المشكلة الشيعية في السعودية

هل يحي اعتقال النمر ربيع الثورة في السعودية؟

قمع الشيعة جزء من شرعية النظام السعودي

توبي ماتيسن

توبي ماتيسن

خلال الأشهر الأخيرة، قتلت قوى الأمن في شرق المملكة العربية السعودية سبعة من المواطنين الشيعة بالرصاص وجرحت عدّة عشرات؛ فيما تبقى تفاصيل إطلاق النار غامضة، وتدعي وزارة الداخلية أنّ الأشخاص الذين تعرضوا لإطلاق النار كانوا يهاجمون قوى الأمن، وتلى مقتل المتظاهرين احتجاجات حاشدة في مراسم جنازة المتوفين. ليست هذه الأحداث إلا التطوّرات الأخيرة في نضال السعوديين الشيعة الذي استمر لعقود واتخذ طابعاً ملحاً جديداً في ظل انتفاضات 2011 الإقليمية. لكنّ وسائل الإعلام الرئيسية تجاهلتها إلى حدٍّ كبير. لقد أذكت أحداث الربيع العربي التوترات قديمة العهد في المحافظة الشرقية في السعودية.

بعد ثلاثة أيام من بداية الاحتجاجات واسعة النطاق في البحرين في 14 شباط/ فبراير 2011، بدأت الاحتجاجات في المنطقة الشرقية التي تبعد مسافة نصف ساعة بالسيارة، عبر جسر ممتد من البحرين. وليس من المستغرب، ربما، أنّ وزارة الداخلية السعودية وعدت بسحق الاحتجاجات (بقبضة من حديد)، وأطلقت حملة تشويهٍ إعلامي على الاحتجاجات، وعلى الشيعة عموماً. وفي حين بدأت الاحتجاجات بالهدوء خلال فصل الصيف، انفجرت مجدداً في تشرين الأول/ أكتوبر، وأصبحت أكبر حجماً منذ ذلك الحين، ما أدى إلى ردٍّ أكثر صرامة من أي وقت مضى من قبل قوى الأمن.

يمثّل هذا الرد القمعي، والخطاب المتميز الذي يذكّر بخطاب نظام بشار الأسد في سوريا، تحديّاً خطراً للسياسة الخارجية السعودية الحديثة؛ فاحتجاجات الناس في المنطقة الشرقية شرعية بقدر الاحتجاجات في سوريا، وإن لم تستجب المملكة العربية السعودية الى دعوات الإصلاح على الصعيد المحلي، فكيف تستطيع أن تدّعي بنحو جدي أنّها ستهبّ للدفاع عن الديموقراطية في سوريا؟ لقد أسهمت التدابير الأمنية الصارمة في المملكة العربية السعودية والبحرين في إعطاء النظامين الإيراني والسوري، فضلاً عن الحركات السياسية الشيعية في لبنان والعراق، استراتيجية خطابية مفيدة لصدّ خصومهم الإقليميين.

منطقة النفط: تمييز طائفي وقمع

تضم المنطقة الشرقية معظم نفط السعودية تقريباً، وتؤوي أقلية شيعية كبيرة، تُقدَّر بما بين مليون ونصف ومليونين نسمة تقريباً، أو نحو 10 في المئة من مجموع مواطني المملكة العربية سعودية. لقد نمّى المذهب الوهابي المتفرع عن الإسلام السنّي الذي ترعاه الدولة عداءً خاصاً تجاه الشيعة. بالمقابل، لطالما اشتكى المواطنون السعوديون الشيعة من التمييز ضدهم في ممارسة شؤونهم الدينية، كما في الوظائف الحكومية، ولطالما عانوا من التهميش عموماً.

