السعوديون والتطرف: مشعلو النار ومخمدوها

نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالة في 26 سبتمبر الماضي للكاتب سكوت شين أثارت حفيظة ال سعود وحواشيهم، سيما وأن المقالة كانت قد نشرت في وقت سابق، وأعيد نشرها، الأمر الذي عدّوه أمراً مدبّراً، وأنه يأتي في سياق خطة استهداف للمملكة السعودية. المقالة جمعت بين البحث العلمي والمادة الصحافية المثيرة، نضعها هنا للإفادة.

توفيق العباد

من المتعارف عليه أن نقاط التوافق ما بين المرشحين للرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون ودونالد ترامب ليست بالكثيرة، ولكن قد تشكل المملكة السعودية استثناءً للقاعدة. إذ استنكرت كلينتون دعم المملكة «للمدارس والمساجد المتطرفة حول العالم التي وضعت الكثير من الشباب على طريق التطرف». أما ترامب، فقد اعتبر أن السعوديين هم «أكبر ممولين للإرهاب في العالم».

يُذكر أن فرح بانديت، أول دبلوماسية أمريكية مبعوثة إلى المجتمعات الإسلامية، زارت 80 بلداً، واستنتجت أن التأثير السعودي يدمر التقاليد الإسلامية السمحاء. فقد كتبت في العام الماضي «إن لم يتوقف السعوديون عما يقومون به، فسوف ينتج عن ذلك عواقب دبلوماسية وثقافية واقتصادية».

ولا يكاد يمر أسبوع من دون أن يلقي ناقد تلفزيوني أو كاتب صحفي اللوم على المملكة السعودية للعنف الجهادي. فعلى شبكة «إتش بي أو» على سبيل المثال، اعتبر بيل مار أن التعاليم السعودية «تعود إلى القرون الوسطى». أما في صحيفة «واشنطن بوست»، فقد كتب فريد زكريا أن السعوديين قد «خلقوا وحشًا في العالم الإسلامي».

لقد أصبحت الفكرة شائعة: إن ما تصدره المملكة السعودية من نهج الإسلام المتشدد والمتعصب والأبوي والأصولي المعروف باسم الوهابية أدى إلى تغذية التطرف العالمي وساهم في زيادة الإرهاب. يطلق تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) دعواته القائمة على تهديد الغرب بالعنف، ويوجه أو يلهم الهجمات الإرهابية في بلد تلو الآخر، ما أدى مجددًا إلى ظهور جدل قديم حول النفوذ السعودي على الإسلام متخذًا أهمية جديدة.

فهل بات العالم الآن مكانًا أكثر انقسامًا وخطرًا وعنفًا بسبب التأثير التراكمي لخمسة عقود من الدعوة التي تمولها عائدات النفط من القلب التاريخي للعالم الإسلامي؟ أم أن المملكة السعودية، والتي غالبًا ما دعمت الحكام المستبدين القريبين من الغرب في وجه الإسلاميين، هي مجرد كبش فداء للتطرف والإرهاب نتيجة العديد من الأسباب المعقدة، ومن بينها تصرفات الولايات المتحدة بحد ذاتها؟

تثير هذه الأسئلة الكثير من الجدل، وذلك جزئيًا بسبب الدوافع المتناقضة للدولة السعودية.

في عالم الإسلام المتطرف، يُعتبر السعوديون «مشعلي النار ومخمديها في الوقت عينه» وفق وجهة نظر وليام ماك كانتس، باحث معهد بروكينغز. وأضاف أنهم «يروجون صورة مشوهة جدًا للإسلام ترسم خطوطًا حادة بين عدد قليل من المؤمنين الحقيقيين وبين كل الآخرين، من مسلمين وغير مسلمين»، من خلال التغذية الأيديولوجية للجهاديين الذين يمشون على خطى الجهاد العنيف.

بيد أنه أكمل قائلاً إنهم في الوقت نفسه «شركاؤنا في مكافحة الإرهاب». ولا بد من الإشارة إلى أن ماك كانتس هو واحد من بين حوالى 40 أكاديمياً ومسؤولاً حكومياً وخبيراً في الإسلام من عدة بلدان جرت مقابلتهم في إطار هذا المقال.

ما هي الوهابية؟

 
سكوت شين

غالباً ما يطلق على الإسلام الذي يدرّس في المملكة السعودية ومن قبلها في الخارج اسم الوهابية، في إشارة إلى رجل الدين الذي أسس الوهابية في القرن الثامن عشر. يُذكر أن أتباع الوهابية، والتي هي عبارة عن نموذج حرفي ومحافظ ومتشدد من الإسلام السني، غالبًا ما يشوهون سمعة المذاهب الإسلامية الأخرى، فضلًا عن سمعة المسيحية واليهودية.

الأهداف المتضاربة

يسعى القادة السعوديون إلى إقامة علاقات جيدة مع الغرب ويعتبرون العنف الجهادي بمثابة خطر قد يهدد حكمهم، لاسيما في هذا الوقت الذي يقوم فيه تنظيم «الدولة الإسلامية» بشن هجماته داخل المملكة، فقد نفذ 25 هجوماً في الفترة الماضية الممتدة على 8 شهراً، وفق الأرقام التي قدمتها الحكومة. بيد أن الدافع وراء تصرفاتهم يكمن أيضاً في عداوتهم لإيران، واستمدادهم للشرعية من المرجعيات الدينية القائمة على مجموعة رجعية من المعتقدات. ويمكن لتلك الأهداف المتضاربة أن تجعل الأحداث تتبلور بشكل مختلف ومحيًر أيضاً.

