد صالحاً للإستعمال بعد الآن، ولم يعد الصمت عن فتاوى التكفير والقتل المكافأة التي يحصل عليها علماء المؤسسة الدينية في المملكة السعودية، فقد تبدّل الحال دراماتيكياً.. فقد فوجىء التيار الديني المتشدّد بعواصف غاضبة تهبّ من كل صوب عقب كل فتوى تنطوي على دعوة مباشرة أو مبطّنة بالكفر والقتل. فيما مضى، كان من يصنّفهم علماء المؤسسة الدينية بالحداثيين والليبراليين يلوذون بالملك أو أحد الأمراء طلباً للحماية من غائلة فتاوى القتل التي كانت تصدر ضد كاتب هنا، وروائي هناك، وصحافي هنالك..لم يعد الحال اليوم كما كان عليه في السابق، فقد قرّر الضحايا تحطيم (التابو) الوهمي الذي صنعه الديني والسياسي معاً، ولسان حالهم يقول: كفى، فقد ولي زمان الصمت، وليست هناك جهّة فوق المسائلة والنقد، ولن نسكت على تغوّل التكفيريين، ولن نخضع لتهويلاتهم وأراجيفهم، وليسوا هم من يقرر مصير البلاد والعباد.

الملك والشيخ البرّاك

لأول وهلة، يبدو المشهد كما لو كان معبّراً عن صراع تيارات ثقافية يمتد إلى عقود خلت، ولكن في واقع الأمر أن ما يضمره المشهد أبعد وأخطر من ذلك، فثمة تحوّل إجتماعي بأبعاد سياسية تعكسه طبيعة الخطاب المتصاعد في الداخل النازع نحو إحداث تغييرات جوهرية في المجتمع والدولة معاً. صحيح أن الاحتدامات الجارية مازالت مقتصرة على البعد الثقافي والأيديولوجي ولكنها تومىء بقوة الى أن ثمة مآلات سياسية يراد لها أن تستوعب طبيعة الحراك الاجتماعي الناشط.

بين أيدينا طائفة كبيرة من المجسّات التي يمكن من خلالها استكشاف مديات التحوّلات الإجتماعية والثقافية والسياسية، وبإمكاننا التوقّف عند حدثين بارزين وقعا منذ بداية هذا العام.

الأول: خطبة العريفي في صلاة الجمعة بجامع البواردي في الرياض في 3 يناير الماضي والذي فجّر فيها أزمة داخلية وخارجية إثر استخدامه لغة طائفية لاهبة، بعد أن نال من المرجعية الشيعية في النجف السيستاني، الذي وصفه بالفجور والزندقة، وتكهّم على المرجعية الزيدية في اليمن بدر الدين الحوثي. في التقدير الأولي يمكن القول بأن العريفي لم يكن يشكّ للحظة بأن خطبته ستحظى بترحيب في الداخل، وستفتح أمامه بوابة الشهرة، وسينال مكافأة شعبية ورسمية لقاء خطبة وصفت بأنها أقرب إلى الفحش منها للإيمان، ولكن المفاجأة جاءت عكس توقّعات الجميع، حيث انفجرت عاصفة من الانتقادات في الصحف اليومية المحلية ومواقع الانترنت ووسائل الاعلام وانتقلت الى خارج الحدود إلى حد أن دولة مثل الكويت منعته من دخول أراضيها، فيما تم إيقاف بعض برامجه التلفزيونية من البث على قنوات فضائية. وفي المحصّلة، أطلقت خطبة العريفي العنان لمناقشة ملف التكفير في هذا البلد، وتصاعدت المطالبات بتجريم الكراهية الدينية أو التحريض عليها من قبل رجال الدين السلفيين.

إنبرى مناصرون للعريفي في التيار السلفي الوهابي للدفاع عنه، وصدر بيان من صقور التكفير في المملكة، ونسج الشيخ ناصر العمر أحد هؤلاء الصقور رواية مؤامرة رباعية يقودها الصليبيون واليهود والليبراليين والشيعة ضد الاسلام، في رد فعل على موجة الإنتقادات التي غمرت الساحة المحلية بعد خطبة العريفي. على أية حال، لم يفلح دفاع صقور التكفير في التعويض عن الخسارة المعنوية والإجتماعية والثقافية التي تكبّدها العريفي والتيار السلفي عموماً، فقد فرض التيار المناهض للتكفير والكراهية الدينية نفسه على الساحة الاجتماعية، ما دفع العمر للتعبير بحسرة عن انحسار الدين في المجتمع.

الثاني: فتوى الشيخ عبد الرحمن البرّاك بإباحة دم مستحلّي الإختلاط، وهو موضوعنا هنا، والتي هي الأخرى شكّلت صدمة في صدورها، وصدمة أكبر في ردود الفعل عليها.

من نافلة القول، يعتبر الشيخ البرّاك من صقور التيار السلفي في المملكة، على الأقل في العقد الأخير، وكان إسمه يرد في قائمة البيانات التكفيرية التي صدرت بعد انطلاق أول جلسة للحوار الوطني في يونيو 2003، والتي نال فيها من الليبراليين والشيعة تكفيراً وتبديعاً، كما تصدّر إسمه بيانات لاحقة مثل مؤتمر حوار علماء المسلمين في مكة المكرمة العام 2007.