طوال عقود، رفعت المجموعات المعارضة التي تتألف من أفراد سعوديين شيعة، يساريين وإسلاميين، إلى جانب مئات العرائض التي قدمها وجهاء الشيعة، المطالب نفسها: وضع حدّ للتمييز الطائفي في التوظيف والتمثيل الحكومي في القطاعات الأساسية في الدولة، بما في ذلك على المستوى الوزاري؛ إنماء أكبر للمناطق الشيعية؛ تعزيز السلطة القضائية الشيعية؛ ووضع حد للاعتقالات العشوائية بحق الشيعة لأسباب دينية أو سياسية. لن تؤدي أي من هذه المطالب إلى تقويض مكانة الأسرة المالكة إلى حد كبير، أو إلى تهديد سلامة المملكة العربية السعودية، بل على العكس، ستعزز النظام السياسي الحالي وتشتري ولاء مليوني شخص ممن يتحكمون بقطاع النفط في المملكة.

منذ العام الماضي، تضمنت المطالب أيضاً إطلاق سراح أو إعادة محاكمة تسعة سجناء سياسيين شيعة وانسحاب القوات السعودية من البحرين، أو على الأقل إيجاد حل تفاوضي للنزاع هناك، إلى جانب إصلاحات سياسية أكثر شمولية في المملكة العربية السعودية. وعدت الحكومة نشطاء شباناً بأنّ شكاويهم ستُعالج في نيسان/ أبريل 2011، فأوقف هؤلاء احتجاجاتهم استجابة لدعوة من كبار رجال الدين السعوديين الشيعة. لكنّ الحكومة لم تنفّذ وعودها، بل ردّت بالقمع في فصل الصيف، رغم أنّها أطلقت سراح بعض السجناء الذين أوقفوا خلال الاحتجاجات الممتدة من شباط/ فبراير إلى نيسان/ أبريل 2011.

وبناء على ذلك بقي الوضع متوتراً. وعندما قُتِل أربعة أشخاص شيعة بالرصاص في تشرين الثاني/ نوفمبر، تحوّلت مراسم جنازتهم إلى تجمعات حاشدة مناهضة للحكومة ضمّت مئة ألف مشاركٍ تقريباً. دفع إدراك هذا التمييز المنهجي بعض السعوديين الشيعة إلى تبني إيديولوجيات ثورية على مرّ العقود. فيما لا تزال المجموعات الموالية لإيران حاضرة في صفوف الخليجيين الشيعة، وهي ليست الأكثر نفوذاً في ما بين السعوديين الشيعة، وقد تخلّت إلى حد كبير عن العنف باعتباره أداة سياسية، وذلك منذ منتصف التسعينيات على الأقل.

صورة بثها الأمن للشيخ النمر مصاباً بطلق ناري
ومغمى عليه لحظة اعتقاله

التجربة تقول: القمع ليس حلاً!

لكنّ رد المملكة العربية السعودية القمعي على تلك الاحتجاجات، وسياسة عدم تقديم أي تنازلات، توفّران أرضاً خصبة للمجموعات المعارضة في المستقبل. بالتالي من المحتمل كما يبدو أن يتكرر السيناريو السياسي الذي اتبعه الشيعة منذ ما بعد 1979، عندما غادر مئات الشبان الشيعة البحرين والناحية الشرقية من المملكة العربية السعودية، ليصبحوا ناشطين في حركات ثورية إقليمية.

فيما لم تحظَ الاحتجاجات في البحرين، وبخاصةٍ في القطيف، إلا باهتمامٍ محدود من القنوات الخليجية مثل الجزيرة والعربية، يُضطر الشيعة في هذه المناطق إلى مشاهدة قناة العالم المدعومة من إيران، والناطقة باللغة العربية، أو قناة المنار اللبنانية التابعة لحزب الله، أو قناة أهل البيت التلفزيونية العراقية، أو غيرها من القنوات الموالية للأسد، وذلك لمعرفة آخر تطورات الوضع في منطقتهم. لقد تحوّلت الحرب الباردة الجديدة في الشرق الأوسط إلى حربٍ إعلامية مكتملة، تُصنَّف وسائل الإعلام في إطارها بأنّها إما مؤيدة للاحتجاجات في البحرين والقطيف ولنظام الأسد، وإما مؤيّدة للاحتجاجات في سوريا وضد الاحتجاجات الطائفية المزعومة في البحرين والقطيف.