من جهته، قال توماس هيغهامر، خبير نرويجي في الإرهاب عمل مستشاراً لدى الحكومة الأمريكية، إن أشد أثر نتج عن الدعوة السعودية للإسلام هو إبطاء تطوّره، ومنع التأقلم الطبيعي في عالم متنوع تسوده العولمة. وأضاف «لو كان القرن العشرون ليشهد إصلاحاً إسلامياً، فإن السعوديين حالوا على الأرجح دون ذلك من خلال نشرهم مبدأ الحَرفية».

الجدير بالذكر في هذا السياق أن ما فعله السعوديون كان مذهلاً، إذ وصلوا تقريباً إلى كل بلد يضم سكاناً مسلمين، من مسجد غوتنبرغ الكبير في السويد، إلى مسجد الملك فيصل في تشاد، ومن مسجد الملك فهد في لوس أنجلس، إلى مسجد سيول المركزي في كوريا الجنوبية. وقد جاء الدعم المقدم لهذه المساجد من الحكومة السعودية والعائلة المالكة والجمعيات الخيرية السعودية، والمنظمات التي ترعاها المملكة بما في ذلك «رابطة العالم الإسلامي» و»الندوة العالمية للشباب الإسلامي» و»هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية»، من خلال توفير الصروح المهيبة وبرامج الوعظ والتدريس.

هناك إجماع واسع على أن القوة الأيديولوجية الهائلة للمملكة السعودية قد شوّهت التقاليد الإسلامية المحلية في عشرات البلدان، وذلك نتيجة الانفاق الباذخ على التوسع الديني على مدى نصف قرن، بما يقدر بعشرات المليارات من الدولارات. كانت النتيجة أكبر أيضاً بسبب العمالة الوافدة، التي تأتي نسبة كبيرة منها من جنوب آسيا. يقضي هؤلاء الوافدون سنوات عديدة في المملكة ثم يعودون إلى بلادهم بعد ذلك محمّلين بالعادات السعودية. حث الوعظ الوهابي في العديد من البلدان على إصدار أحكام دينية قاسية، مما أدى إلى دعم الكثيرين في بلدان مثل مصر والباكستان وبلدان أخرى لعقوبة الرجم في حال ارتكاب الزنا والقتل في حال الردة كما أظهرت نتائج استطلاعات الرأي في تلك البلدان.

حدود النفوذ

ولكن يبدو أن كيفية تبلور نفوذ المملكة بالضبط يعتمد إلى حد كبير على المعطيات المحلية. على سبيل المثال، حوّلت التعاليم السعودية، في أجزاء من أفريقيا وجنوب شرق آسيا، الثقافة الدينية باتجاه محافظ بشكل ملحوظ، وهذا الاتجاه أكثر وضوحاً في ارتفاع عدد النساء المحجبات أو الرجال الذين يطلقون لحاهم. ويبدو أن التأثير السعودي في صفوف مجتمعات المهاجرين المسلمين في أوروبا لا يشكل سوى عاملاً واحداً، وليس الأكثر أهمية، من بين عوامل عدّة تدفع إلى التطرف. في البلدان ذات التنوع أو التقسيم الديني مثل باكستان ونيجيريا، أدى تدفق أموال المملكة والأيديولوجية التي تروج لها إلى تفاقم الانقسامات الدينية، ويتّضح بشكل مستمر أنها فتّاكة.

وبالنسبة إلى أقلية صغيرة في العديد من البلدان، فإن نسخة الإسلام السني السعودية الإقصائية، وتشويهها لصورة اليهود والمسيحيين وكذلك المسلمين من الشيعة والصوفيين ومتبعي المذاهب الأخرى، قد جعلت بعض الناس عرضة لإغراء «تنظيم القاعدة» و»الدولة الإسلامية» وغيرها من الجماعات الجهادية العنيفة.

“بعد أن يتعرّض الفرد إلى كم هائل من الأفكار والأقوال تقلل من قيمة الآخر كإنسان، سيمسي في النهاية عرضةً للتجنيد من المجموعات الإرهابية، وكيف إذًا عندما تُعرض هذه الأفكار والأقوال عليه وكأنها كلام الله نفسه؟». تلك كانت وجهة نظر ديفيد أندرو وينبرغ، زميل أكبر في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات في واشنطن التي تتّبع التأثير السعودي.

قد يتجلى الدليل الأول في المملكة السعودية نفسها، التي لم تولّد فقط أسامة بن لادن، بل 15 من أصل 19 مهاجمًا من الذين شنوا هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. وأرسلت المملكة عددًا من الانتحاريين إلى العراق بعد غزو العام 2003 يفوق أي بلد آخر ، كما زودت «داعش» بمقاتلين يبلغ عددهم 2500 مقاتل، وتكون بالتالي ثاني دولة بعد تونس من حيث هذا العدد.