للشيخ البرّاك فتاوى متشدّدة حول دور المرأة منها ما جاء في سؤال بتاريخ 1 يونيو 2009 حول حكم ظهور الداعية في التلفزيون بحجابها الشرعي لغرض الدعوة والافتاء فأجاب: (من المعلوم أن مشاركة المرأة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة تترتب عليها مخالفات شرعية من خروج بلا حاجة، ومخالطة للرجال، وتصوير لشخصها وإن كانت محجبة، وفي ذلك ما فيه من المفاسد..). وخلص للقول: (لا يجوز للمرأة أن تخرج في القنوات الفضائية داعية أو مفتية أو معلمة، بل يجب أن يقتصر نشاطها في الدعوة العامة على بنات جنسها في بيت أو مدرسة أو مسجد في مصلى النساء). وعارض الشيخ البرّاك فكرة الأندية الرياضية الخاصة بالنساء واعتبرها (من أعظم العوامل في تغريب المرأة المسلمة وإفساد المجتمع المسلم لذلك) (فتوى 31507 بتاريخ 16 إبريل 2009).

وللبرّاك فتاوى أخرى سابقة في موضوعة المرأة وشؤونها، لم يلتفت إليها، وربما غفل عنها الناس، طالما أنها غير ملزمة لأحد ولم تنل شهرة وانتشاراً في الإعلام. ولكن حال الفتوى التي نحن بصدد عرضها هنا كان مختلفاً، فقد جاءت في سياق تجاذبات اجتماعية وأيديولوجية متصاعدة، وفي ظل تأهّب غير مسبوق من قبل تيار اجتماعي عريض للتجابه مع فتاوى التكفير والقتل.

الطريفي: تأييد التكفير والقتل!

ماهي الفتوى؟

في 8 ربيع الأول الماضي الموافق 22 فبراير الماضي نشر موقع (البرّاك) وهو الموقع الرسمي للشيخ عبد الرحمن بن ناصر البرّاك ما وصفه (تحذير من فتنة الدعوة إلى الاختلاط) بدأه بالقول (فإن الاختلاط بين الرجال والنساء في ميادين العمل والتعليم ـ وهو المنشود للعصرانيين ـ حرامٌ؛ لأنه يتضمن النظر الحرام، والتبرج الحرام، والسفور الحرام، والخلوة الحرام، والكلام الحرام، بين الرجال والنساء، وكل ذلك طريق إلى ما بعده).

تحذير البرّاك موجّه بصورة حصرية الى من وصفهم بـ (العصرانيين) وهو وصف مفتوح يشمل الليبراليين والعلمانيين والحداثيين وكل من لا يتوافق مع النظرة السلفية في الموضوعات الحديثة. وقال بأن دعوة العصرانيين إلى الاختلاط محثوثة بـ: (النزعة الى حياة الغرب الكافر، فعقولهم مستغرِبة، ويريدون تغريب الأمة؛ بل يريدون فرض هذا التغريب. الثاني اتباع الشهوات..).

وبحسب الترتيب الفقهي السلفي بطبيعته الحكمية، فإن الكفر يستلزم القتل في حال رفض الحجّة الملقاة. يقول البرّاك (ومن استحل هذا الاختلاط ـ وإن أدى إلى هذه المحرمات ـ فهو مستحل لهذه المحرمات، ومن استحلها فهو كافر، ومعنى ذلك أنه يصير مرتداً، فيُعرَّف وتقام الحجة عليه فإن رجع وإلا وجب قتله..). أما (من رضي بعمل ابنته أو أخته أو زوجته مع الرجال أو بالدراسة المختلطة فهو قليل الغيرة على عرضه، وهذا نوع من الدياثة..).

كان يمكن للفتوى أن تبقى طي النسيان، شأن فتاوى سابقة، ولكن ثمة من أراد إخراجها الى الضوء لغاية في نفس جريدة (الوطن) السعودية، التي أطلقت بازار المناظرات الثقافية على نطاق واسع محلياً وخارجياً.

ومن اللافت أن من قاد زمام المبادرة في المناظرات لم يكن المثقفون الليبراليون، أو العصرانيون حسب توصيف البرّاك، بل بدأت أول مرة في الدائرة الدينية ثم انتقلت الى الدائرة الثقافية الواسعة. وأيضاً، أن المبادرة جاءت من علماء داخل المؤسسة الدينية الرسمية قبل أن تجتذب علماء من الأزهر. في موقف غير مسبوق. ردّ عضو هيئة كبار العلماء الشيخ قيس آل الشيخ على فتوى البرّاك بعدم جواز تكفير من أباح مسألة من المسائل الخلافية وقال (إن الكفر هو رفض ما جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويقع ذلك إذا صدر من إنسان فعل أو قول أنكر فيه حكماً مجمعاً عليه..)، فيما طالب القاضي بوزارة العدل الشيخ الدكتور ناصر الداوود بقصر (مهمة إصدار الحكم بالتكفير على المحاكم القضائية فقط)، معتبرا فتوى البراك (وجهة نظر طالب علم من أفراد المجتمع). في المقابل، تضامن الشيخ محمد النجيمي، العضو الرئسي في برنامج المناصحة، في تصريح لصحيفة (الوطن) في 25 فبراير الماضي مع البراك في فتواه، ووصفها بـ (المتناسقة والمترابطة).

علماء الأزهر الشريف في مصر دخلوا على خط التجابه الفقهي مع فتوى البرّاك، كوّنها تتعرّض لعلماء وطلبة الأزهر الشريف تكفيراً وقتلاً. وقد ردّ علماء الأزهر على الفتوى بشأن الإختلاط بأنها (معركة في غير معترك)، وقالوا بجواز الاختلاط وفق الضوابط الشرعية وللضرورات المعروفة وعلى رأسها طلب العلم. وقال وكيل الأزهر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية الشيخ محمود عاشور، أنه (لا يجب أن يكون الأمر تحديات بين العلماء وردود فعل ولا يصح أن يكفر بعضنا بعضا فالأصل إباحة الإختلاط لأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة (وأطلبوا العلم ولو في الصين). وقال إن الفقهاء أجمعوا على إجازة الاختلاط في فصول الدراسة والحدائق العامة وفي المحاضرات ما داموا ملتزمين بالضوابط الشرعية، كما أجازوا سفر المرأة للحج مع الرفقة الآمنة، فالاختلاط يحدث في السعي وفي الطواف، وهذا يعني أنه يجوز الاختلاط في طلب العلم.