ليس الوضع بالنسبة إلى السعوديين الشيعة في المنطقة الشرقية بالأمر السري. في هذا السياق، يورد التقرير السنوي الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية، والمقدّم إلى الكونغرس بشأن الحرية الدينية خلال النصف الثاني من 2010، أي الفترة التي سبقت مباشرة الربيع العربي، اعتقالات تعسفية، إغلاق مساجد، واعتقال مصلّين شيعة. وقد كشفت البرقيات الدبلوماسية الأميركية التي نشرتها (ويكيليكس)، أنّ دبلوماسيين أميركيين، وبوجه الخصوص الموظفين العاملين في القنصلية الأميركية في الظهران، يملكون كمّاً هائلاً من المعلومات عن الجماعات الشيعية المحلية، ويبدون شبه مهووسين بالشكاوى التي يعدّونها شرعية. لكن المشاكل المحددة للسعوديين الشيعة لا تُطرَح غالباً في الاجتماعات الرفيعة المستوى مع مسؤولين سعوديين.

لا يُعزى ذلك إلى التحالف الوثيق بين السعودية والولايات المتحدة فحسب؛ فالأميركيون يتشاركون أحياناً الشكوك التي تتغلغل في بعض الأنظمة المتحالفة معهم، بشأن شيعة الخليج. ترتبط هذه الشكوك جزئياً بإيران، لكنّ جذورها تمتد أيضاً إلى تفجير أبراج الخبر في 1996 الذي أودى بحياة 19 جندياً أميركياً. ومنذ 1996، اعتُقِلَ تسعة سجناء شيعة لانتمائهم المزعوم إلى حزب الله ـ الحجاز، وتورطهم في التفجيرات. لقد أُدينوا في الولايات المتحدة في 2001، لكن بما أنّ أولويات السياسة الخارجية الأميركية تغيّرت بعد 11 أيلول/ سبتمبر أصبح هؤلاء (منسيّين)، وهو الاسم الذي يُعرفون به في صفوف السعوديين الشيعة. تلمّح لائحة الاتهام إلى تورط حزب الله اللبناني وإيران، لكن لم يُكشَف علانية عن أي دليل. في تلك الفترة، دعا بعض الأميركيين إلى الانتقام من إيران رداً على التفجيرات. لكن بعد 11 أيلول/ سبتمبر، بدأت أصابع الاتهام توجَّه إلى تنظيم القاعدة بصفته متورطاً في اعتداءات الخبر، ما طرح تساؤلاتٍ عن إدانة هؤلاء السجناء الشيعة.

أسهمت السريّة التي لفّت هذه القضية في إرساء جوّ من عدم الثقة تجاه الدولة، والشك من جهة أفراد أسر المعتقلين والجماعات السعودية الشيعية على نطاق أوسع. تبنى المحتجون السياسيون الشيعة هذا العام قضية السجناء التسعة. فقد رُفِعَت صورهم في تجمعات تطالب بالإفراج عنهم؛ وكان لأفراد عائلاتهم دوراً بارزاً. لقد كانوا موجودين في حملة احتجاج جرت تزامناً أمام وزارة الداخلية في الرياض من قِبَل أفراد عائلات السجناء السياسيين الذين اعتُقِلوا بسبب الاشتباه في انتمائهم إلى تنظيم القاعدة. لكن بخلاف هؤلاء السجناء، لا يستطيع السجناء الشيعة يوماً أن يأملوا الخضوع لـ(إعادة تأهيل)، في إطار أحد البرامج الحكومية الهادفة إلى اجتثاث التطرف التي يُعلَن عنها كثيراً. وبالتالي تبدو المطالبة على الأقل بمحاكمة علنية أمراً مبرراً، وهي خطوة أيّدتها مراراً وتكراراً هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية. لكن يبدو أنّ محاكمة مماثلة لم تُدرج على أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

من خلال تصرّف القيادة السعودية، يمكن الاستخلاص أنّ قمع الشيعة جزء أساسي من الشرعية السياسية للنظام في السعودية. لا تريد الحكومة تغيير وضع الشيعة، وتستغل الاحتجاجات الشيعية لإخافة السُّنّة من استيلاء الإيرانيين على حقول النفط، بمساعدة الشيعة في تلك المنطقة. طوال أشهر، رُوِّج لسيناريوات مماثلة في وسائل الإعلام التابعة لمجلس التعاون الخليجي، وذلك على حساب جعل الانقسام الطائفي في دول الخليج أعمق. يُذكر في هذا السياق أنّ تدخّل مجلس التعاون الخليجي في البحرين أدى إلى تدهورٍ شديدٍ في العلاقات الطائفية في الخليج وخارجه لتصل إلى مستوياتٍ لم نشهدها منذ الثورة الإيرانية.