من جهته، قال محمد غورمز، رئيس الشؤون الدينية التركية في تركيا، إنه بينما كان يجتمع برجال دين سعوديين في الرياض في يناير الماضي، كانت السلطات السعودية قد أعدمت 47 شخصاُ في يوم واحد بتهم تتعلق بالإرهاب، 45 منهم مواطنون سعوديون. فأتى رد السيد غورمز وفق ما أوضح في مقابلة صحفية، «قلت: «هؤلاء الأشخاص درسوا الإسلام لمدة 10 أو 15 عاماً في بلدكم. فهل من مشكلة في النظام التعليمي؟». واعتبر أن تعاليم الوهابية كانت تقوض التعددية والتسامح والانفتاح على العلم والتعليم وهي الصفات التي ميّزت الإسلام لمدة طويلة. وأضاف: «للأسف»، التغييرات تمت «في جميع أنحاء العالم الإسلامي تقريباً».

 
مناهج تعليم داعش هي مناهج تعليم السعودية

اعتمد تنظيم «الدولة الإسلامية» المتطرف لمدارسه الكتب المدرسية السعودية الرسمية، وسط حرج كبير للسلطات السعودية، وذلك إلى حين تمكّن من نشر الكتب الخاصة به في العام 2015. ومن بين 12 عملاً من أعمال علماء مسلمين أعاد التنظيم نشرها، سبعة أعمال لمحمد بن عبد الوهاب، مؤسس المدرسة الإسلامية الوهابية السعودية في القرن الثامن عشر، وذلك وفق جايكوب أوليدورت، الباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. كما أن الإمام السابق للمسجد الحرام في مكة المكرمة، الشيخ عادل الكلباني، أعلن أسفه في مقابلة تلفزيونية أجراها في يناير من أن قادة «داعش» «استمدوا أفكارهم من كتبنا الخاصة، ومبادئنا الخاصة».

إن التفاصيل الصغيرة المرتبطة بالممارسات السعودية قد تسبب مشاكل أكبر من المألوف. فلعقدين من الزمن على الأقل، وزّعت المملكة ترجمة إنجليزية للقرآن تشير في السورة الأولى بين قوسين إلى اليهود والمسيحيين في مخاطبة الله: «غير المغضوب عليهم (مثل اليهود) ولا الضالين (مثل المسيحيين)». في هذا الإطار، قال سيد حسين نصر، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن، ورئيس تحرير ترجمة جديدة من القرآن الكريم مسمّاة بـ»القرآن الكريم للدراسة»، وهي عبارة عن نسخة باللغة الإنجليزية مرفقة بتفسير للآيات، إن هذه الإضافة عبارة عن «بدعة كاملة، لا أساس لها في التقاليد الإسلامية».

التهرب السعودي من المسؤولية

بناءً عليه، فإن العديد من المسؤولين الأمريكيين الذين عملوا على مكافحة التطرف والإرهاب كونوا وجهة نظر سلبية حول التأثير السعودي، حتى ولو عزفوا غالباً، نظراً لحساسية العلاقة، على مناقشته الأمر علناً. إن اعتماد الولايات المتحدة على التعاون السعودي لمكافحة الإرهاب في السنوات الأخيرة، مثل المعلومات السعودية التي أحبطت مؤامرة تنظيم «القاعدة» في العام 2010 لتفجير طائرتي شحن أمريكيتين، غالباً ما تكون أهم من المخاوف بشأن التأثير السعودي المتطرف. أضف إلى ذلك أن التمويل السعودي السخي للأساتذة ومراكز البحوث في الجامعات الأمريكية، بما في ذلك أهم مؤسسات النخبة، ردع النقد وأحبط الأبحاث حول آثار الدعوة الوهابية، وفقًا للسيد ماك كانتس، الذي يعمل على تأليف كتاب حول التأثير السعودي على الإسلام في العالم، وغيره من العلماء.

لقد بدأت مسؤولة أمريكية سابقة بالتحدّث في الأمر علناً، وهي السيدة بانديت، أول ممثلة وزارة خارجية خاصة لدى المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم. من العام 2009 وحتى العام 2014، زارت المسلمين في 80 دولة، وخلصت إلى أن التأثير السعودي سلبي وعالمي. إذ كتبت في صحيفة «نيويورك تايمز» العام الماضي: «كان التأثير الوهابي مسيئاً في كل مكان زرته». ورأت أنه على الولايات المتحدة «تعطيل عملية تدريب الأئمة المتطرفين»، و»رفض الكتب والترجمات السعودية المجانية المليئة بالكراهية»، و»منع السعوديين من هدم المواقع الدينية والثقافية الإسلامية المحلية التي تعتبر دليلًا على تنوع الإسلام».

إلا أن بعض علماء الإسلام والتطرف، بما في ذلك الخبراء حول التطرف في العديد من البلدان، يعارضون الفكرة القائلة بأن المملكة السعودية تتحمل معظم المسؤولية في موجة التطرف والعنف الجهادي الحالية. كما أنهم يشيرون إلى مصادر متعددة أدت إلى تصاعد الإرهاب الإسلامي وانتشاره، بما فيها الحكومات القمعية العلمانية في الشرق الأوسط، والظلم المحلي والانقسامات المحلية، والاستيلاء على الانترنت للدعاية الإرهابية، والتدخلات الأمريكية في العالم الإسلامي، من الحرب ضد السوفييت في أفغانستان وصولًا إلى غزو العراق. من جهتهم، فإن واضعي الأيديولوجيات الأكثر تأثيراً في القرن العشرين بالجهاديين الحديثين، مثل سيد قطب من مصر وأبو الأعلى المودودي من باكستان، أوصلوا وجهات نظرهم المتطرفة والمعادية للغرب من دون مساهمة السعوديين. كما أن تنظيمَي «القاعدة» و»الدولة الإسلامية» يحتقران الحكام السعوديين، إذ يعتبران أنهم أسوأ المنافقين.