السديس: مع فتوى القتل

مفتي مصر الدكتور على جمعة أفتى بإباحة الاختلاط بين الفتيات والبنين لطلب العلم مع الإلتزام بالآداب والقيم التى حددتها الشريعة الإسلامية. وأشار إلى أنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية ما يمنع الإختلاط بين الشباب والفتيات سواء في الجامعات والمدارس أو غيرها لطلب العلم، في ضوء الحديث النبوي الشريف (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة).

في رد فعل على اعتراضات علماء الأزهر وبعض الكتّاب المحليين، جنّدت بعض المواقع عدداً من المشايخ للمنافحة عن فتوى البرّاك. شبكة (نور الاسلام) التي يشرف عليها الشيخ محمد بن عبد الله الهبدان نشرت مقالاً في 25 فبراير للشييخ عبد العزيز بن مرزوق الطريفي المعرّف بالباحث العلمي في وزارة الشؤون الإسلامية بعنوان (الاختلاط .. وانحناء القلوب)، عبّر فيه عن مساندته لفتوى البرّاك، واعتبر ما كتبه في هذا الشأن (لا يَخرج عن الحق لفظاً ولا معنى).

ووجّه الطريفي نقداً غير مباشر لكثير من العلماء الذين لزموا الصمت حيال ما وصفه (جلد الإعلام الشاذ في ترويض الاختلاط). كما وصف كل عالم يخالف فتوى البرّاك بالجهل، وقال عنه بأنه (خال القلب من نور الوحي، أو طال انحناء ظهره لسطوة الإعلام فطال أمده فظن أنه إنما خُلق أحدب الظهر..). يقول الطريفي ذلك كله مشيراً إلى نفوذ الإعلام على مواقف العلماء ودوره حسب قوله (في تقزيم عملاق وعملقة قزم).

قدّم الطريفي تقريضاً وتقريراً لفتوى البرّاك في مسألة الاختلاط، وأسهب في شرحها من وجوه عدّة، منطلقاً من مبدأ تحريم الاختلاط، الذي اعتبره مورد اجماع علماء الاسلام من سائر المذاهب المتبوعة، محيلاً الى كتاب صنّفه في موضوعة (الاختلاط تحرير وتقرير وتعقيب) يستحضر فيه نصوص الشريعة وإجماع الأمة عبر القرون، حسب قوله.

لم يزد الطريفي على ما ورد في فتوى البرّاك حول المقصود بالإختلاط، أي إجتماع الذكور والإناث في مكان واحد في التعليم والعمل، وليس الإختلاط العابر كالأسواق والمساجد والطرقات بلا ممازحة ومماسّة (فهذا يفعله الناس في كل العصور علماء وعامة)، واقتفى ذات طريقة البرّاك في ترتيب الأحكام، بتكفير مستحل الحرام القطعي وبذلك يستتاب وإلا حكم بقتله.

وفتحت شبكة (نور الاسلام) ملفاً تفاعلياً لمتابعة فتوى البرّاك في الإختلاك، ونشرت في 24 فبراير الماضي رداً دفاعياً للشيخ حامد العلي عن البرّاك، ولفت الى أن الأخير لم يقل بكفر القول بمطلق الإختلاط، وإنما من استحلّ المحرمات المقترنة بالإختلاط لا محالة، وفحوى الفتوى حسب قوله (فهو كمن قال: الاختلاط جائز حتى لو علمنا أنَّ الزنا يقترن به لا محالة..). وقال بأن منتقدي البرّاك حرّفوا كعادتهم الكلام عن مواضعه (بقصد التشنيع على دعاة الفضيلة الذين يقفون في وجه المخرّبين الذين ظهر قرنهم، وعلا صوتهم، وانتشروا في مواقع إعلامية، في بلاد الحرمين شرفها الله، ليس لهـم هم إلاَّ استهداف الإسلام، وتشويه صورته، وتهجين رسالته، ومشروعهم قائم على مسخ الفضائل، وإحلال الرذائل، وإستبدال الثقافة الغربية اللخناء المنحلة، بثقافة الإسلام الفاضلة المطهرة..). وكما يظهر، فإن العلي لم يتنبّه الى أن توضيحه جاء متطابقاً مع فهم منتقدي الفتوى، فضلاً عن أن خاتمة ردّه كشفت عن موقف متشدّد من المخالفين من خلال طائفة الأوصاف التي ساقها ضدهم.

من جهته، ذكّر عبد الرحمن التميمي على نفس الشبكة بأن فتوى البرّاك ليست جديدة، بل هناك فتاوى سابقة صدرت في القرنين الخامس والسابع الهجريين لأبي بكر العامري وأبي الفضل المالكي وأبو عمر الكناني وغيرهم من الذين حرّموا الاختلاط. وخلص بعد ذلك للقول (كلام الشيخ دقيق جداً).

