النخبة الطائفية في السعودية

محمد العباس

 
الناقد محمد العباس

من المنطقي مصادفة أحد الموتورين الطائفيين في مواقع التواصل الاجتماعي كما يحدث في الواقع. فالتربة الاجتماعية باتت محروثة ومغروسة عمودياً وأفقياً ببذوره. إلا أن المفجع والمربك أن يكون ذلك الطائفي أحد أولئك الذين يوصفون بالنخبة المثقفة، وكأن الطائفية لم تعد الجدار الأخير للدهماء والغوغاء الذين يجدون فيها صمام أمان لأوهامهم وذخيرة قوة في مواجهة خصومهم المفترضين، بل صارت وسيلة من وسائل النخبة لتعويم أنفسهم، وإراحة عقولهم من أي تفسير للأحداث، أو مقاربة للواقع خارج شروط الطائفية. حتى التاريخ بالنسبة لهم لا يفسر ولا يُقارب إلا من هذا المنظور. بمعنى أن طابوراً من المثقفين قد تخلوا عن عقولهم وضمائرهم ليقيموا داخل غرائزهم.

الإقامة داخل الغرائز ليست بالضرورة أن تتبدى على شكل هيجانات ونعرات صارخة، بل قد تتخذ تلك الأعراض صور العقلانية، أو الوطنية، أو الأخلاقية، أو حتى الدفاع عن الدين والذود عن اللحمة المجتمعية. حيث يستظهر النخبوي كل ذخيرته الكلامية باتجاه واحد. أي تضئيل الطوائفالأخرى والتشكيك في مواقفها أو الحط من قدرها الفكري، وذلك المنطق الاقصائي الاستحواذي إنما يُطرح تحت عناوين الحوار والتسالم الاجتماعي وتفعيل الرؤى العقلانية، ولكن الواقع أن النخبوي بهذه الرؤية العمياء إنما يشد من عصب الطائفة، ويعزز في أفرادها عقد التفوق والكفاءة والفرادة، كما يؤكد على بيان قوة فئته بكل الوسائل وعلى كل المستويات. وهذا هو ما يفسر وجود منظومة من الرموز الطائفية النخبوية لكل طائفة.

النخبوي الطائفي لا يُنظر إليه ضمن طائفته كرمز وطني، ولا كمثقف محلّق فوق الطوائف، بل يتم التعامل معه كبطل طائفي. أي كجلاد للطوائف الأخرى حسب متطلبات الجمهور الطائفي، وعلى هذا الأساس يتم تصعيده طائفياً، حيث تحقنه الجماهير بأوهام البطولة الوقتية الزائفة، وتدفعه لأداءدور الحامي لفكر ومعتقدات ومكتسبات قبيلته الطائفية، وبالتالي ينخفض في خطابه منسوب الوعي بالمواطنة، وتختفي من أدبياته فكرة المناقدة بمعانيها الشمولية والمنهجية وحتى الأخلاقية، وتنعدم اهتماماته بالأبعاد الروحية والجمالية، فهو داخل معركة تستوجب منه استدعاء كل طاقته الحجاجية، وفتح حواسه على أخطاء وعثرات غريمه الطائفي. مع الحفاظ على خطوط واهية للتواصل مع عناوين اللحظة الرنّانة كالتعايش والتسالم الاجتماعي.

لا يتطلب الأمر مضاعفة التفكير لتحليل خطاب النخبوي الطائفي، فهو من خلال ما يبثه من رسائل يدّعي انتماءه إلى حركة تاريخية اجتماعية مطالبة بتشييد أركان المجتمع المدني، إلا أنه يعمل في الجانب الآخر على هدم أي إمكانية لذلك، فهو لا يؤمن لا بالتعددية ولا بالاختلاف ولا بالتجاور. لأنه أسير معادلة الأقلية والأكثرية. أي التفكير من خلال النسق الغالب والمغلوب، وهذا هو ما يجعل البعض يعيش لحظة من لحظات التعالي والإحساس بالأمان ضمن حواضنه الكبرى، مقابل نخبوي الأقلية الذي يؤسس خطابه على التودد والمشاكسة والتظلم، أي كجدار صد لطائفته، في الوقت الذي يعجز فيه كلاهما عن إنتاج جماليات النقد الكفيلة باستيلاد الأفكار الخلاقة للنهوض بالمجتمع والفرد والوطن.

