الأميرة بسمة بنت الملك سعود

رحلة 80 مليار

الأميرة بسمة بنت الملك سعود

جلست أمام جهاز التلفاز أشاهد بهدوء وموضوعية ما تقشعر له الأبدان، ويحار منه الزمان، ويولد علامات تعجب واستفهام: ثمانون مليار ريال، وما أدراك إلى أين ذهبت الثمانون مليارا، وفي جيوب من عبرت تلك الأرقام لتصل إلى ما صرفت له؟

مشروع القطار!، كلنا نعرف تكلفته الأصلية، والشكل الذي عرض قالبه على الملك، وكان شبيها بالرصاصة الفولاذية والحضارة اليابانية، والتقنية الأمريكية، والرفاهية الفرنسية، ذو أرقام فلكية. وعندما بدأ تشغيله رأينا بضاعة صينية، لا تشبه الصور المقدمة إلى الملك والسلطات التشريعية، ولا تمتّ بصلة إلى الأرقام الفلكية التي سحبت من أجل تشغيل هذا القطار الذي وصف من أحد الحجاج بالخارج (عجبت يا جماعة، المملكة تشغل هذا النوع من الأجهزة، إحنا ما عندناش فلوس، بس شغلنا أحسن القطارات، بأقل الأسعار، حتى لوكان إتاكل منها كتير، ولكن صرف منها الكثير). عندما سمعت هذه العبارات هززت رأسي، وقلت لنفسي: ما هو الجديد في الساحة؟ فهذا ما تعودنا عليه في كل مرة: أرقام فلكية، وتنفيذ لا يرقى إلى أقلّ الحضارات تقدماً، قالباً من غير قالب، قشور ذهب، والقالب من تنك!

أما وفي نفس المجال، تقف الساعة الرهيبة، ذات الشكل البريطاني الذي ينتمي إلى ساحة بيكنجهام، وليس فوق بيت الله الحرام، والشعار الذي يعلوالساعة وكأنه محتار إلى أي ثقافة ينتمي، فشكل الساعة فوق المسجد الحرام بحد ذاته (حرام)، وإن لم يجرؤ أحد من مشايخنا الكرام أن يقوله خوفاً من السلطات المحلية والأوامر التنفيذية، فإنني أقولها، ووجدت جمهوراً لا يخاف إلا رب العزة والجلال.

إن كل الأشكال الهندسية التي أحيطت بالبيت الحرام، هي ذات دلالة خطيرة، لتغطية الكعبة الشريفة عن أعين المعتمرين والحجاج، وسكان بكة الطيبة، ومرتع لمنتجعات لا تمت بصلة الى روحانيات هذا البلد الأمين، ولا لشعائر الحج والعمرة من جهاد وشعور بالانتماء إلى الثقافة الإسلامية، والشعائر الدينية التي أمرنا بها بأن نزهد في الدنيا وما عليها، ونتساوى كخلق أمام الرحمن، ولا الى شعائر هذا الدين الحنيف الذي ساوى بين العربي والأعجمي بالتقوى.

أما كان يسأل أحفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين عندما كانا يعتمران أو يحجان: لماذا لا يمتطيان الأحصنة ويحملان الخيام، ويتزودا بأحلى الطعام، وهما ذاهبان إلى هذه المناسك المقدسة؟ ألم يكن جوابهما شاف للقلوب الميتة بأنهما يريدان الأجر في كل خطوة مرتجلين الرحلة على الأقدام حتى ينالا الأجر والثواب الكاملين؟ وألم يقولا إنها رحلة الجهاد الأكبر والشعور بالزهد مما يعكر صفو هذه الرحلة الروحانية؟ ألم يطلب الرسول بعدم أخذ أجر مبيت المسلمين الذين يصلون إلى مكة للحج والعمرة ألم.. ألم..؟ بينما نحن غارقون في بناء المنتجعات السياحية بمكة، وشوارعها ومن يقطنون بيوتها أو بالأحرى من بقي منهم يئنّ من الجوع وخراب الشوارع والبيوت، والفقر المدقع، ومن لا يصدقني فليأخذ يمنة أويساره عند وصوله إلى بكة، ويجول في أروقة شوارعها، فسيرى ما تقشعر له الأبدان من فقر مدقع، وبطون فارغة، وشيوخ وأطفال يئنون من أمراض مستعصية، بينما تؤجر الغرفة في أحد فنادق مكة أمام الحرم بعشرات الألوف، ويعطى لأصحاب العقارات المنزوعة القروش، ويفرضون عليهم القبول وإلا الويل والثبور.

ولنعد إلى مسألة الثمانين مليار التي منها توسعة المسعى، هل من المعقول هذا الرقم الخيالي الذي بتنا نعرف أنه عنوان إحدى الشركات الكبرى التي باتت الوحيدة في الساحة، تأخذ كل المناقصات الحكومية، وتوزعها في الباطن بأسعارها المعهودة، وجودة بنائها الذي بتنا نرى نتائجه في كل شوارع المنطقة الغربية، وأبنية الأماكن المقدسة، ونرضى بأن نسكت عن هذه المهزلة الأزلية؟

فبالله عليكم: ألا يكفي هذا المبلغ لبناء كل المنطقة الغربية والشرقية، وما جاورها من قارة إفريقية باتت تنام وتستيقظ على الجوع والموت السريع، ونحن نرى هذا المبلغ الرهيب، يمرر عبر جلسة افتتاح، ولا أحد يجرؤ أن يتقدم إلى مليكنا الحبيب ونايف الأمين ويقول لهما هذا هو الكذب الرهيب الذي يجب أن يحاسب عليه كل من نفذ وأشرف على هذا المشروع الركيك: من قطار مشاعر إلى ساعة لا تنتمي إلى الحضارة الإسلامية؛ ومسعى لا يحتاج إلى هذه الأرقام الخيالية؟

ثمانون مليار ريال!. لنعدّها، ولن نستطيع؛ لأنها مبلغ يكفي لبناء وإشباع كل شعب المملكة العربية السعودية، ويلغي كلمة فقر من هذه البقعة الجغرافية، وتعلو كلمة الحق التي يجب أن تستعيدها هذه السلطة التنفيذية التي أصبحت متعلقة في كراسيها منذ العهود البدائية الحجرية. لا بد من المحاسبة ومساعدة كل بيت وأسرة في هذه البلاد الطيبة، لتوظف هذه الأرقام الضخمة لأولويات وهي إسكان وإطعام سكان هذه الجزيرة العربية، وليس لتوسيع وتعمير ساعة تشبه أصنام الجاهلية، وأبنية تلغي هوية هذه البقعة الشريفة المكية، وتغطي على أول بيت وضع للإنسان؛ وعلى قطار ينتمي إلى العصور ما قبل الهجرية والصناعية.

من يجرؤ ويقول كلمة الحق لملك الإنسانية؟ لا صوت لمن تنادي، وهذا ما تعودت عليه عند كتابة مقالاتي، ولكن يوما ما سيصل الصدى ليصبح أزيزاً، وعندها ستسمع كلمة الشفافية وتصل إلى مليكنا، وأتمنى أن تكون من خلال علمائنا الذين أحملهم المسؤولية وأداء الأمانة بكل شفافية ومصداقية، فكفانا أكل لحوم البشر وصرف النظر.

همسة

لم يعد للهمس فائدة..

فيجب من الآن أن يكون الهمس رسالة واضحة لكل من له صوت ونخوة إسلامية، فهذه مسؤولية سنسأل عليها، ورسالة سنحاسب عليها.

الصفحة السابقة