ونسج الشيخ عبد الرحمن السديس على منوال الطريفي في توضيح أبعاد الفتوى، وأطرى عليها حيث اعتبرها (الضربة القاضية) ولكن لمن؟ كما يبدو أن كلام السديس منصبّاً على الخصم القديم/ الجديد ممثلاً في (العصرانيين) الذين نالوا نصيباً من رد السديس (كثير ممن تغيظهم جهود العلماء والناصحين في كبح جماح التسارع الذي يريده المستغربون لهذا البلد الطيب: سارعوا للتشنيع على هذه الفتيا، والتحريض على قائلها، وتحميلها ما لا تحتمل..) وتعدّى ذلك الى غيرهم أيضاً (واشتغل معهم أيضا الحاقدون على أهل السنة من الفرق الضالة والذي يقتنصون أي فرصة للحديث عن علمائنا والنيل منهم بغير حق). بالرغم من أن الغالبية الساحقة من الردود جاءت من المصنّفين على أهل السنة. اللافت أن السديس نظر الى كثرة الردود بإيجابية كونها ساهمت في انتشار الفتوى وقال: (فكان من نعمه الله في هذه الحادثة: أن قرأ هذه الفتيا أمم من الناس ما كان لهم أن يعرفوا عنها شيئا)، إلى جانب نعم كثيرة رصدها السديس من بينها أن الفتيا هذه كانت (رفعة لدرجة الشيخ وتكفيراً لسيئاته).

الشيخ محمد النجيمي الذي برز بوصفه أحد أقطاب لجنة المناصحة، والخبير في مجمع الفقه الاسلامي الدولي وأستاذ الدراسات المدنية بكلية الملك فهد الأمنية، كان قد نفى التصريح لصحيفة (الوطن) حول فتوى الشيخ البرّاك في الاختلاط، ولكن حين سئل عن موقفه من الفتوى دافع عنها، وأوضح بأن البرّاك خصّ بفتياه (فئة العصرانيين)، إلا أنه أضاف من موقعه الرسمي بأن الاستتابة من مستحلي الإختلاط (يجب أن تكون عبر أجهزة الدولة الرسمية، من الأجهزة الأمنية، وهيئة التحقيق والادعاء، والقضاء بدرجاته المختلفة: الابتدائي - الاستئناف – النقض المحكمة العليا)، فمن أصرَّ على رأيه (من استباحة أشياء معلومة من الدين بالضرورة، بعد مروره بجميع هذه الجهات القضائية، فانه يطبق عليه العقوبة الشرعية)، ما يعني أن الحكم بالقتل مازال قائماً ولكن تطبيقه يتمّ من قبل أجهزة الدولة.

ولم يتردّد النجيمي في استحضار الخلاف السياسي بين الرياض وطهران في سياق التجاذب الفقهي والفكري حول فتوى البرّاك، حيث وصف النجيمي منتقدي البرّاك بـ (الطابور الإيراني وإن شئت فقل الطابور الخامس الذي يستهدف علماء المملكة ويسكت عن جرائم الآخرين، هذا هو التيار الموالي لإيران بطريقة غير مباشرة).

النجيمي يؤيد القتل ولكن بيد الدولة!

مؤيدون آخرون لفتوى القتل

تصاعدت وتيرة المجابهات الثقافية واحتلت مساحة بارزة في المشهد الاعلامي المحلي، وتداعى المؤيديون والمعارضون لفتوى البرّاك للدخول في حلبة السجال الثقافي والاعلامي.

في خطوة متوقّعة وإن جاءت متأخرة وغير مكتملة، لغياب أقطاب كبار ومعروفين كانوا على الدوام ضمن خط البيانيين، أصدر نحو 26 رجل دين وأستاذ شريعة وقاضياً، وباحثاً بياناً في 27 فبراير الماضي يؤّيدون فيه فتوى البرّاك بحرمة الاختلاط وردّة القائل بحليّتها ولزوم قتله بعد استتابته. وكان من بين الموقّعين الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية سابقاً، و د.عبدالله بن حمود التويجري، رئيس قسم السنة وعلومها بكلية أصول الدين بجامعة الإمام سابقاً، ود.عبدالرحمن بن صالح المحمود، الأستاذ في قسم العقيدة بجامعة الإمام سابقاً، د.محمد بن ناصر بن سلطان السحيباني، عميد كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية فالمدينة المنورة سابقاً، فيما غاب الشيخ ناصر العمر. وجاء في البيان بأن (الاختلاط وما يتضمنه من المذكورات ـ النظر الحرام والتبرج الحرام والخلوة الحرام والكلام الحرام ـ هو من المحرّمات الظاهرة، واستحلاله يعدّ إنكاراً لحكم معلوم من الدين بالضرورة، لما فيه من التكذيب والجحود المناقض للتصديق، أو الإباء والامتناع المناقض للإذعان والالتزام للشرع). ويضيف البيان أن ما قاله البرّاك (متفق تماماً مع أصول أهل السنة أن من استحل المحرمات الظاهرة فهو كافر.. وعلى ذلك فتكفير من أتى مكفِّرا حكمٌ شرعيٌّ متلقى عن صاحب الشريعة..).

وأبدى الموقّعون استغرابهم (صدور الدعوة إلى اختلاط النساء بالرجال في العمل والتعليم في بلاد الحرمين المملكة العربية السعودية، بعد أن منَّ الله على نسائها بالعفة والطهر، وبعد أن بدأ بعض العقلاء في الغرب ينادون بضرورة فصل الجنسين، لأن الاختلاط سبب انتشار الرذيلة وسقوط الأمم). ورغم أن هذا الرأي يمسّ الأغلبية العظمى من الدول العربية والإسلامية التي تعتمد نظام الاختلاط في التعليم والعمل مع الاحتفاظ بالحدود المعروفة في العلاقة ذات الاختصاص، فإن الموقّعين يبدو أنهم انطلقوا من دعوى الربط الحتمي بين الاختلاط والإنحراف الاخلاقي، ما جعلهم ينزعون الى حسم الحكم في المسألة بطريقة نهائية وغير مؤصّلة نقلياً وشرعياً بقدر استنادها على صورة نمطية وأوضاع اجتماعية يعيشها الموقّعون أو البيئة التي تفرض نفسها عليهم لإصدار حكم من هذا القبيل.