من صور الاحتجاجات الأخيرة

بيد أنّ هذه الطائفية السعودية المفتوحة أدّت سابقاً إلى انعكاسات سلبية في العراق كما في سوريا ولبنان والكويت. ويبدو أنّه بانتظار البحرين سنوات من النزاع الطائفي، فقد تفككت العلاقات بين الجماعات كلياً، والدولة تنظم حملة (تطهير عرقي)، على حدّ تعبير الناشطين الشيعة. عوضاً عن كسب عداء الشيعة الكامل، على المملكة العربية السعودية والبحرين التفاوض بشأن عقدٍ اجتماعي معهم. سيؤدي فشل هاتين الدولتين في ذلك إلى سنواتٍ من عدم الاستقرار ستكون نتائجها غير مؤكدة. كذلك، من المستبعد ألا تشجّع الاحتجاجات الشيعية سعوديين آخرين، كما أظهر تصريحٌ حديثٌ صادرٌ عن السعوديين الليبراليين من كافة أنحاء المملكة، يدين التدابير الأمنية الصارمة في القطيف.

في نهاية المطاف، على الغرب أن يضغط على حلفائه، وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية والبحرين، ليكفوا عن إطلاق النار على مواطنيهم الشيعة واعتقالهم وتصويرهم كعملاء إيرانيين وخونة. فتنفير الشبان الشيعة، يوفّر أرضاً خصبة مثالية لنشوء حركة معارضة شيعية جديدة في الخليج، ويصب في مصلحة النظام الإيراني مباشرة. حتى من دون مساعدة خارجية للمحتجين المحليين الشيعة، تبدو المنطقة مهيأة للعودة إلى السياسات الطائفية المتوترة التي اعتُمِدَت في الثمانينيات. على الولايات المتحدة، ومن زاوية مصلحتها الخاصة ومصلحة دول الخليج، أن تسعى إلى مصالحة حقيقية بين شيعة البحرين والسعودية مع حكوماتهم، وإلا فستهيمن الطائفية على الخليج، ما يضرّ بالجميع.

اعتقال النمر وانفجار المظاهرات في القطيف

كان إلقاء القبض على رجل الدين الشيعي نمر النمر بعد ظهر الأحد 8 تموز الجاري، في بلدته العوامية في محافظة الشرقية في المملكة العربية السعودية الغنية بالنفط، معدّاً له منذ وقت طويل. كان العديد من المراقبين يتساءلون في بعض الأحيان عن سبب عدم اعتقاله في وقت سابق؛ إذ إنه كان الزعيم الروحي لحركة الاحتجاجات في شرق المملكة العربية السعودية، وقد وضعته آراؤه الصريحة على خلاف مع الأسرة السعودية الحاكمة علناً. لكن، بينما كان نمر النمر يدعو الشباب المحليين مراراً إلى أن يكونوا على استعداد للموت شهداء، فقد كان يحثهم على عدم (ردّ الرصاص بالرصاص)، بل على استخدام الوسائل السلمية بدلاً من ذلك. وأقر الشيخ بأنّ الشيعة ستزيد معاناتهم أكثر لو هاجموا قوة نيران النظام السعودي العنيفة، لذلك دعا إلى القيام بالتظاهرات السلمية والعصيان المدني.