“يحب الأمريكيون إلقاء اللوم على طرف ما، إن كان شخصاً أو حزباً سياسياً أو بلداً» برأي روبرت س. فورد، وهو السفير الأمريكي السابق لدى سوريا والجزائر. لكنه يضيف: «بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة. إذ لدي تحفظات حول إلقاء اللوم على السعوديين».

وهو يعتبر، بالإضافة لآخرين، أنه في حين قد يكون التأثير الديني السعودي مدمراً، فإن نتيجته ليست متجانسة. مبدأ طاعة الحكام من المبادئ الرئيسية للتعاليم الإسلامية السعودية الرسمية، وهو يكاد يكون المبدأ الذي يشجع الإرهاب بهدف هدم الدول. إذ إن العديد من رجال الدين السعوديين وأولئك الذين حظوا بتدريب سعودي يعتمدون موقف الصمت أو الانعزال، أي موقف الهدوء واللافعالية السياسية، وهم يتميزون بالتفاني للقرآن والصلاة والابتعاد عن السياسة، ناهيك عن العنف السياسي.

يُذكر بشكل خاص أنه منذ العام 2003، عندما نبهت هجمات «تنظيم القاعدة» في المملكة النظام الملكي إلى الخطر الذي يواجهه جرّاء التشدد، تصرفت المملكة السعودية على نحو أكثر شراسة للحد من الدعاة الذين يدعون إلى العنف، وقطع التمويل عن الإرهاب والتعاون مع الاستخبارات الغربية لإحباط المؤامرات الإرهابية. فمن العام 2004 حتى العام 2012، عزلت المملكة 3500 إماماً لرفضهم نبذ الأفكار المتطرفة، فيما خضع 20 ألف إماماً غيرهم إلى إعادة التدريب، وفقاً لوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد في المملكة، على الرغم من أن اللجنة الأمريكية للحرية الدينية الدولية أعربت عن ارتيابها من أن يكون التدريب فعلاً عبارة عن عملية لـ»غرس التسامح”.

هذا وقال باحث أمريكي يتمتع بخبرة طويلة في الشؤون السعودية، تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه للحفاظ على قدرته على السفر إلى المملكة لإجراء الأبحاث، إنه يعتقد أنه غالباً ما تمّت المبالغة بالتأثير السعودي في الخطاب السياسي الأمريكي. لكنه شبّه الأمر بالتغيّر المناخي. فتماماً كما يمكن لدرجة حرارة مئوية واحدة إضافية أن تؤدي في نهاية المطاف إلى آثار جذرية في جميع أنحاء العالم، مع ذوبان الأنهار الجليدية وانقراض النباتات والحيوانات، فإن التعاليم السعودية تتبلور في العديد من البلدان بطرق يصعب التنبؤ بها ويصعب تتبعها، ولكنها غالباً ما تكون عميقة، وفق رأي الباحث.

وقد أكمل معتبراً أن الدعوة السعودية يمكن أن تؤدي إلى «إعادة ضبط مركز الجاذبية الديني» للشباب، الأمر الذي «يسهّل عليهم تقبل أو فهم السرد الديني لتنظيم «الدولة الإسلامية» عندما يصل إليهم. فهذا السرد لا يبدو مختلفًا بقدر ما كان ليبدو عليه لو أن التأثير السعودي لم يلعب دوره».

معضلة عمرها قرون

لماذا تجد المملكة السعودية أنه من الصعب جداً التخلي عن أيديولوجية تنبذها العديد من دول العالم؟

 
تشابه حدّ التطابق: هل هناك فرق بين داعش ومملكة آل سعود؟

يعود مفتاح المعضلة السعودية إلى حوالي ثلاثة قرون، إلى أصل التحالف الذي لا تزال الدولة السعودية تستند إليه. ففي العام 1744، سعى محمد بن عبد الوهاب، وهو رجل دين إصلاحي، إلى الحصول على الحماية من محمد بن سعود، وهو زعيم قبلي قوي في صحراء شبه الجزيرة العربية القاحلة. آنذاك، كان التحالف يؤتي بمنفعة متبادلة: إذ حظي محمد بن عبد الوهاب بالحماية العسكرية لحركته، والتي سعت لعودة المسلمين إلى ما يعتقد أنها قيم السنوات الأولى من الإسلام في القرن السابع ميلادي، عندما كان النبي محمد على قيد الحياة. (وكانت معتقدات محمد بن عبد الوهاب نسخة من نسخ السلفية، التيار المحافظ من الإسلام الذي يقوم على اعتقاد أن السلف الصالح تمتّع بالعادات والمعتقدات الصحيحة وينبغي أن يحتذى به). في المقابل، حصلت أسرة آل سعود على تأييد رجل دين إسلامي يطبق الأحكام بشكل متشدد ويُعرف بالإصرار على الموت رجماً للمرأة التي ترتكب الزنا.

كانت نسخة محمد بن عبد الوهاب من الإسلام أول حادثتين تاريخيتين تحدّدان بعد عدة قرون شكل التأثير الديني السعودي اللاحق. فما أصبح يعرف بالوهابية كان عبارة عن «إسلام صحراوي قبلي»، وفق أكبر أحمد، رئيس قسم الدراسات الإسلامية في الجامعة الأمريكية في واشنطن. فقد تشكلت نتيجة لبيئة قاسية، تقوم على كراهية الأجانب، وتعارض بشدة الأضرحة والقبور، والفن والموسيقى، وتختلف بشكل كبير عن الإسلام العالمي في المدن التجارية المتنوعة مثل بغداد والقاهرة.

