المأزق السعودي بين سوريا واليمن

طراد العمري

نشأ المأزق السعودي بداية، إثر موجة حادّة من القلق والخوف، أصابت السعودية، مع بداية الربيع العربي، وبعد تساقط الأنظمة في العام 2011، الأمر الذي خلق بدوره نوبة من «الذعر Panic»، أدت إلى إتخاذ السعودية مواقف تعتبرها مثالية، وقد يعتبرها البعض غير عقلانية Irrational، في إعتماد حل للتهدئة والإستقرار، وتخليص الشعوب العربية الثائرة في سوريا واليمن من الحكام.

وقفت السعودية مع الشعب السوري واليمني لمساعدتهم في التخلص من حكامهم، وقد أدى ذلك إلى نجاح السعودية، مرحلياً، في اليمن، وتمّت تنحية علي عبدالله صالح عن الحكم عبر المبادرة الخليجية. لكن السعودية عجزت عن فعل الشيء ذاته في سوريا.

ثلاثة أخطاء وقعت فيها السعودية:

1/ خطأ قراءة وتقدير الموقف؛

2/ عدم فهم القوى الفاعلة في الداخل السوري واليمني؛

3/ سوء قراءة خرائط التحالفات الإقليمية والدولية.

الأخطاء الثلاثة دفعت بالسعودية إلى ما يمكن تسميته بـ «التحالفات الخاطئة».

فقد ناصرت السعودية معارضة مشتتة ومهلهلة وهشة وممثلين لها حسب توليفة أمريكية في سوريا؛ كما دعمت بكل قوة شرعية هشة وضعيفة في اليمن، ما وضع الموقف سعودي في مأزق التناقض وإزدواجية المعايير.

فهي من ناحية، تقف ضد رئيس «شرعي» قوي في سوريا، لكنها في الوقت ذاته تدعم رئيساً «شرعياً» ضعيفاً في اليمن.

من جهة أخرى، حشدت السعودية، تحالف لليمن بدعم أمريكي يتبدد؛ وحشدت سوريا تحالفاً بدعم روسي يتمدد.

أدركت السعودية المأزق الذي وقعت فيه، ولو متأخراً، وهي تعمل، فيما نظن، على تقليل الخسائر المعنوية والسياسية والإقتصادية والعسكرية والمالية. وسنسلط الضوء في هذا المقال على ما آلت إليه الأزمة السورية لأنها مفتاح الخلاص للسعودية من المأزق.

نجح الرئيس بشار الأسد، في إدارة أزمة بلاده ضد مخطط أمريكي شرس، يراد له أن يتم على غرار سيناريو العراق في العام 2003، ويستهدف خلق أنظمة عربية مدجنة ومتوافقة مع إسرائيل. ونجح الرئيس بشار الأسد في إختيار الشركاء والحلفاء، فخلق فريقاً داخلياً من الشعب والجيش العربي السوري، وفريقاً إقليمياً من حزب الله اللبناني وإيران، مع رأس حربة أو قيادة روسية، بحيث تشكل في مجموعها جبهة متماسكة سياسية وعسكرية وإقتصادية. تدخلت روسيا عسكرياً قبل عام تقريباً، وتمكنت من فرض القيادة والسيطرة في الميدان السوري، ثم إنتقلت لإدارة الصراع في المنطقة بأكملها، واستطاعت ضم تركيا إلى جانبها، وخلق توافق بين تركيا وإيران، وإحتواء إسرائيل.

في الجانب الآخر، فقدت الإدارة الأمريكية الحالية الشهية في إستكمال مخططها بإسقاط النظام الذي بات أكثر تعقيداً مما ظنت في الأساس، أو ما تعهد به حلفاؤها الإقليميون، ولم يعد يهم أمريكا سوى حليفتها إسرائيل. فانشغلت بريطانيا بنفسها، وتحولت تركيا إلى الضفة المقابلة، وصمتت قطر، ووقعت السعودية في مأزق بسبب إرتباط الأزمة في سوريا بالوضع المعقد في اليمن.

