قفازات ملكية ناعمة ـ خشنة في الخليج

د. مضاوي الرشيد

د. مضاوي الرشيد

رغم اختلاف التسميات من مشيخات وامارات وملكيات مطلقة او شبه مطلقة، الا ان الانظمة الخليجية تشترك في قواسم مشتركة واضحة، بل اصبحت اكثر وضوحا خاصة تحت ضغط المرحلة التاريخية الاقليمية العربية، خاصة بعد سقوط صروح الجمهوريات وتهاويها الفعلي او القادم.

ظهرت اطروحات تحاول ان تعزل الملكيات عن محيطها الغربي، وتنأى بنفسها عن تداعيات التغيير التاريخي في المنطقة كأنظمة تختلف اختلافا كليا عن الجمهوريات، وتبشر باستمرار الملكيات؛ حيث يعتقد البعض انها ستنجو من موجة التغيير لما لها من ثروات نفطية تستطيع منظومة الولاء أن تستمر بها، مقابل تقديم الريع وتوزيعه على المواطنين. واعتقد البعض ان ديمومة الملكيات تعتمد على استمرارية الترويج لشرعية تقليدية، تستحضر الابويّة للحكام او دورهم في لحمة الوطن، على خلفية انقسام مجتمعي على محاور قبلية وطائفية ومناطقية. يرى المروجون للملكيات ان حنكة الحكام ـ او حتى تلاعبهم بالقوى الاجتماعية والسياسية والدينية ـ يمكنها احداث توازن يضمن بقاء الحكام على كراسي السلطة، واستمرارية الانقسامات المجتمعية مما يؤجل عجلة التغيير السياسي الحقيقي.

هناك رأي آخر ـ حسب البعض ـ اعتمدته الملكيات لضمان استمراريتها، يحاول ان يربط بين اعتدال القيادات مقابل تطرف البديل والذي سيظهر بوضوح عند اي فجوة او خلل سياسي، مما يرهب الناشطين والمجتمع، ويهول من مستقبل اسود تتحكم بالثروة والمصير فيه قوى سياسية ظلامية، تحاصر الحريات الشخصية، وتعيد عجلة التنمية الاجتماعية الى الوراء، وتزج بهذه المجتمعات في القرون الوسطى من جديد، بعد ان شهدت تنمية جبارة، وقفزات عالية في مجالات الحرية والكرامة والامن والامان!

وبعيدا عن الغوغائية والدعاية التي تضمنها وتشرف عليها اقلام نظامية ومؤسسات اعلامية عربية وغربية، اثبتت انها خطابات فارغة، لا تعتمد على تقييم واقعي لحالة الانظمة الملكية واستشراف مستقبلها.. نستطيع ان نحدد مسارات الحاضر والمستقبل، ونستشرف آليات واستراتيجيات اعتمدتها الملكيات المهزوزة حاليا، والتي هدفها ابعاد او تأجيل المواجهة بين الانظمة والحراك الشعبي بناء على معطيات واضحة مرصودة.

من اهم هذه الآليات: اعتماد الحكم بقفازات ناعمة حينا وخشنة حينا آخر. ومؤخرا بدأت الانظمة بطريقة مفضوحة الانحدار الى الحل الخشن الامني، المدعوم تشريعيا بقوانين جديدة، تضمن تجريم النقد، مستحضرة سلسلة من التشريعات والمصطلحات الجديدة، كعصمة الذوات الملكية والاميرية، وتحريم المظاهرات وحق التجمع، وانتهاك الحقوق الانسانية والمدنية والسياسية، تحت انظمة طوارئ غير معلنة. بدأ هذا الانحدار تحت ضغط الحراك المجتمعي السياسي، وتزايد وتيرته، وارتفاع سقف مطالبه على الساحة الواقعية والافتراضية معا.

وتظل هذه الملكيات والمشيخات مرتبطة بمنظومة عالمية عسكرية اولا، واقتصادية ثانيا، وسياسية ثالثا.. فهي محميات يضمن امنها الغرب، من خلال التسلح، والتقنية، وتوفير اجهزة المراقبة، والقمع المباشر بالسلاح، والتنصت، وانتهاك الحريات الانسانية والسياسية. واقتصاديا.. تظل الملكيات امتدادا للسوق الاستثمارية العالمية التي تصبو الى انفتاحها وجاهزيتها لاستمرار تصدير الطاقة، واستلام المنتجات الاستهلاكية، والاستثمارات العالمية. اما سياسيا.. فقد جاء الغطاء الغربي كمظلة تضفي الشرعية والدعم لانظمة تتناقض معطياتها مع المنظومة الراسمالية الغربية. الا ان هذه المنظومة تعتمد الصمت المطبق حيالها؛ بل هي تساعدها عملياً ومعنوياً على الاستمرار في ممارساتها السياسية الشاذة، وحتى الاقتصادية غير الشفافة، وقوانينها الضبابية. وتستعد المنظومة الغربية لاحتضان واحتواء سلبيات التشريعات المحلية، بتوفير مساحات لمحاكم خارجية، تبت بقضايا الاقتصاد، بعيدا عن سلبيات المحاكم الداخلية، كما حصل مؤخرا بين السعودية وبريطانيا، حيث ستوفر الاخيرة آلية قضائية تلجأ اليها الشركات الاجنبية عندما تحصل اشكالات بينها وبين الشركات السعودية المحلية.