وأتى الحادث التاريخي الثاني في العام 1938، عندما اكتشف المنقبون الأمريكيون أكبر احتياطي نفطي في العالم في المملكة. فقد ولّدت عائدات النفط من شركة النفط العربية الأمريكية «أرامكو» ثروات طائلة. ولكنها أبقت أيضاً على نظام اجتماعي واقتصادي قاسٍ وأعطت المرجعيات الدينية المحافظة ميزانية باهظة لتصدير منهج الإسلام المتشدد.

قال البروفسور أحمد: «في يوم من الأيام تجد النفط ويأتي العالم إليك. أعطاك الله القدرة على إيصال نسختك الخاصة من الإسلام إلى العالم».

في العام 1964، عندما تولى الملك فيصل العرش، التزم بنشر الإسلام. وعلى الرغم من أنه اعتمد منهج التجديد في العديد من النواحي وأقام علاقات وثيقة مع الغرب، بيد أنه لم يتمكن من إصلاح المذهب الوهابي الذي أصبح يشكّل وجه الكرم السعودي في العديد من البلدان. على مدى العقود الأربعة التالية، قامت المملكة، في البلدان ذات الأغلبية غير المسلمة وحدها، ببناء 1359 مسجداً، و210 مراكز إسلامية، و202 كلية و2000 مدرسة. كما ساعد المال السعودي على تمويل 16 مسجداً في الولايات المتحدة، وأربعة في كندا، وغيرها في لندن ومدريد وبروكسل وجنيف، وفقاً لتقرير صادر في مجلة «عين اليقين» السعودية الرسمية الأسبوعية. وأفاد التقرير بأن إجمالي الإنفاق، بما في ذلك إرسال الأئمة والمعلمين أو تدريبهم، بلغ «العديد من مليارات» من الدولارات.

وقد كان للتعاليم الدينية السعودية قوة خاصة لأنها أتت من مسقط رأس النبي محمد، أرض الحرمين، مكة المكرمة والمدينة المنورة. فعندما وصل الأئمة السعوديون إلى الدول الإسلامية في آسيا أو أفريقيا، أو في المجتمعات المسلمة في أوروبا أو الأمريكيتين، وهم يرتدون الثوب العربي التقليدي، ويتكلمون بلغة القرآن، ويحملون الأموال السخية، حازوا مصداقية تلقائية.

مع مرور سنوات القرن العشرين، أخذ الأشخاص من مختلف الجنسيات والأديان يختلطون بشكل روتيني، وظهر بالتالي خلل أكبر وأكبر في الطبيعة المتشددة والإقصائية للتعاليم الوهابية. ولكن وجدت الحكومة السعودية أنه من الصعب للغاية القضاء على أيديولوجيتها أو تليينها، خاصة بعد سنة 1979 التي باتت تشكل معلماً في تاريخها.

ففي طهران، وفي تلك السنة، أوصلت الثورة الإيرانية إلى السلطة حكومة شيعية راديكالية، ما شكل تحدياً رمزياً للمملكة السعودية، قائدة السنّة، على قيادة الإسلام العالمي. كما أتى إعلان قيام الجمهورية الإسلامية ليصعّد المنافسة بين فرعين من الفروع الرئيسية للإسلام، ما دفع السعوديين إلى مضاعفة جهودهم لمواجهة إيران ونشر الوهابية في جميع أنحاء العالم.

بعد ذلك، قام 500 متطرفًا سعودياً، في إطار ضربة مذهلة، بالاستيلاء على المسجد الحرام في مكة المكرمة لمدة أسبوعين، ودعوا علناً القادة السعوديين بالدمى التي تتحكم بها الغرب وبخونة الإسلام الحقيقي. تمّت هزيمة المتمردين، ولكن لم يوافق رجال الدين البارزون على دعم الحكومة إلا بعد تأكيدات منها بدعم ضد المظاهر غير المحتشمة في المملكة وتصدير أكثر شراسة للوهابية إلى الخارج.

 
دواعش السعودية يلتحقون بالنسخة الأصل في سوريا

وأخيراً، في نهاية السنة، غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان واستولى على السلطة بغية دعم الحكومة الشيوعية. وسرعان ما واجه حركة تمرد من المجاهدين، الأمر الذي جذب المقاتلين من جميع أنحاء العالم إلى معركة استمرت لعشر سنوات وهدفت إلى طرد المحتلين.

على مدى سنوات الثمانينيات، تعاونت المملكة السعودية والولايات المتحدة لتمويل المجاهدين في هذه الحرب الأفغانية العظيمة، ما كان شأنه إحياء فكرة الجهاد المسلح النبيل في أذهان المسلمين في جميع أنحاء العالم. ولا بد من الإشارة هنا إلى الحادث الشهير، حين استقبل الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان في المكتب البيضاوي وفداً من «المقاتلين الأفغان من أجل الحرية» الملتحين، الذين اعتمدوا وجهات نظر اجتماعية ودينية بالكاد يمكن تمييزها عن تلك التي تبنتها «حركة طالبان» في وقت لاحق.