هكذا صارت النخبة الطائفية حالة عضوية من المشكلة بكل مستوياتها الوطنية والفكرية والأخلاقية والروحية في الوقت الذي كان يُتوقع ممن يوصفون بالنخبويين أن يكونوا جزءاً من الحل. ومعظم حواراتهم الموزعة في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تؤكد أنهم لا يرغبون في مغادرةمواقعهم الطائفية. وأن خطاباتهم الإنشائية ما هي إلا حالة من التباري الصوري لتأكيد منزلتهم الفكرية. بدون أي إسهام حقيقي في نزع فتيل الطائفية. خصوصاً أولئك الذين يجنحون لتسييس كل الطروحات مهما بدت عارضة وهامشية، لأن ذهنية التآمر تستوطن النخبوي أكثر مما تلامس وعيالجماهير. حيث تتحول في جهاز مفاهيمه إلى خطاب متكامل الأركان ويقلل فرص التفاوض مع الآخر والتعايش معه والتعاقد معه على قيمة وطنية شاملة.

ميمات الذات المطأفنة

جرّب أن تسأل أي أحد إن كان مصاباً بالطائفية، أو إذا كان يعاني من أي عرض من أعراضها وسيجيبك على الفور، وبدون تردد، بأنه ليس طائفياً ولا يقبل أن يوصم بها. وكأنك تسأله إن كان مصاباً بالزكام. حيث تعكس الإجابة الفورية الباترة عن هذا السؤال الحاد جهلاً بحقيقة المرض الطائفي، كما تختزن تلك الإجابة المتسرعة حالة من الدفاع الذاتي المستعجل للتبرؤ من وباء فتاك، حيث يشكل هذا التنصّل العام من الطائفية حالة نفاقية عجيبة، لأن الطائفية موجودة ومستشرية في أدق تفاصيل حياتنا اليومية. وما تلك البراءة المعلنة إلا رداء شفاف نستر به عورة هذا المرض الذي اجتاح كل مظاهر الحياة فأفسدها وأتلف أرواحنا.

المصاب بالطائفية لا يمكنه أن يعرف ما يعانيه من أعراضها إلا عندما يخضع إلى فحص شامل وعميق. والفحص هنا يتمثل في منعطفات وتحديات ومواجهات، أشبه ما تكون بقطاع الأشعة الطولي والعرضي في الذات، إذ لا يمكن للإنسان في لحظاته الاعتيادية اكتشاف ما يعانيه ولا ما يمتلكهمن قوة أيضاً. ولذلك يبدو المصطف شكلياً خارج الطائفية، ومن خلال شعارات كلامية، أو صور تذكارية حول الموائد مع مختلف الأطياف المذهبية. كمن يمر بالعيادة ولا يتجرأ على إجراء الفحوص اللازمة لتشخيص حالته. حيث لا تكفي لافتات التعايش والتسالم المجانية لاستصدار شهادةالتعافي، كما أن مزاملة أبناء الطوائف الأخرى ومصاحبتهم والتحاور معهم لا تعني النجاة من التشوهات الطائفية.

الطائفية مرض مراوغ، يصعب تشخيصه بالسهولة التي يتخيلها الرومانسيون، ولا مناعة تكوينية لأحد من آفاتها، فهي تصيب الناس العاديين والأكاديميين والمثقفين والفنانين والشعراء وإن بدت أعراضها واضحة وفاقعة عند المتدينين، فأحياناً قد تقرأ كتاباً لأحد العقلانيين فتكتشف أنه يستبطن إعلاءً من قيمة رموز طائفته وتبخيساً أو تهميشاً لقيم ورموز الطوائف الأخرى، وهذه الأعراض نتيجة طبيعية لتمكن اللاوعي من خطابه، فهو يكتب من منطلق خزينه المفهومي والشعوري إزاء الآخر، ومن منصة وعيه المتوارث من خلال عملية تلقينية مبرمجة عبر مراحل تاريخية، حيث يصعب أن نصادف من يمتلك الفضول والحافز للاطلاع على ثقافة الطوائف الأخرى خارج إطار المحاججة الفقهية والشرعية والخلافات التاريخية.