حمل البيان على وسائل الاعلام، وطالبوها بإفساح المجال أمام العلماء والكتّاب المحسوبين على التيار الديني للتعبير عن وجهات نظرهم في موضوع الاختلاط والتذكير بمساوئه، وخاطبوا أيضاً رجال العلم الشرعي الذين قالوا بإباحة الاختلاط (إلى التوبة إلى الله، وأن يراجعوا أنفسهم..).

انتقلت المعركة الى موقع فيسبوك على الانترنت وبرزت مجموعة ضمت أكثر من 700 مشترك، دافعت عن الشيخ البرّاك، بسبب الحملة التي يتعرض لها بعد الفتوى التي أصدرها، وأجاز فيها قتل دعاة الاختلاط في السعودية. وحملت المجموعة إسم (دفاعاً عن سماحة الوالد الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك) وعرّفت عن نفسها بالقول: (لقد اشتدت في الآونة الأخيرة الهجمات الشرسة من الليبراليين أعداء الدين على العلماء في المملكة ومحاولتهم الدائمة لإسقاطهم والوقيعة بينهم وبين الحكام، وهم يشنون الآن هجمة آثمة على سماحة شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك بسبب فتواه الأخيرة بخصوص الإختلاط). وأضافت: (واجبنا تجاه هذا الحبر العلامة والمربي الفاضل والعالم الزاهد الورع أن نعلن بكل صراحة ووضوح وقوفنا بجانب شيخنا وسيدنا سماحة الشيخ العلامة عبد الرحمن البراك وأن نعلن حبنا له ومناصرتنا له ولكل العلماء المخلصين وكرهنا للتيار الليبرالى الخبيث الذي يحاول إسقاط العلماء واحدا تلو الآخر).

العاصفة الصحافية ضد البرّاك

بخلاف مرات سابقة، وموضوعات مختلفة، جاءت ردود الفعل على فتوى البرّاك من الاتجاهات الوطنية الدينية المعتدلة والليبرالية جريئة، وقاطعة، ومباشرة، وهو ما لم يكن يتوقّعه التيار الديني السلفي الذي اعتاد أن يحمل السيف ضد خصومه المجرّدين حتى من حق الرد على حملات التكفير التي كانت تطالهم.

بات الوضع مختلفاً الآن، وبإمكان من صدرت بحقهم فتاوى بالتكفير والردّة والقتل مثل تركي الحمد، ومشاري الذايدي، ونجيب الزامل، وغيرهم أن يتنفسّوا الصعداء، فقد تكفّل مجايلوهم بمهمة اختراق قلعة الخوف التي أنشأها رجال الدين السلفيين لتسديد سهامهم منها وحماية أنفسهم من سهام خصومهم. وضع التيار الوطني الديني المعتدل والليبرالي حداً لوهم دام عقود كان يحتكر فيه رجل الدين الحقيقة السماوية، ويصدر بناء على احتكاره المزعوم أحكاماً بالتكفير والقتل، وهاهو يضع فتوى البرّاك تحت ضوء كاشف لفحصها وتشريحها ونقدها.


الراشد: إرحم المجتمع ياشيخ

من الردود الأولى التي صدرت على فتوى البرّاك، كان مقالاً بصحيفة (الرياض) في 25 فبراير الماضي بعنوان (ياشيخنا، العمل سمة العلماء!؟) للكاتب راشد فهد الراشد. وبعد مقدّمة نظرية وتيولوجية عن وسطية الاسلام واعتداله، واعتماده العقل أداة في فهم مقاصده واستنباط أحكامه، طالب بصورة غير مباشرة من البرّاك، كرمز لعلماء الدين السلفيين في المملكة (أن يتعقل ويعقل، ويتقي الله في هذا المجتمع المحاصر بفتاوى التحريم، والتجريم، والشدة والقسوة في التوجيه. واستخدام مفردات قاموس رديء ، لايجب أن يستخدمها حتى الهامش الاجتماعي). وعلّق على فتوى البرّاك بالقول أنه بهذه الفتوى (أباح دماء شرائح كثيرة في المجتمع، وإن غابت عليه مفاهيم وبيئات الإختلاط ، وجهل جهلاً فاضحاً المقصود منه، وأين. وهذا يفضح قصر النظرة عند الشيخ، وعدم رغبته في الاطلاع، بل يفهم ويقرأ بالواسطة. ثم يحكم عاطفته). ووجّه الراشد نداءً مباشراً للبرّاك (أيها الشيخ . إنها دعوة خطرة، فارحم المجتمع من ويلاتها).


زاهد: أين فتوى تجريم استباحة المال العام؟

في مقالة لها في صحيفة (الوطن) في 26 فبراير بعنوان (أين فتاوى الشيخ البرّاك عن الفساد) تساءت أمل زاهد عن غياب فتوى للبرّاك تدين الفساد الذي تسبب في سيول جد وأودى بحياة عشرات من الأرواح البريئة، وكشف عن جرائم هدر وسرقة المال العام في إحدى أكبر مدن المملكة. وعرضت زاهد أمثلة عدّة حول الفساد المالي والاداري فيما لم يصدر عن البرّاك فتوى تجرّم من (استباح) المال العام، (ولم ير بأساً في سرقة مقدّرات الوطن وحقوق العباد، ثم تسبّبت أياديه المتجنيّة الخفية في إزهاق أرواحهم). ومن بين ما رصدت زاهد من الأمثل سرقة براميل النفط ومد الأنابيب لشفط مقدّرات الوطن على مدى أحد عشر عاماً، والتي اكتشف حدوثها مؤخراً في ينبع، ومنها أيضاً استحلال الرشوة واستغلال المناصب والواسطة والمحسوبية وعدم تكافؤ الفرص وتعتبرها إفساداً في الأرض، ومنها الفقر المدقع في المملكة.