في الواقع، أنفقت الولايات المتحدة 50 مليون دولار ما بين العامين 1986 و1992 على ما كان يسمى بمشروع «محو الأمية حول الجهاد»، الذي قام على طباعة الكتب للأطفال والراشدين الأفغان لتشجيع العنف ضد غير المسلمين «الكفار»، مثل القوات السوفيتية. على سبيل المثال، استخدم كتاباً لغوياً مدرسياً للصف الأول للمتحدثين بلغة الباشتو، وفق دراسة أجرتها دانة بورد وهي أستاذة مشاركة في جامعة نيويورك، مصطلح «مجاهد» مثل: «أخي مجاهد. المسلمون الأفغان مجاهدون. أنا أجاهد معهم. الجهاد ضد الكفار واجبنا».

ضغوطات ما بعد 9/11

في يوم من أيام الأشهر التي تلت هجمات 11 سبتمبر، كان روبرت دبليو جوردن، سفير الولايات المتحدة لدى المملكة السعودية، يقود سيارته داخل المملكة مع السفير السعودي لدى الولايات المتحدة منذ مدة طويلة، الأمير بندر بن سلطان. فأشار الأمير إلى مسجد وقال: «لقد طردت إمام هذا المسجد. فقد كان وعظه متشدداً جداً».

وقد أشار السيد جوردان، وهو محامٍ من تكساس، إلى أنه بعد هجمات «القاعدة»، صعّد الضغوطات على الحكومة السعودية في ما يتعلق بانتشار التطرف. إذ صرّح قائلاً: «قلت لهم: إن ما تعلمونه في مدارسكم وما تعظون به في مساجدكم لم يعد بالمسألة الداخلية. فقد بات يؤثر على أمننا القومي».

بعد سنوات من تمويل الإسلام المتشدد وتشجيعه على دعم الجهاد ضد السوفييت، غيّرت الولايات المتحدة مسارها بشكل تدريجي في خلال التسعينيات، وبعد ذلك بشكل جذري عقب هجمات 11 سبتمبر. ولكن من حيث الضغوطات على المملكة السعودية، يتصرف المسؤولون الأمريكيون بحذر وسط إدراكهم التام لاعتماد بلادهم على التعاون مع المملكة في مجال الاستخبارات وعلى مصادر نفطها. من جهتها، قادت المملكة إصلاحات ولكن بوتيرة بطيئة لدرجة لا تحتمل.

بعد مرور 12 عاماً على أحداث 11 سبتمبر، وبعد سنوات من الشكاوى الأمريكية الهادئة حول تعاليم المملكة، أجرى المركز العالمي للدين والدبلوماسية المتعاقد مع وزارة الخارجية الأمريكية دراسة حول الكتب المدرسية السعودية الرسمية. أفادت الدراسة بإحراز بعض التقدم في تقليص المحتوى المتعصب والعنيف، ولكنها وجدت أن الكثير من المواد التي تمّ الاعتراض عليها لا تزال واردة. الجدير بالذكر أن المسؤولين لم ينشروا هذه الدراسة التي أجريت في العام 2013 قط، ذلك خوفاً من إغضاب السعوديين. بيد أن صحيفة «نيويورك تايمز» حصلت عليها في ظل قانون حرية المعلومات.

وقد أوردت الدراسة أنه تمّ تدريس طلاب الصف السابع أفكاراً تقول بأن «محاربة الكفار لإعلاء كلمة الله» من بين الأعمال الأحب إلى الله، فضلاً عن عشرات المقاطع التي وجدت الدراسة أنها مثيرة للقلق.

إلى جانب ذلك، تم تدريس طلاب الصف العاشر أفكاراً تقول إنه يجب سجن المسلمين الذين ارتدوا عن الإسلام لمدة ثلاثة أيام، وإذا لم يغيّروا رأيهم، «يقتلوا لارتدادهم عن دينهم الحقيقي». أما طلاب الصف الرابع، فكانوا يقرؤون مقاطع تقول بأن «الدين الحقيقي عُرض على غير المسلمين، مثل اليهود، لكنهم تخلوا عنه»، أو بدلوه «بالجهل والوهم، مثل المسيحيين».

إن بعض الكتب، التي أعدتها الحكومة ووزعتها، روّجت لوجهات نظر كانت معادية للعلم والحداثة وحقوق المرأة، ناهيك عن كونها وجهات نظر ملتوية بشكل محض، إذ تدعو على سبيل المثال إلى إعدام السحرة والتحذير من مخاطر نادي الروتاري ونادي الليونز. (إذ إن نية هذه المجموعات، وفق كتاب للصف العاشر «هي تحقيق أهداف الحركة الصهيونية»).

ووجدت الدراسة أنه تم توزيع الكتب المدرسية، أو غيرها من المواد التعليمية السعودية التي تشمل محتوى مماثلاً، في العديد من البلدان. واستمرت حركة إصلاح الكتب المدرسية منذ أن أجريت الدراسة في العام 2013، فكما يقول مسؤولون سعوديون هم يحاولون استبدال الكتب القديمة الموزعة في الخارج.

ولكن كما أشارت الدراسة، لم تشكل هذه الكتب المدرسية سوى جزءاً بسيطاً من الوهابية التي يصدّرها السعوديون إلى العالم بتمويلهم السخي لها. وبيّنت الدراسة أن هذا السخاء شمل في كثير من الأماكن «مدرسة تمولها المملكة بطاقم معلمين من الوهابيين (تلقوا تعليمهم في جامعة وهابية تموّلها المملكة)، ملحقة بمسجد مع إمامٍ وهابي، وتقع في نهاية المطاف تحت سيطرة الهيئة التعليمية الوهابية الدولية».