المطبات الصريحة هي التي تكشف زيف وادعاءات المتنصلين من الطائفية، أي عندما يواجه الأب مثلاً برغبة ابنه في الاقتران بامرأة من طائفة مغايرة، حيث تُستنفر كل المضادات الأيدلوجية والنفسية لديه للإجهاز على هذه الفكرة المتطرفة قبل تبرعمها، لئلا تتحول إلى مشروع قابل للتحقّق،حينها يقوم الأب بوأد تلك الأفكار في مهدها، بذرائع ملتوية حول العادات والتقاليد والعرف الاجتماعي، بمعنى أنه يحدد السقف الديني المفتوح على اتساعه ويضغطه على مقاسات اعتقاداته وهواجسه الطائفية، في الوقت الذي يتحدث فيه خارج فضاء بيته عن المساواة والتسامح والتعايش، ويطالب بتوطين ثقافة الحقوق.

هناك من يستمرئ فكرة حرمان الآخرين من حقهم بسبب تمكّن المرض الطائفي من روحه، كأن يحرم موظفاً من ترقية لأنه من طائفة مختلفة، أو أن يمنع توظيفه لنفس السبب، وهذه اليوميات معروفة ومستهلكة، فقد أصبحت ثقافة ولها واقعها وأدبياتها في الواقع المريض بالطائفية. فهناك منلا يشتري إلا من أبناء طائفته، ومن لا يتعالج إلا عند طبيب من نفس السياق الطائفي الذي ينتمي إليه وهكذا، ولكن المستتر من الأعراض هو الأخطر، فهناك من لا يقرأ إلا لكاتب ينتمي لطائفته، حيث يمكن ملاحظة لوبيات التشايل لكُتّاب الطوائف، وهكذا يظهر بين الجماهير من يعاند إعجابه بلاعب كرة قدم لأنه ينتمي إلى طائفة يصنفها في خانة الخصوم أو الأعداء وهكذا.

أحياناً يتحدث اللاوعي عند المثقف الطائفي فيباهي بأنه يحتفظ بصداقات مع أبناء طائفة أخرى، وكأنه يمنّ عليهم بصداقته، ويقدم نفسه كمنقذ لهم من عزلتهم، وكأنه أيضاً لا يعي فكرة وجودهم ككائنات بشرية متعادلة معه في وجوده الإنساني، ولا يعرف حقيقة حضورهم كمكوّن بنيوي من مكونات المجتمع الأكبر، لأنه محكوم في جوهر تفكيره الطائفي بعقدة التفكير في ضآلة الأقلوي مقابل امتيازات الأكثرية، حيث كشفت مواقع التواصل الاجتماعي عن الترسبات الكثيفة للحسّ الطائفي عند معظم الشريحة المثقفة. وظهرت تلك الأعراض في انفلاتاتهم الكلامية، وفي شكل اصطفافاتهم المذهبية، وفي انخفاض منسوب حساسيتهم الإنسانية.

تحليل الخطاب الأدبي يمكن أن يكشف عن أعراض مزمنة للطائفية عند شرائح عريضة، وهذا هو أحد المجسات التي يمكن بها تشخيص الداء الطائفي، من خلال فحص التشكيلة العباراتية في الأعمال الأدبية والمقالات الصحفية، ومن خلال الكشف عن تمثيلات الآخر في تلك الخطابات الموبوءة بالطائفية، كما ينبغي فحص ما بات يُعرف تحت اسم (الميمات) أي الوحدات الثقافية المتوارثة، التي تنتقل من جيل إلى جيل فيما يشبه العدوى.

بمعنى أن الطائفية كمرض مزمن يمكن أن تُشخص من هذا المنظور الثقافي الذي يحفر عميقاً في الذات المطأفنة، ويكشفها أمام نفسها، وهذا إجراء لا يمكن حدوثه أو التعامل معه إلا عندما يتعلم المجتمع، وبشكل خاص المستنيرون منه، أن الطائفية مرض تاريخي مزمن وليس مجرد زكام طارئ.

اليوم ٤ اغسطس 2016

الصفحة السابقة