من جانبها، خسرت المعارضة السورية كل شيء تقريباً، بسبب فقدانها الحماس والدعم الأمريكي، ولم تعد المعارضة ورقة مقايضة رابحة في يد الولايات المتحدة، وكذلك أكراد سوريا. كانت تصريحات هيئة التفاوض السورية المنبثقة عن مؤتمر الرياض في لندن يوم الثلاثاء 7 سبتمبر 2016 تبعث على الشفقة والرثاء، حتى بعد أن قدمت ما أسمته رؤيتها للحل، التي يراها مراقبون أنها ولدت ميتة، لأن توقيتها ومضمونها يدلان دلالة واضحة على أن من أسموا أنفسهم معارضة منفصلين عن الواقع السياسي والميداني وأمسوا خارج اللعبة.

ويبدو أن تقديم المعارضة للرؤية، كما يرى مراقبون، كان بدفع دولي وإقليمي يراد منه كسب الوقت أملاً في إدارة أمريكية جديدة، بالرغم من أن الوقت لا يعمل في مصلحة المعارضة في الميدان، وهي المتضرر الوحيد من إطالة أمد التوصل لتوافق حول الحل السياسي والعودة للمفاوضات.

الأهم، أن الإرتباك، وكثرة اللاعبين على المسرح السوري، وإطالة الوقت، عقّد الأزمة في سوريا مما يؤثر سلباً ويزعج السعودية.

حشر إتفاق جنيف/ 1 عنوة في أدبيات الحل والتصريحات لم يعد ممكناً أو مقنعاً. كما أن تكرار المطالبة برحيل الرئيس الأسد، أضحى لعبة مكشوفة لكسب نقاط، وحيلة معروفة لحفظ ماء الوجه السياسي. فهيئة التفاوض السورية المنبثقة عن مؤتمر الرياض تعرف سلفاً أن طرح رحيل الرئيس سيُسقط الرؤية المقترحة. يقول أحد الخبراء أنه «من السذاجة السياسية أن تتوقع المعارضة أنه بمجرد منح الرئيس مهلة ستة أشهر، وكتابة عشر أوراق في لندن، سيحل النظام نفسه».

ونجادل نحن، أن من الغباء الفطري أن يتصور عاقل أن الرئيس بشار الأسد، وبعد أكثر من خمس سنوات من النضال والحرب والصمود سيوافق على الرحيل. كما أن من الجهل السياسي أن يتصور كائن من كان، أن روسيا ستفرّط في النظام السوري حليفها الأقدم والأوحد في المنطقة، مهما تعاظمت المغريات، لكي تأتي مجموعة من المنشقين بتوليفة أمريكية لتتولى السلطة في سوريا. ناهيك عن قبول إيران لسقوط نظام في سوريا إستثمرت فيه عقوداً من الزمن، وشاركته في حرب ضروس ضد المنظمات الإرهابية دفعت فيها إيران النفس والنفيس.

ولذا، فإننا نجادل بأن الرئيس والنظام نجحوا حتى الآن، أما المعارضة فلم تعد سوى شبح أو خيال لخدمة المقايضات السياسية بين القوى العظمى والإقليمية.

من غرائب الأزمة في سوريا، أن هناك ثلاثة أطراف بين الغياب والحضور:

الأول ـ الشعب السوري الحاضر الغائب، فالكل يدّعي وصلاً بليلى، وليلى لا تقرّ لهم بذاكا. أمريكا وحلفاؤها في المنطقة يتحججون بنصرة الشعب، ويسكبون دموع التماسيح على ما آل إليه. أما أوروبا فتتباكى على الشعب خوفاً من اللاجئين، وتركيا تتعاطف هرباً من النازحين. والمعارضة تعيش في فنادق روسيا وفرنسا وتركيا ودبي والرياض زاعمة أنها تمثل الشعب الذي يقتل في سوريا يومياً.

الثاني ـ المكون الكردي في سوريا، أيضاً، حاضر بقوة في الميدان وهزم داعش في كوباني ومناطق أخرى، لكنه غائب عن الحل وقد يخرج «من المولد بلا حُمُّص».

الثالث ـ إسرائيل التي تبدو ساكنة هادئة وغائبة عن المشهد، فهي الأكثر حضوراً خلف الكواليس، والأكثر حظاً في معمعة الأزمة، وهي متكئة على الولايات المتحدة، ومطمئنة أن لا نهاية للأزمة من دون وضع إعتبارات إسرائيل في الحسبان.