تقول زاهد: (دخلت إلى موقع الشيخ وحاولت البحث عن فتاوى تتعلق بالفساد وإهدار المال العام فلم أجد، ولكني وجدت الكثير من الفتاوى المتعلقة بالشكلانيات والتفاصيل - كما اعتدنا - من معظم رموز تيارنا الديني، فيما تظل القيم الجوهرية للدين كالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس وفقه التعاملات بعيدة عن الطرق والتكريس والتعزيز! كما وجدت فتوى ردة وتكفير من استباح الاختلاط ثم هدر دمه متصدرة للموقع، مشاعة لكافة زائريه على اختلاف وعيهم ودرجة إدراكهم!).


الموسى: هل يعدم البراك الملايين بتهمة الاختلاط

في مقالته بتاريخ 27 فبراير بعنوان (صاحب الفضيلة قبل أن تفتي بالقتل) والمنشورة في صحيفة (الوطن)، يثبّت على سعد الموسى حقاً مبدئياً للشيخ البرّاك بالإفتاء، حتى لو كتب فيها مفردة (القتل)، وبحسب الموسى (فهو لم يأت بجديد: تلك للحق لغة البعض). استعرض الموسى واقع المسلمين اليوم وضغوط الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي تفرض نمطاً مختلفاً من التعامل والعلاقات، فهناك عشرات الملايين من العاملين في حقول الزراعة والصناعة والتجارة من الجنسين الذكر والانثى من أجل توفير لقمة العيش وحياة كريمة لهم ولعوائلهم، واستعرض نماذج في ماليزيا، ومصر، واليمن فهل يحكم على الملايين الذين يبحثون عن مصدر رزقهم بالاعدام بتهمة الاختلاط. وختم مقالته بتوجيه كلمة مباشرة للبرّاك (صاحب الفضيلة: ظروف المسلمين ليست ما تشاهده بالرياض، والإسلام وأهله ليسوا بالصورة التي تشاهدها. بل هم أبعد بكثير عن الصور التي يبثها إليك المريدون).


الفوزان: البرّاك خلط بين السبب والأثر

الكاتب الصحافي عبد الله ناصر الفوزان نشر مقالاً بعنوان (فتوى الشيخ البراك كتبت برأس "الهراوة" وبطريقة "لا يفل الحديد إلا الحديد") نشرت في صحيفة (الوطن) في 27 فبراير الماضي. قلّل فيها من شأن الفتوى، كونها متهافتة رغم الدويُّ الذي تحدثه، والسبب من وجهة نظره (لأنها في حقيقة أمرها بلا قدمين وفي النهاية فلن يكون لها محل من الإعراب). ولفت الفوزان الى أن البرّاك كان قد أوضح رأيه في وقت سابق في الإختلاط في بيان طويل خرج على موقعه يردّ فيه على وزير العدل، ولكن يبدو أن ذلك لم يحدث الأثر المطلوب، وربما أن بعض المهتمين بالأمر استعانوا به بعد ذلك التطور الكبير في الموقف من الاختلاط الذي صدر من شخصيات مرموقة لها وزنها في الساحة الدينية مثل وزير العدل ورئيس فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة، وبعض القضاة والمشايخ، فأصدر بيانه الأخير بطريقة (لا يفل الحديد إلا الحديد) وكتب فيما يبدو ليس بالقلم ولكن برأس (الهراوة) فلجأ لـ(التكفير) بالطريقة التي وردت في البيان الذي نشره على موقعه.

ومن وجهة نظر الفوزان، أن كلام البرّاك لا يقوم على قدمين (لأن الخلاف بيّن الموقف بين الشيخ والآخرين ليس من الاختلاط في حد ذاته بل من الأثر الناتج من هذا الاختلاط، فالشيخ البراك يقطع بأنه سينتج عن الاختلاط تلك الأمور المحرمة التي عددها وقال في فتواه إن من استحلها فقد كفر إلى آخر فتواه، بينما الآخرون لا يوافقونه في الأثر الناتج عن ذلك الاختلاط الذي أجازوه ويعتبرونه حالة من أحوال الحياة قد ينتج عنها ضرر وقد لا يحدث ذلك، أي أنهم لا يستبيحون تلك الأمور المحرمة التي عددها الشيخ البرَّاك والتي بنى عليها فتواه). ولم يقلل البرّاك من شأن تداعيات الفتوى كونها تنطوي على حكم بالتكفير والقتل، وباتت في متناول عامة الناس، أي أنها قابلة للاستعمال من أي شخص يعتنق فتوى من هذا القبيل، بحيث يقوم بتنفيذ القتل ضد من يصدق عليه حكم الاختلاط.