ويعتبر هذا الغطاء الغربي الثلاثي حجر الزاوية في استمرارية الانظمة الملكية المتصدعة الى اجل غير مسمى.

اما على الصعيد المحلي، فقد جنحت الانظمة الملكية المطلقة او شبه المطلقة الى سلسلة من الاجراءات المسماة اصلاحاً، هدفها ليس تغيير العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بل تثبيت الاول، وزيادة فرص بقائه. من هذه الاجراءات الناعمة ما يلي:

اولا: تثبيت وهم الاصلاح في المخيلة المجتمعية السياسية، عن طريق اجراءات محدودة، كفتح المجال لبرلمانات منتخبة في بعض الدول الخليجية، وتقييد صلاحياتها في نفس الوقت؛ واستقطاب المنتخبين تارة، وحل برلماناتهم تارة اخرى؛ وتفويض حكومات معينة لا علاقة لها بطبيعة المنتخبين؛ تماما كما حصل في الكويت والبحرين.

ثانيا: تثبيت مبدأ الوعود الوهمية باجراء انتخابات مستقبلية، وتحديد شريحة ضيقة يكون لها الحق بالانتخاب رغم القيود المفروضة على الترشيح والتمثيل، كما يحصل مثلا في الامارات وقطر.

ثالثا: الاستغناء كليا عن المجالس التمثيلية المنتخبة، والاستعاضة عنها بتعيين بيروقراطية استشارية كبديل لمجالس تشريعية منتخبة، كما حصل في السعودية منذ اكثر من عشرين عاماً.

رابعا: التماهي في التشدق بحقوق المرأة وتمكينها كبديل لمواجهة الحراك السياسي العام؛ فتم وضع المرأة في مناصب نظامية (كما في السعودية) او حتى انتخابها (كما حصل في الكويت سابقا). وحاولت الانظمة الملكية (جندرة) ذاتها، او (نسونة) هيئتها، من اجل ان تستجدي اكثر الشرعية الدولية، وتستقطب شرائح داخلية تعتقد ان سقف المطالب يقف عند خطابات الدعاية لتمكين المرأة، وضرب القوى المجتمعية المعارضة لمثل هذا التمكين، من باب غوغائية الهوية، والحفاظ عليها من مخاطر استهدافها لتلك (الجوهرة المصونة). لقد اصبحت (جندرة) القيادات في الملكيات آلية جديدة لاستقطاب المرأة وحراكها ضمن اجندة النظام القمعي المتسلط.

خامسا: اعتمدت الملكيات مؤخرا سياسة التنوع الاقتصادي بعد اعتماد اقتصادها على النفط؛ وجاء هذا التنوع من باب لبرلة الاقتصاد وانفتاحه، مع ضمان المركزية الاقتصادية، وهيمنة الدولة على الثروة العامة. فانتقلت من اقتصاد نفطي صرف يعتمد النفط، الى جالب الارض كسلعة توزع اولا على افراد الاسر، وثم على بعض الشخصيات المستثمرة المحلية، بحيث تباع وتشترى رمال صحراوية، وشواطئ خليجية من اجل تنمية الاقتصاد السياحي او الصناعي، كما يحصل في المدن الصناعية الجديدة. وبهذا تضمن الاسر الحاكمة انخراط بعض العوائل التجارية القديمة والجديدة في مشروع الربح الجانبي الذي يعتمد على الغرب والولاء للسلطة السياسية. هذا ادى الى ارتفاع اسعار الرمال الصحراوية، وتقلص مساحات السكن الشعبية، وانتفاخ جيوب المنتفعين من توزيع الرمال التي اتت على شكل هبات مفضوحة، او صودرت من المجتمع، ومن ثم بيعت على بعض الشخصيات باسعار زهيدة، ومن بعد ذلك استثمرت وعرضت في سوق كبيرة متضخمة وبعيدة عن منال الاكثرية. واقترنت هذه السياسات الاقتصادية بوهم الاسهم والتلاعب بها، خاصة في مجال الشركات العامة والخاصة الكبيرة، واصبحت عرضة للتلاعب والتدخل الذي لم تتحصن منه اطياف المجتمع، خاصة وانها ظنت بها خيرا، ومن ثم صدمت بواقع استثماري تنعدم فيه الشفافية، ويغيب فيه دور المحاكم التي تبت بقضايا الخلاف والاختلاس.