يجادل د. مأمون فندي بأن الأزمة في سوريا ستستمر لعقدين قادمين، لأن أي من اللاعبين الدوليين والإقليميين لم ينظر إلى الدولة السورية بشكل كلي، بل بشكل مجزأ ينحصر من الناحية التكتيكية في الشأن السياسي والعسكري، وفنياً في الشأن الأمني والإنساني، وهذا لن يحل الأزمة السورية. كما يجادل د فندي، بأن ثنائيات الأزمة في سوريا: أمريكا مقابل روسيا؛ وتركيا مقابل الأكراد؛ والسعودية مقابل إيران؛ والنظام مقابل المعارضة، كلها تتضاد وتؤدي إلى تشظي الأزمة وتجزئتها وتعقيدها وإطالة أمدها، وليس من سبيل، كما يرى د. مامون، سوى الحل الإقليمي الشامل.

لا بأس! لكننا نضيف أن سبب تردد وتذبذب الموقف الأمريكي هو بسبب الحل الشامل الذي تعتزم الولايات المتحدة تضمينه إسرائيل، حتى ولو لم يذكرها د فندي بالإسم. فالإتفاق الروسي الأمريكي؛ والتقارب التركي الإسرائيلي مؤخراً؛ والغزل الإسرائيلي السعودي غير المباشر؛ ولقاء نتينياهو وأبو مازن المرتقب في موسكو؛ كلها مؤشرات تشي بأن إسرائيل هي الطرف المخدوم من التبذب والتردد الأمريكي.

لم يعد رحيل الرئيس السوري نقطة خلاف بين روسيا وأمريكا، بل أمسى الأسد هو الطريق للحل بعد إقتناع العالم بأن التنظيمات الإرهابية في سوريا هي الخطر. فالتوافق الروسي الأمريكي يشمل قضايا إستراتيجية تتعدى الشرق الأوسط برمته. أما في الأزمة السورية فنقطة الخلاف الرئيسية تكمن في تحديد المعارضة الإرهابية من المعارضة التي تسميها أمريكا وحلفاؤها «معتدلة». فبينما يرى النظام السوري أن كل من يحمل السلاح ضد الدولة هو إرهابي، ترى روسيا أن المنظمات التي توالي داعش والنصرة، حتى لو تم تغيير إسمها، فقط هم الإرهابيين ويجب محاربتهم. أما أمريكا فتكتفي بداعش وتناور في موضوع جبهة النصرة. لكن أمريكا تأخذ بوجهة نظر حلفائها الإقليميين بأن القوات الأجنبية في سوريا مثل حزب الله وإيران وفصائل محسوبة على إيران يجب أن تخرج من سوريا أو يتم محاربتها، وهنا تتشدد سوريا وروسيا، وتريان أن وجودهم قانوني ومشروع، لأن سوريا دولة مستقلة ذات سيادة، ومن حقها حسب القانون الدولي أن تطلب من تشاء لمساعدتها.

أخيراً، الموقف الحالي كالتالي: لن يرحل الرئيس بشار الأسد مهما إختبئت أمريكا وبريطانيا والدول الإقليمية خلف العامل الإخلاقي والإنساني. كما سيطول أمد الأزمة في سوريا حسب رؤية د. مامون فندي حتى يصار إلى حل إقليمي شامل يتعدى الجغرافيا السورية، ونضيف، وحتى تطمئن إليه إسرائيل. أما المعارضة السورية بكل أطيافها فستحصل، بعد خفض سقف توقعاتها، على حقائب هامشية في حكومة وحدة وطنية، ستنال هيئة التفاوض السورية المنبثقة عن مؤتمر الرياض منها عدد محدود جداً. أما تركيا فستجلس مع النظام السوري في العلن بحجج تنقذ ماء الوجه السياسي لأردوغان بعد مقايضة حول الأكراد في الشمال السوري. هنا، ستتبخر داعش بعد ترتيبات في العراق وسوريا، لكنها ستُمطر في ليبيا واليمن لجولة أخرى من الترتيبات الدولية. وستستمر أمريكا في إستنزاف وإرهاق السعودية مالياً وعسكرياً في صفقات أسلحة وترتيبات أمنية.

أما اليمن فستتعقد الأزمة أكثر، وتشتد أكثر، ويتقسم أكثر.

ختاماً، السعودية بقيت وحدها في محيط مضطرب سياسياً وإقتصادياً وعقائدياً، وعليها أن تحذر العزلة وتحسن الملاحة للوصول إلى شاطيء الأمان.

الصفحة السابقة