الحربي: فتوى البرّاك تؤسس لمسلخ مركزي

ماقاله الفوزان مداورة، وضعه خلف الحربي في صحيفة (عكاظ) في 28 فبراير بحروف واضحة بدأها بالعنوان (ماذا تركتم لتنظيم القاعدة). وضع الحربي فتاوى التكفير والقتل في الميزان: إما أن تكون فتاوى التكفير والقتل صحيحة وحينها يجب إنشاء مسلخ مركزي في كل شارع لذبح من يحاول إبداء وجهة نظره في قضية خلافية، أو أن تكون فتاوى القتل والتكفير خاطئة ومتسرعة فنجد أنفسنا مضطرين للغرق في بحر من الفوضى الفكرية والقانونية واللغوية حيث نرفض أن نسمي الأشياء بمسمياتها الصحيحة ونتهرب من اعتبار هذه الفتاوى (الخاطئة والمتسرّعة) تحريضاً صريحاً على ارتكاب أعمال أرهابية.

وسخر من اللغة المراوغة التي يستعملها بعض المشايخ في صوغ فتاويهم، وتضمين عبارات غاضمة تحتمل الرأي ونقيضه، أو تقدّم إجابات غير حاسمة، بل هي أقرب الى لغة الإشارة التي لا يفهمها سوى فريق متخصّص في توظيف الفتاوى لأغراض قتالية. وذكر الحربي عبارة مشهورة (وأدى ذلك إلى) التي ترد في فتاوى العلماء، والتي تؤول، حسب قوله، إلى (وضع المجتمع في مآزق فكرية قاسية بين فترى وأخرى، لماذا يهرب بعضهم من مواجهة الواقع المرير فلا يتدخلون في معالجة قضايا الفقر والبطالة والفساد الإداري ولا نسمع أصواتهم العالية إلا في قضايا طارئة هم من افتعلها وهم من اختار توقيتها؟!).

وأخيراً، وقف الحربي على نقطة مفصلية وتحدث بصراحة أكبر (كل مشكلة تنظيم القاعدة أنه يكفّر مخالفيه ويقتلهم دون رحمة، فما الفرق بيننا وبين هذا التنظيم الإرهابي إذا كنا سنفعل الشيء ذاته؟، هل تظنون أن تنظيم القاعدة يقتل الناس دون فتاوى من مشايخ معتبرين يشرعون له عملياته الإجرامية؟، إن الانتحاريين الذين يفجرون أنفسهم يؤمنون بأن ما يفعلونه هو الحق وأن ضحاياهم كفار كان يجب قتلهم منذ زمن بعيد، فما الفرق بينهم وبين شاب يقرأ فتاوى التكفير فيقتل مسلماً بريئاً أو يفجِّر نفسه في مجمع تجاري مختلط دفاعاً عن فكرة شيخه الذي يملك الحقيقة الكاملة!).


بن حزام: إحجروا على البرّاك

في مقال تصعيدي وغير مسبوق، كتب فارس بن حزام مقالاً في جريدة (الرياض) في 2 مارس الجاري بعنوان (إحجروا على مُطلق الفتوى)، بدأها بمناقشة مسمى (علاّمة) وهو الذ يسبغ على البرّاك ويسبق إسمه، وعلّق بن حزام بالقول (هي تسمية لها أبعادها الكبيرة، من حيث منح القدسية لصاحبها بلا معنى). وعارض من يضع تقدّم السن شرطاً لمنح القدسية، إذ ليس هناك من دليل عليه. وبناء على خبرته في قراءة الفكر القاعدي، استعرض بعض فتاوى القتل ووضع في السياق نفسه فتوى البرّاك التي يدعو فيها الى قتل من يجيز الاختلاط في العمل ومؤسسات التعليم. ويضع الفتوى في سياق سياسي لم يكشف عنه بقوله (وخطورة الفتوى، التي تم توريط صاحبها فيها، أنها لا تقتصر على من أصدر فتوى جواز الاختلاط في العمل والتعليم، بل تمتد إلى الراعي السياسي لها). وفي توضيحه اللاحق ما يزيد الأمر غموضاً وكأن ابن حزام يمسك بمعطيات عن إما صراع أجنحة داخل العائلة المالكة، وإما عن جهات قاعدية متسترة تحيط بالبرّاك كما توحي بعض العبارات، المهم أن ثمة جهة ما دخلت على الخط لتوجيه البرّاك نحو اصدرا الفتوى في هذا الوقت بالذات، يقول ابن حزام (من أفتى بالقتل بعد يوم من صدور الأحكام ـ أحكام ضد مموّل للقاعدة وآخر يفتي بالقتال في العراق ـ لا يعي معنى فعله، والأقرب لدي، أن من رتب المسألة كلها، في صياغة سؤال الفتوى، وطريقة العرض، وموعد العرض على الموقع الإلكتروني، لم يكن مطلق الفتوى، بل من يعمل معه. فهذا المفتي لا يقرأ الصحف، ولم يطلع على خبر محكمة الإرهاب قبل يوم من إعلان فتواه، فجاءت الفتوى لتخلق جواً متوتراً، واختباراً حقيقياً على قدرة المواجهة). ولهذا السبب طالب ابن حزام بوضع البرّاك في محجر صحي لدرء أخطار فتاويه على المجتمع.


الراشد: فتوى البرّاك تسترخص أرواح الناس

يبدو أن ما قاله راشد فهد الراشد في مقالته الأولى لم يكن كافياً، الأمر الذي تطلب عودة أخرى الى موضوع فتوى البرّاك في الاختلاط، فكتب في 2 مارس الجاري مقالاً في صحيفة (الرياض) بعنوان (ماذا أنتجت فتاوى التكفير وإهدار الدماء..؟!)، بعد أن تبيّن له مشهد التفاعلات المتواصلة على فتوى البرّاك، وبدأ مقالته بمقدمة ماخوزية محثوثاً بالحريق الذي التهم الخيمة الثقافية بنادي الجوف الأدبي والذي وجّهت فيه أصابع الإتهام الى متطرّفين مقرّبين من التيار السلفي ( نكتب وحالة الحزن تجتاح كل فضاءاتنا، وينمو في دواخلنا، أو هو يكبر على الأصح الوجع، والتفتت من الحالة التي أوصلنا إليها شيوخ التكفير، وإهدار دماء الناس، وكأنما أصبح الانسان في درجة من الرخص، والابتذال أقل من قشرة بصل، أو نفاية من النفايات القذرة. فكرامته مستباحة، وقيمته هشة قميئة، ووجوده كوجود بعوضة، أو أتفه).