وبينما ترفض الشركات الاجنبية الاحتكام في محاكم محلية، وتطالب بمحاكم اقتصادية في دول كبريطانيا مثلا، يجد المستثمر الصغير نفسه تحت رحمة محاكم غير مستقلة، لا تستطيع ان تتصرف بحرية في قضايا يكون فيها الخصم مدعوما سياسيا او اقتصاديا من السلطة العليا، والتي هي نفسها قد تكون خصما كبيرا ليس من السهل مقاضاته.

سادسا: اعتمدت الملكيات المطلقة وشبه المطلقة عملية استقطاب، بل تكوين مجتمع مدني زائف، يستمد شرعيته من السلطة وليس المجتمع، فكونت هذه الملكيات مجتمعا مدنيا حكوميا تحتضن فيه حراكا مرتبطا بالسلطة واجندتها، بعيدا كل البعد عن مفهوم المجتمع المدني السياسي المستقل. وحتى هذه اللحظة يظل الحجر قائما على الاحزاب السياسية، والحركات المهنية، والرابطات المستقلة، رغم تفاوت وتباين تطورها في المجتمعات الخليجية من الكويت الى السعودية مرورا بالبحرين.

سابعا: اعتمدت الانظمة الملكية تطوير امبراطوريات اعلامية ومراكز ابحاث دعائية وربطتها بنظيرتها في الغرب لتقمع التقييم الجاد لمعطيات المنطقة ومشاكلها المتنوعة، من باب اختراق المحافل الاعلامية والاكاديمية في مؤتمرات يتصدرها مثقفو السلطة ومناصروهم من النخب العلمية الغربية، وذلك عن طريق التمويل المباشر. ولم يتوقف الامر عند ذلك بل اخترقت الانظمة الملكية النفطية المجتمع المدني الغربي واصبح لها ممثلون في الجامعات، وحتى الملاعب الرياضية، لتربط نفسها اكثر واكثر في المنظومة الاقتصادية العالمية، وتنويع مصادر الاختراق غير النفطي الاستثماري.

واخيرا: تنبهت المنظومة الملكية المطلقة وشبه المطلقة لخطر الثقافة الدينية، حيث ظلت هذه الثقافة سلاحا ذا حدين، ومن هنا حاولت استقطاب مؤسسات دينية اسستها هي منذ البداية لتحتوي افرادها وتسلطهم كرقيب ديني على سلوكيات المجتمع والتربية والتعليم، وافراز خطابات الطاعة الموصلة شرعيا والتي تجرم انتقاد القيادات. ورغم ان السعودية تتصدر هذا المسار بسبب طبيعة تأسيس الدولة، الا انه حتى الدول الخليجية التي لم تنشأ تحت مظلة شرعية دينية انخرطت في المسار ذاته، وتبجحت بحفاظها على عفة المجتمع، وحمايته من الفساد الاخلاقي والانحلال، ومن ثم توجهت لدعاية تمويل المشاريع الاسلامية، ومناصرة المسلمين في بلاد الله الواسعة، لتضمن شرعية اسلامية عابرة للحدود، وتدغدغ مشاعر شرائح اجتماعية معينة، كلفتها بتدبير وتوزيع المساعدات الاسلامية الاغاثية حسب اهواء السلطة ومصالحها، وليس حسب معايير اسلامية صرفة.

رغم كل هذه الاجراءات الناعمة التي تمرست بها الملكيات الخليجية.. الا ان المجتمعات بدأت تصحو من سكرة النعومة الديكتاتورية المطلقة لتجد امامها اليوم الحل الخشن يتبلور بامتياز امام اعينها، ويتربص بها عند كل لحظة مصادمة مع السلطة. وكلما زادت وتيرة الحلول الخشنة الامنية والاستخباراتية والقمعية، ستظل هذه المنظومات الملكية تواجه خطر الانزلاق في متاهات العنف، وتبقي خيار المجتمع ونشطاءه مساحة مفتوحة قد تتطور في المستقبل بشكل دراماتيكي يصعب على القفازين احتواؤه في الامد البعيد. فالمستقبل هو بيد الشعوب الواعية المتراصة والمترابطة، خاصة شباب المرحلة الجديدة، الذي يرفض خنوع الاباء، وخطابات الابوة المزعومة، فيتواصل مع جيله، متجاوزا الآباء الوهميين والحقيقيين شركاء القمع التاريخي.

* عن القدس العربي، 4/11/2012

الصفحة السابقة