نايف بن نهار

محمد بن سلمان ومشكلة الشرعية

د. نايف بن نهار

حين تتأسس الدول أو يحصل فيها تحوّل جذري فإنها تبحث عن شرعيّة تستند إليها في عملية التأسيس أو التغيير. وهذه الشرعية إما أن تكون شرعية دينية أو شرعية ثورية أو شرعية دستورية أو شرعية تاريخية أو شرعية إنجاز.

أما الشرعية الدينية فالمقصود بها الوصول إلى السلطة وممارستها بناءً على مسوغ ديني. مثل التي حصل عليها محمد بن سعود في تأسيس الدولة السعودية الأولى، والتي حصل عليها عبدالعزيز بن عبدالرحمن في تأسيس الدولة الثالثة. والشرعية الدينية لها صور مختلفة، تبدأ من نظرية الحق الإلهي التي كانت مهيمنة على المشهد السياسي الأوربي لأكثر من عشرة قرون، وتنتهي عند نظام البيعة المعروف في الفقه الإسلامي.

أما الشرعية الثورية فهي تعني أن تستند الحكومة في وجودها أو استمرارها على استثمار فعل ثوري، وهذا ما حصل مثلاً مع الخميني الذي جاء نتيجةً للثورة الإيرانية في 1979، وكالذي حصل مثلاً مع جمال عبدالناصر الذي جاء نتيجةً لثورة الضباط الأحرار في عام 1952. ومن خلال هذه الثورة تكتسب الحكومة شرعيتها في أعين الشعب.

أما الشرعية الدستورية فهي تعني الوصول إلى الحكم من خلال الآليات المقررة في الدستور المعترف به شعبيًا. وهذا ينطبق على جميع الحكومات التي جاءت وفقًا للآلية المقررة دستوريًا، سواء أكانت حكومات ديمقراطية أم أتوقراطية، المهم في نهاية المطاف تحقق إرادة الشعب في إقرار الدستور.

أما الشرعية التاريخية فهي تعني الحق في وراثة السلطة، أي أن يحصل الحاكم على حق الحكم ليس لأنه جاء نتيجة ثورة أو نتيجة شرعية دينية بل لأنَّه من سلالة الحاكمين.

أما شرعية الإنجاز فهي أن يستمد الحاكم شرعيته من خلال الإنجازات التي حققها، فتشفع له أمام الشعب في أن يوجّه السلطة حيث يشاء دون الحاجة إلى الشرعيات الأخرى. وهذا ما حصل مثلاً مع محمد علي باشا في مصر ومصطفى كمال أتاتورك في تركيا، ورضا خان في إيران.

ما الشرعية الأكثـر مناسبة لمحمد بن سلمان؟
 

التغييرات الأخيرة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ليست مجرد تغييرات موضعية، بل هي أشبه بتأسيس دولة جديدة خليقٌ بها أن تُسمَّى الدولة السعودية الرابعة. ومثل هذه التحوّلات الجذرية تحتاج إلى شرعية تستند إليها كي تكون مقبولة في أعين الشعب، فما الشرعية التي استند إليها الأمير محمد بن سلمان؟

الشرعية التقليدية للدولة السعودية هي الشرعية الدينية، فمنذ أن تأسست الدولة الأولى في عام 1744 أثر اتفاق الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب والدولة السعودية تسوّغ وجودها واستمرارها بالشرعية الدينية. وقد تجلّى هذا الأمر في الدولة السعودية الأولى والثالثة، أما الثانية فلم تكن مستندة بوضوح على الشرعية الدينية كما لاحظ ذلك جون فيلبي؛ نظرًا لاكتفاء مؤسسها الأمير تركي بن عبدالله بالشرعية التاريخية في عملية التأسيس.

لم يعد ممكنًا للأمير محمد بن سلمان أن يستند إلى الشرعية الدينية؛ لأنه في حالة صدام صريح ومباشر معها، ويسعى بكل قوة للتخلص من استحقاقاتها. كما أنه لا يمكن التعويل على الشرعية الثورية؛ لأنَّ ولي العهد السعودي لم يأتِ عبر ثورة. وكذلك لا يمكن التعويل على الشرعية الدستورية؛ لأنه لا دستور أصلاً في المملكة. وكذلك لا يمكن التعويل على الشرعية التاريخية لأن غيره من الأمراء يستطيع أن يشاركه في هذه الشرعية.

إذن ما الذي بقي من الشرعيات؟

لم يبق من الشرعيات إلا شرعية الإنجاز، فهي الشرعية الوحيدة التي يمكن أن يعوّل عليها الأمير محمد بن سلمان في عملية التغيير الراديكالية التي يقوم بها، تمامًا كما حصل مع محمد علي باشا الذي صادم المؤسسة الدينية بكل قوة مستندًا بذلك إلى شرعية الإنجازات التي حققها. وأكبر من ذلك ما فعله أتاتورك في تركيا حينما مزّق الدين نفسه وغيَّر لغة تراث شعبٍ بأكمله، دون أن يحتاج في ذلك كله إلى شرعية دينية أو ثورية أو تاريخية؛ لأنه لا يملك كل ذلك، وإنما كان يستند إلى شرعية الإنجاز، فهو في عين كثير من الأتراك آنذاك بطلٌ قومي نظرًا لتحريره تركيا من الغزاة اليونانيين.