لقد حطت هذه المحدلة الأيديولوجية في العديد من الأماكن حيث قضى المسلمون من مختلف الطوائف عدة قرون يتعلمون التأقلم مع بعضهم البعض. وذكر سيد شاه، وهو صحفي باكستاني يعمل على أطروحة دكتوراه في الولايات المتحدة، كيف وصل قبل بضع سنوات إلى بلدته القريبة من الحدود مع أفغانستان داعية باكستاني شاب تدرب في مدرسة دينية ممولة من المملكة السعودية. ووصف شاه التأثير المدمر للأيديولوجية التي أحضرها هذا الداعية على بلدته. وقال إن سكان البلدة لطالما حافظوا على خليط من المعتقدات الإسلامية. وقال السيد شاه «نحن من السنّة، لكن ثقافتنا وتقاليدنا كانت عبارة عن خليط من تلك الشيعية والبريلوية والديوبندية»، في إشارة إلى الطوائف الإسلامية. وقد كانت عائلته تزور الضريح البريلوي الكبير، وتشاهد جيرانها الشيعة يضربون أنفسهم في عاشوراء. وأضاف «لم نكن نفعل ذلك بأنفسنا، لكننا كنا نوزع الحلويات والمياه». وأكمل قائلاً: «إن الداعية الجديد ندّد بالبريلوية والمعتقدات الشيعية معتبراً أنها معتقدات كاذبة وضلالية، ما أدى إلى تقسيم المجتمع وإطلاق سنوات من الجدل المرير، وبحلول العام 2010 «تغيّر كل شيء». إذ بدأت النساء اللواتي كنّ يغطين شعورهن ووجوههن بشال بارتداء البرقع الكامل. وبدأ المسلّحون بمهاجمة الأكشاك حيث يبيع التجار أسطوانات الموسيقى العلمانية. كما استخدم الإرهابيون، مرتين، المتفجرات في محاولة لتدمير ضريح البلدة الشهير محلياً.

قال السيد شاه إن العائلات باتت مقسّمة، فابن عمه «لا يريد سوى الدين السعودي»، وقد تمّ «تلقين» جيل كامل العقيدة المتشددة التي لا ترحم. وأضاف «بات الوضع صعباً جداً هذه الأيام. في البداية كنّا كلنا على مسار واحد، وكنّا نعاني فقط من المشاكل الاقتصادية، لكننا كنّا موحدين ثقافياً. ولكن الآن بات الوضع صعباً جداً، لأن بعض الناس يريدون أن تكون الثقافة السعودية هي ثقافتنا، والبعض الآخر يعارض ذلك».

قالت س كريستين فير، المتخصصة في الشؤون الباكستانية في جامعة جورج تاون، إن وجهة نظر السيد شاه تتمتع بالمصداقية. ولكن مثل الكثير من العلماء الذين يصفون التأثير السعودي على الدين، رأت أنه تكمن أيضاً أسباب محلية وراء التشدد في باكستان. ففي حين أن المال والتعليم السعودي شكّلا، بلا شك، «محفزات» للوضع في البلاد، فإن الجذور العميقة للمشاكل الطائفية والعنف الجهادي في باكستان تعود إلى تأسيس البلاد عند تقسيم الهند في العام 1947. واعتبرت أن «الفكرة القائلة بأن باكستان لكانت، من دون السعوديين، أشبه بسويسرا، فكرة سخيفة».

روابط سعودية يصعب تحديدها بدقة

مما لا شك فيه أن السؤال المتنازع عليه هو التالي: كيف يمكن للعالم أن يكون مختلفاً من دون عقود من تشكيل الإسلام على يد التمويل السعودي. على الرغم من الانتشار الواسع للإعتقاد بأن التأثير السعودي ساهم في تنامي الإرهاب، من النادر أن نجد علاقة مباشرة بين السبب والنتيجة. على سبيل المثال، تم بناء المسجد الكبير في بروكسل بتمويل سعودي ويأمه أئمة سعوديون. وفق برقيات دبلوماسية سعودية نشرتها منظمة «ويكيليكس»، تم في العام 2012 إقصاء أحد الدعاة السعوديين بعد شكاوى البلجيكيين بأنه كان «سلفياً متأصلاً» لم يقبل التيارات الإسلامية الأخرى. كما أن أحياء المهاجرين في بروكسل، ولا سيما مولينبيك، لطالما ضمّت المساجد المحلية التي تدرس علناً وجهات النظر السلفية المتشددة من دون التمويل السعودي.

بعد أن تم ربط الهجمات الإرهابية التي شهدتها باريس في نوفمبر وبروكسل في مارس بخلية «الدولة الإسلامية» في بلجيكا، بات التاريخ السعودي موضوع عدة تقارير وردت في وسائل الإعلام. ومع ذلك كان من الصعب العثور على أي صلة مباشرة بين المهاجمين والتاريخ السعودي في العاصمة البلجيكية.

هذا وتمتع عدد من المشتبه بهم بخلفيات مليئة بالجنح الطفيفة قبل تنفيذ الهجوم. فقد وصف أصدقاؤهم معرفتهم بالإسلام على أنها معرفة سطحية ليس إلا. ولم يبدُ أنهم كانوا يرتادون أي مسجد بانتظام. وعلى الرغم من إعلان «الدولة الإسلامية» مسؤوليتها عن التفجيرات، يبدو أن الاستياء من معاملة أسر المهاجرين من شمال أفريقيا في بلجيكا، ونشر دعاية «الدولة الإسلامية»، شخصيًا أو عبر شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، تشكل العوامل الرئيسية الدافعة للهجمات.