ورد في برقيات نشرها موقع ويكيليكس، أنّ دبلوماسيين أميركيين حاولوا استيعاب الدور الذي يؤديه نمر كرجل دين ثانوي، وكشخص تعبوي للشباب الشيعة، واجتمعوا معه شخصياً في إحدى المرات. كتب دبلوماسي في البرقية: (يقيم النمر في العوامية، وهي قرية شيعية متطرفة مشهورة في واحة القطيف ويطلق عليها سكان القطيف الآخرين، بين المزاح والجدّية، اسم: الفلوجة الصغيرة). وقال مصدر شيعي للدبلوماسي الأميركي إن (كل منزل في العوامية يمتلك بندقية… فعلاً). من جهة أخرى، تساءل الدبلوماسيون الأميركيون في السعودية عن سبب عدم القبض على نمر في وقت سابق، بعد أن كرر توجيه انتقادات قاسية إلى الحكومة، وحتى طالب بانفصال المنطقة الشرقية في 2009. ثمة ثلاث نظريات في ذلك:

أولاً، يرى أولئك الذين يتبنون نظرية المؤامرة أنّ المتشددين داخل العائلة الحاكمة، مثل ولي العهد السابق ووزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، كانوا يستخدمون نمر لتخويف أهل السنّة، ولمعارضة مبادرة الملك عبد الله الداعية إلى الحوار بين الأديان والتواصل المبدئي مع الشيعة.

ثانياً، إنّ إلقاء القبض على نمر من شأنه أن يخلق اضطرابات متزايدة تودّ الحكومة تجنّبها. كان نمر متوارياً عن الأنظار من 2009 إلى 2011، ولم يظهر بعد ذلك إلا بين حشود كبيرة من الناس، في الجنازات أو في مسجده، أي في كل الأماكن التي يصعب فيها إلقاء القبض عليه من دون وقوع خسائر بشرية أو خلق الاضطرابات.

وثالثاً، تتابع وثيقة ويكيليكس، بأنّ الحكومة سترد في نهاية المطاف، لكن (في الوقت الذي تراه مناسباً لها). ونفذت الحكومة ردها يوم 8 تموز. طريقة اعتقال نمر خارج مسجده توحي أنّه لن يخرج في أي وقت قريب. تقول رواية وزارة الداخلية (الأورويلية/ نسبة إلى جورج أورويل) إنّه عندما حاول نمر ومن معه مقاومة رجال الأمن، بادروا بإطلاق النار واصطدموا بإحدى الدوريات الأمنية أثناء محاولتهم الهرب، فجرى التعامل معه بحسب ما فرضت الظروف ورُدّ عليه بالمثل واعتقل بعدما أُصيب في فخذه.

11 شاباً تساقطوا برصاص الأمن تتوسطهم صورة الشيخ النمر

لماذا اعتقل النمر الآن؟

غير أنّ من المستغرب إلقاء القبض عليه الآن، بعد مرور سنة ونصف على بدء الاحتجاجات في المنطقة الشرقية في شباط 2011، وخاصة بعد أن خفّت وطأة هذه الاحتجاجات منذ شهر آذار. إن حركة الشباب التي ترأست التظاهرات الواسعة بين شهري تشرين الثاني وشباط الماضيين، وبعد إطلاق النار على 7 شبان شيعة وقتلهم، حوّلت جنازاتهم إلى أكبر حركة احتجاج شهدتها البلاد منذ اندلاع الانتفاضة السابقة في المنطقة الشرقية من السعودية في 1979. معلوم أن الشيعة السعوديون يتعرضون للتمييز في هذا البلد، الذي يفتقر في كل الأحوال إلى الحريات السياسية الأساسية، لذلك تحمّسوا للاستفادة من المتغيّرات الإقليمية التي نجمت عن الربيع العربي.

لكن تلك التظاهرات فقدت بريقها، وعاشت المنطقة الشرقية هدوءاً نسبياً لعدة أشهر. أما الآن، فيملك الشباب الشيعي سبباً لجرّ الآلاف إلى الشوارع، والتظاهرات الآن هي في أوجها، وهذا تصعيد ناجم عن إلقاء القبض على نمر. اندلعت تظاهرات واسعة في القطيف مباشرة بعد إلقاء القبض عليه، وأطلق النار على اثنين من المتظاهرين، السيد أكبر من العوامية ومحمد فلفل من الشويكة، ما رفع مجموع عدد القتلى إلى تسعة أشخاص في هذا الصراع المشتعل منذ فترة طويلة. وقد حظيت التظاهرات بأقل نسبة تغطية مقارنة بتظاهرات الربيع العربي.