واستعاد الراشد ذاكرة مثخنة بالتحديات والهواجس على المستقبل، مستحضراً تطلعات شعب في دولة تسير في خط العلم والمعرفة وركب التطوّر، أمام ذلك كله (لقد تكرّس الخوف لدينا لأن المنجز الفكري والرؤيوي والتحديثي، يقابل بشراسة وحدة وجهل شيوخ التكفير، واستباحة أعراض المسلمين، وقذف المحصنات من النساء بالرذيلة، والأفعال الساقطة لمجرد أنها تذهب الى عملها في أحد المستشفيات، أو المؤسسات الأهلية). وفي الاخير تساءل الراشد (نسأل شيوخ التكفير ، فالفتنة نائمة لعن الله من أيقظها..إلى متى سيظل هؤلاء يمارسون فتاوى التكفير، وإهدار الدماء، وخلخلة أمن الناس؟).


الدخيل: البرّاك أزمة منطق

أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود بالرياض والكاتب خالد الدخيل ناقش في مقالته المنشورة في جريدة (الإتحاد) الإماراتية في 3 مارس الجاري بعنوان (فتوى التكفير: ما رأي هيئة كبار العلماء؟)، الأساس المنطقي للفتوى، متجنِّباً الخوض في انشعابات مدرسية داخل مجتمع العلماء، على أساس دلالة النص، وحصرية تلك الدلالة. وانطلاقاً من ثابت أن فتوى البرّاك هي من داخل المنطق الديني، ولكنه منطق يستمد عناصره وآلياته من مدرسة مختلفة ليست بالضرورة تحقق في نفسها صفة التمثيل للحكم الإسلامي العام، مورد إجماع الأمة أو الغالبية الساحقة فيها.

الأساس المنطقي لفتوى البرّاك يقوم على الربط الحميمي والقهري بين الاختلاط والاحرام، بما يصدق عليه كل ما يؤول الى الوقوع في الحرام فهو حرام، مثل دخول الحانات، ولذلك فهو يرى بأن الاختلاط يقود إلى (النظر الحرام والتبرّج الحرام والسفور الحرام والخلوة الحرام والكلام الحرام بين الرجال والنساء) ولذلك فهو (يتضمن) الحرام بما يجعله حراماً. من وجهة نظر الدخيل، فإن هذه فرضية تعسفية، لأنه في حال اعتبار الإختلاط مشروطاً بصور الحرام الواردة هنا، فإن ذلك يطيح بأمور كثيرة في الحياة وفق هذا التسلسل المنطقي القهري، وبذلك يصبح ركوب السيارة والقطار والطائرة والباخرة لما يتضمنه من اختلاط حراماً يستوجب الكفر والقتل.

يرى الدخيل بأن (الواقع الذي يتصوّره الشيخ للإختلاط هو واقع متخيّل، لا علاقة له بما حدث أو ما يمكن أن يحدث في حالة الإختلاط، واستتباعاً لا علاقة له بالنص الديني الذي يفترض أن يكون المرجعية الحاسمة للتعامل مع هذا الواقع. لكن مأزق الشيخ، ومأزقنا معه، أنه من دون ذلك الافتراض التعسفي تسقط فتواه من أساسها). وإلا ليس كل من يبيح الاختلاط يستحل ما قد يترتب عليه من محرمات، ولكن الشيخ سيرفض مثل ذلك الجواب، الذي يطيح بفتوى بل فتاوى له سابقة فضلاً عن عشرات الفتاوى لدى علماء من مدرسته. ولذلك ما يفشيه منطق البرّاك (أن من يبيح الاختلاط يستحل بالتبعية تلك المحرمات).

وينفرد الدخيّل، ربما، في وضع فتوى البرّاك في سياقها الطبيعي، فهو يرى بأن الفتوى كان يمكن أن تمر دون ضجيج وصخب إعلامي واجتماعي، ولكنه (الواقع السياسي والفكري الذي صدرت فيه)، حسب قوله. ففي هذا الواقع تجاوز البرّاك منطق الدين مع منطق الدولة، حيث يفترض الأخير (أن تكون مشروعية استخدام العنف، أو التلويح به حقاً حصرياً للدولة دون سواها. ومن هذه الزاوية، كان من الممكن أن يخضع البراك للتحقيق والمساءلة حول فتوى التكفير التي أهدر بها دماء كثيرة لمسؤولي ومواطني الدولة، وخارج مقتضيات المؤسسة القضائية للدولة).

وفق هذه الرؤية، أثار الدخيل سؤالاً حول موقف (هيئة كبار العلماء) في المملكة من هذه القضية، (لأنها المؤسسة المناط بها حسم جدل كهذا. حتى الآن لم يصدر عن هذه الهيئة شيء. نحن إذن أمام إشكالية تتعلق بطبيعة المنطق الديني في إطار الدولة، وطبيعة العلاقة بين الدين والدولة داخل هذا الإطار. والإشكالية أن المتطرف لا يعتبر أن ارتباطه بالدين تشكل في إطار الدولة، وأنه يجب بالضرورة أن يمر عبر الدولة).

الصفحة السابقة