بالتالي، إذا كان هناك من رابط سعودي فهو غير مباشر إلى حد كبير، وربما تبلور على طول جيل أو أكثر. في هذا السياق، فإن هند فريحي، الصحفية المغربية البلجيكية التي دخلت في خبايا حي مولينبيك للمهاجرين في بروكسل في العام 2005 وألّفت كتاباً حول هذا الموضوع، التقت أئمة مدربين على يد سعوديين واطلعت على الكثير من الكتابات المتطرفة المكتوبة في المملكة السعودية التي شجعت «التباعد، والفكرة القائلة بأننا ضدهم، وتمجيد الجهاد».

قالت السيدة فريحي إن الذين شنّوا الهجمات الأخيرة كانوا مدفوعين من «العديد من العوامل، مثل الإحباط الاقتصادي والعنصرية، فهم من جيل يشعر أنه بلا مستقبل»، ولكنها أضافت أن التعاليم السعودية «جزء من هذه العوامل».

فهل كان الإسلام ليتخذ مساراً أكثر تقدماً واستيعاباً في بروكسل، يعكس الجذور المغربية للمهاجرين، لولا الوجود السعودي لعقود من الزمن؟ وهل كان الشباب المسلمين الذين ترعرعوا في بلجيكا ليكونوا أقل عرضة للدعوة العنيفة والصارخة التي تطلقها «الدولة الإسلامية»؟ لربما، ولكن من المستحيل إثبات ذلك.

أو لننظر في محيط ثقافي مختلف تماماً، في إندونيسيا، البلد المسلم الذي يضم أكبر عدد من المسلمين في العالم. قالت سيدني جونز، مديرة معهد تحليل سياسات النزاع في جاكرتا، إن السعوديين قد أرسلوا المال لبناء المساجد، والكتب والمعلمين على مدى عقود من الزمن.

وأكملت، هي التي زارت إندونيسيا وعاشت فيها منذ السبعينيات: «مع مرور الوقت ساهم التأثير السعودي في خلق جو أكثر تحفظاً وأقل تسامحاً». (هذا وعلّق الرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي عاش في إندونيسيا وهو صبي، على الظاهرة عينها). وأضافت أنها تعتقد أن المال من الجهات المانحة والمؤسسات السعودية الخاصة كمن وراء الحملات التي أطلقت في إندونيسيا ضد الشيعية والأحمدية، اللتين تعتبران من الهرطقة في التعاليم الوهابية. وأشارت إلى أن بعض المتطرفين الإندونيسيين المعروفين تلقوا تعليمهم على يد السعوديين.

ولكن عندما درست السيدة جونز قضايا حوالي ألف شخص اعتقلوا في إندونيسيا بتهمة الإرهاب منذ العام 2002، وجدت أن عدداً قليلاً منهم فقط - «أربعة أو خمسة أشخاص بالفعل»، كانوا على علاقة مع المؤسسات الوهابية أو السلفية. وخلصت إلى أنه، عندما يتعلق الأمر بالعنف، ليست الروابط السعودية سوى عبارة عن «ذر الرماد في العيون بمعظمها».

في الواقع، أشارت إلى وجود فجوة بين الجهاديين الإندونيسيين والسلفيين الإندونيسيين الذين يتطلعون إلى العلماء السعوديين أو اليمنيين كقدوة لهم. إذ يتهم الجهاديون السلفيين بفشلهم في التصرف وفق قناعاتهم، في حين ينظر السلفيون إلى الجهاديين بازدراء معتبرين أنهم متطرفين.

مهما كانت التأثيرات العالمية لعقود من الدعوة السعودية، فباتت هذه الدعوة تخضع لتدقيق أكبر من أي وقت مضى، من داخل المملكة ومن خارجها على حد سواء. فجهود القادة السعوديين في عمليات الإصلاح الأيديولوجي، التي تشمل الكتب والوعظ، تصل إلى حد الاعتراف الضمني بأن صادراتهم الدينية قد أدت إلى نتائج عكسية في بعض الأحيان. هذا وكثفت المملكة من حملة علاقات عامة شرسة في الغرب، ووظفت مسؤولين أمريكيين في مجال العلاقات العامة لمواجهة تقارير وسائل الإعلام الإخبارية الناقدة ورسم صورة إصلاحية للقادة السعوديين.

لكن لا مسؤولي الدعاية هؤلاء ولا عملائهم يمكنهم نفي نهج الإسلام الذي قامت عليه الدولة السعودية، وأحياناً يكون من الصعب قمع العادات القديمة. إذ جرّد الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز رجل دين بارز، وهو سعد بن ناصر الشثري، من منصبه القيادي، لإدانته التعليم المختلط. أعاد الملك سلمان الشثري إلى منصبه العام الماضي، وذلك في مدة قصيرة بعد أن انضم هذا الأخير إلى الأصوات الرسمية التي تنتقد «الدولة الإسلامية». ولكن منطق الشثري في استنكار «الدولة الإسلامية» بيّن صعوبة التغيير في النهج المتبع. إذ اعتبر التنظيم: «أكثر كفراً من اليهود والمسيحيين».

* ترجمة: شركة «إندستري آرابك».

الصفحة السابقة