شرعية الإنجاز هي تحديدًا ما يسعى إليه محمد بن سلمان حاليًا، بعد أن استحالت عليه كل الشرعيات الأخرى، وهذا يفسّر لنا سر الاهتمام الكبير بالإعلان عن الإنجازات الضخمة، والتي كان آخرها مشروع منطقة نيوم الذي يحتل مساحة تتجاوز 26 ألف كم، والذي سوف يُدعم بنحو نصف تريليون دولار. كما أن هناك محاولة لخلق إنجاز من نوع فريد وغريب على المنطقة بأكملها، وهو الحملة الكبيرة التي قادها تحت عنوان محاربة الفساد لإيقاف عدد كبير من الأمراء والوزراء ورجال الأعمال، علاوةً على الإصلاحات الأخرى مثل قيادة المرأة وغيرها من القضايا الثقافية.

هذه المشاريع التي يُروَّج لها على أنها إنجازات هي ما يعوّل عليه الأمير محمد بن سلمان لتحقيق الشرعية التي تجعله قادرًا على التخلص من الشرعيات الأخرى واستحقاقاتها.

هل يمكن لمحمد بن سلمان أن يعوّل على شرعية الإنجاز؟

 

شرعية الإنجاز لا تثمر إلا بعد تحقيق الإنجاز، وليس بعد الوعد بالإنجاز. فالإنجاز شرطٌ لها وليس نتيجةً لها. فبعد أن يحقق الحاكم إنجازات ضخمة في عيون شعبه فإنَّ ذلك يعطيه شرعية كافية تسوِّغ أي توجه يختاره لسلطته. فأتاتورك مثلاً لم يبدأ التغييرات الراديكالية إلا بعد تحقيق إنجازات ضخمة. فحينما أراد أن يفعل أكبر تغيير في تاريخ تركيا _ وهو إلغاء الخلافة الإسلامية_ لم يفعل ذلك بمجرد أن وصل إلى الحكم، بل بعد أن حقق إنجازاً كبيرًا يتمثّل في هزيمة الجيش اليوناني وتحرير تركيا من الغزاة، وبعد أن حقق هذا الإنجاز في عام 1922 استطاع أن يتجرًأ ويحدث التغيير الأكبر المتجسد في إلغاء الخلافة الإسلامية عام 1924.

إذن حتى تثمر شرعية الإنجاز يجب أن يكون هناك شيء ملموس يراه الشعب وبناءً عليه تُكتسب الشرعية، وهذا الأمر غير متحقق في الحالة السعودية. فإلى الآن ما يراه الشعب السعودي هو وعد بالإنجاز وليس تحقيق إنجاز، فقد وعد مثلاً بتحقيق إنجاز في اليمن من خلال تحقيق أمرين: ردع الحوثي وإعادة الشرعية. وكلا الأمرين لم يتحققا مع دخول الحرب عامها الثالث. وقد وعد بتحقيق مشروع البحر الأحمر لكن ذلك لم يحصل بعد. والآن أطلق مشروع نيوم وهو إنجاز مستقبلي وليس إنجازًا حاضرًا.

عدم تحقق إنجازات إلى الآن يعني أن شرعية الإنجاز لا يمكن أن يتم توظيفها والتعويل عليها، لأنه كما ذكرنا سابقًا وجود الإنجازات شرطٌ للشرعية وليس نتيجةً لها. وهنا يكمن الخطر، في أن ولي العهد السعودي تخلّص من الشرعية الدينية التي تعد الشرعية الأصلية للنظام السعودي قبل أن يمتلك شرعية بديلة، وهي شرعية الإنجاز.

خطورة عدم تحقق شرعية الإنجاز

ولذلك أمام ولي العهد السعودي خياران:

الخيار الأول: أن يعود إلى الشرعية الدينية، التي هي الشرعية الأصلية للدولة السعودية، ويلتزم بالاستحقاقات المترتبة عليها.

الخيار الثاني: أن يحقق إنجازات واضحة وملموسة تمنحه رخصة الحصول على شرعية الإنجاز.

وفي اعتقادي أنَّ ابن سلمان لن يعود إلى الشرعية الدينية؛ لأنَّه لا طاقة له باستحقاقاتها، وإنما سيسعى جاهدًا للحصول على شرعية الإنجاز، وهذا يعني أن المرحلة القادمة سوف تشهد العديد من المشاريع والإصلاحات المعلنة حتى يترسخ في الوعي الشعبي السعودي التلازم بين الإنجاز ومحمد بن سلمان، لكن تبقى المشكلة الجوهرية أنَّ الأمير محمد بن سلمان تخلّص من الشرعية الدينية قبل أن يحقق شرعية الإنجاز، وإلى الآن شرعية الإنجاز ليست مضمونة التحقق، وعدم تحقق شرعية الإنجاز يعني افتقاد السلطة للشرعية، وافتقاد السلطة للشرعية يفتح الباب لتقويضها من خلال اللجوء إلى توظيف الشرعيات الأخرى.

الصفحة السابقة