إذاً، من لديه مصلحة في مثل هذا التصعيد؟ يعتبر اعتقال نمر النمر وقتله من دون أدنى شك إجابة على سؤال عما إذا كان استبدال الأمير نايف بولي العهد الجديد الأمير سلمان بن عبد العزيز ووزير الداخلية الجديد الأمير أحمد بن عبد العزيز سيغيّر موقف الأسرة الحاكمة بشأن الإصلاح السياسي أو قضية الشيعة. وكان الأمير نايف، الذي توفي في شهر حزيران في جنيف، الشخص المتشدد الذي اعتبر شخصيّاً أنّ الشيعة محل تهديد وشبهة، وأيد فرض سياسة القمع المطلق لأي معارضة أو احتجاجات شعبية. يعتقد الكثيرون أنّ نفوذه أدى إلى اتخاذ قرار بإرسال القوات السعودية إلى البحرين في آذار 2011 لقمع الاحتجاجات المؤيدة للديموقراطية، وذلك لمنع امتداد التظاهرات إلى المنطقة الشرقية. لم تغيّر وفاة نايف موقف الأسرة الحاكمة، ويمكن تفسير اعتقال نمر بأنها خطوة اتخذها وزير الداخلية الجديد الأمير أحمد ليسجل موقفاً متشدداً في الداخل. لكن الشباب الشيعة لم يغيّروا موقفهم أيضاً. وفيما بايع وجهاء الشيعة ولي العهد الجديد، احتفل آخرون بوفاة الأمير نايف في شوارع العوامية والقطيف، وزعم أنهم استلهموا احتفالاتهم من خطبة انتقادية ألقاها نمر.

في الواقع، فيما يحظى نمر بالكثير من الشعبية في صفوف الشباب الشيعة، فإنّه شخصية مكروهة بالنسبة إلى الكثير من السعوديين الآخرين. يُشتم في كثير من الأحيان على صفحات تويتر وفايسبوك؛ إذ كسرت خطاباته على مدى السنوات الماضية مجموعة كاملة من المحرمات السياسية في المملكة العربية السعودية، بما في ذلك الدعوة إلى سقوط العائلة المالكة. إذاً، لعلّ أفراد العائلة المالكة الكبار المعيّنين حديثاً يريدون تضييق الخناق على الشيعة من خلال اعتقال رجل دين مثير للجدل، ما يزيد من شعبيتهم في أوساط أهل السنّة في أجزاء أخرى من البلاد. وبالتالي، فإنّ العلاقات بين الشيعة والحكومة لم تكن يوماً بهذا السوء منذ قيام الثورة الإيرانية.

لكن ثمة بعدٌ آخر أكثر إثارة للقلق. حيث يأتي اعتقال نمر متزامناً مع حشد عسكري في منطقة الخليج وحملة اعتقالات مماثلة في البحرين. نهار الاثنين في 9 تموز، حكم على نبيل رجب، وهو ناشط بحريني بارز في حقوق الإنسان، بالسجن لمدة ثلاثة أشهر بسبب بعض تعليقاته على موقع تويتر، واقتيد من منزله على أيدي رجال أمن ملثمين. وكان رجب واحداً من الأصوات القليلة التي استمرت في التحدث علناً ضد انتهاكات حقوق الإنسان والإصلاح السياسي العميق في المملكة/ الجزيرة، ولم يقبض عليه.

في الواقع، طاولته نظريات المؤامرة المماثلة لتلك التي طاولت نمر، أي إنّ الأسرة الحاكمة في البحرين سمحت له بالاستمرار في التعبير عن رأيه بشأن النظام لتخويف أهل السنّة، على الرغم من أنّه تعرض للهجوم والترهيب مراراً وتكراراً. في 9 تموز أيضاً، حلَّ النظام في البحرين الكتلة السياسية البحرينية الشيعية (أمل) رسمياً، علماً بأنّها كانت معطّلة بسبب اعتقال جميع قادتها تقريباً العام الماضي. إن كلّاً من حركة (أمل) ونمر من أتباع آية الله محمد تقي المدرسي المقيم في كربلاء، الذي اتخذ شقيقه هادي المدرسي موقفاً حاسماً ضد الأسر الحاكمة في السعودية والبحرين. يبدو أنّ هذه الحملة تطاول أيضاً التيار الشيعي الوطني، وهو جزء من الحركة السياسية الشيرازية، التي تحمل اسم مؤسسها محمد مهدي الشيرازي الذي اشتهر خطه السياسي باسم (المدرسيّة).

بالإضافة إلى ذلك، كثفت الولايات المتحدة وجودها العسكري في منطقة الخليج من خلال إرسال سفن حربية إضافية، ووضعت دول الخليج جيوشها في حالة تأهب قصوى أواخر يونيو الماضي، مع ورود تقارير عن نشر قوات كبيرة في المنطقة الشرقية. إنّ إسكات الأصوات المعارضة الأكثر جرأة يترافق مع الاستعدادات لحرب محتملة، وقد يُتخذ ذلك أيضاً كإجراء وقائي في حال شنّ هجوم على إيران. وفيما يتهم السعوديون السنّة في معظم الأحيان، نمراً بكونه عميلاً إيرانياً، فإنّ هذا الاتهام مبالغ فيه. إنّ نمر يتبع آية الله محمد تقي المدرسي المقيم في كربلاء، لا القائد الإيراني آية الله علي خامنئي. إلا أنّه دافع عن إيران مراراً، ورفض علانية شن هجوم على إيران. ولو كان عميلاً كما يشاع، لكان قد ندد بالهجوم على إيران بنحو أشد، ودعا إلى مزيد من التظاهرات في المنطقة الشرقية.

امتدت شعبية نمر إلى البحرين أيضاً، إذ كان يدعم الانتفاضة هناك بقوة، كما شاهدنا في تظاهرات مؤيدة له في مختلف القرى الشيعية في البحرين على مدى الأيام القليلة الماضية. لذلك، يبقى السؤال عمّا إذا كان حلفاء السعودية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، سيتغاضون عن حملة القمع هذه؟ التقى ديفيد بترايوس، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، الملك السعودي عبد الله في جدة في اليوم نفسه، أي في 9 تموز.

من منظور محلي، يبدو التوقيت غريباً، بل وانهزامياً أيضاً. فالاحتجاجات في المنطقة الشرقية كانت قد توقفت، وأُصيب العديد من الشباب الناشطين بالإحباط، إذ بعد مرور سنة ونصف من الاحتجاجات، لم تحقق أي أهداف سياسية، وسقط العديد من الشهداء وتمت تعبئة شريحة معينة من المجتمع: الشبان الصغار. أما الآن فلديهم نداء معركة جديد سيستخدم لتعبئة شرائح أخرى من المجتمع الشيعي السعودي. لكن تراهن حسابات المؤسسات الأمنية السعودية، والأميركية ربما، على وجود نمر خلف القضبان، ما يعني أنّ الاحتجاجات ستتوقف في نهاية المطاف، والأهم أنّه في حال وقوع مواجهة في الخليج، فإنّ شخصية شعبية بإمكانها حشد المتظاهرين قد جرى التخلص منها. من الصعب التنبؤ بمجرى الأمور. لكن هذا الاعتقال غير المناسب، ولا سيما بعد إطلاق النار على رجل الدين في الساق، قد يكون فرصة لإعطاء قوة دفع جديدة، ليس فقط لحركة الاحتجاج في السعودية، ولكن أيضاً في البحرين. هناك، أظهر الناشطون الشباب أنّه حتى مع زج زعماء المعارضة الأبرز في السجن، بإمكانهم الاستمرار بالتظاهرات المنظمة، وعادوا على نحو متزايد إلى تبنّي تكتيكات اعتمدوها قبل 2011 في قتال الشوارع مع الشرطة. يبدو غريباً أن يُستبعد وقوع الأمر ذاته في السعودية، مع وجود نمر في السجن.

الصفحة السابقة