السعوديون والجهاد الكاذب في العراق

محمد بن علي المحمود

الشاب الغاضب لواقع أمته، والمؤمن بعالم الخرافات والمنامات والكرامات، عندما تستفزه الأحداث من ناحية، وتلهب خياله الخرافة من ناحية أخرى، لا بد أن يتساوق مع عوالم الخرافة التي يظنها طوق نجاة في مثل هذه الأحوال.

لا يخفى على أحد ممن يرخي سمعه للهمس الاجتماعي الخافت، ان هناك من أبنائنا يتسلل - لواذا - من بيننا، ذاهبا إلى أرض العراق بدعوى الجهاد الوهمي. وهي ظاهرة - على قلتها - مستمرة؛ منذ بدأ «التحرير» الدولي لأرض العراق من عهود الظلم والطغيان البعثي الغابر. ظاهرة أبطالها - أبطال بلا بطولة! - من صغار السن الذين غرر بهم الهياج الأصولي المفلس من أبجديات الوعي السياسي، ومن بدهيات التفاعل الإنساني مع العصر.

بينما يقعي المنظر الإيديولوجي «الطاعم الكاسي!» بين بنيه - وفي ماله - ناعم البال، يسرب «الفتوى» من هنا وهناك، داعياً أبناءنا واخواننا إلى جهاد الغرب الصليبي عامة، وإلى تحرير أرض الرافدين من النفوذ الأمريكي. إنها دعاوى؛ لا فتاوى، يرسلها المنظر الحركي بواسطة أشرطة الكاسيت، أو عبر مذكرات ورقية، تتداولها الأيدي العابثة المتطرفة، أو في مواقع الإرهاب على الشبكة المعلوماتية؛ من أجل صد العدوان عن أمة القرآن! كما يدعون.

ضحية هذا العبث الإرهابي المتستر بدعوى الجهاد، هم فئة الشباب، الشباب الأصغر سناً في أكثر الأحوال. من في سن السابعة عشرة أو تزيد قليلاً، هم ضحايا هذا العبث اللامسؤول من قبل مروجي الإرهاب الدولي، والمحدد الآن في العراق.

في كل يوم نسمع عن قتيل من أبنائنا هناك. قتيل قتل بلا قضية تستحق كل هذه التضحيات التي تطال الأنفس. هذا القتيل المقتول هناك، تم الاجهاز عليه هنا، قبل أن يقرر - من غير إرادة ذاتية واعية - الذهاب إلى أرض المعركة الخاسرة في بلاد الرافدين. لقد قتل يوم استطاعت الأصولية الوصولية أن تشل قدرته الذاتية على التفكير، ويوم استطاعت ان تجيّر طاقاته الحيوية لمصالحها الدعائية.

لا زلت أذكر - وكنت في السادسة عشرة - زمن الترويج «العزامي» للجهاد الأفغاني ضد الشيوعية البائدة. ليست القضية - هنا - تلك الحرب وتفاصيلها التي لا تنتهي، وربما لن تنتهي في المدى القريب. القضية هي: كيف يتم الترويج لتلك الحرب الضروس من قبل الحركي في أوساط الشباب المتدين، بل وفي أوساط من لم يبلغ سن الشباب؟. لقد كانت الأشرطة «الحكواتية» التي تروي فصول الملحمة الأفغانية، هي ما يتم تزويدنا به من قبل الداعية الصحوي - سامحه الله -. وكانت أشرطة حماسية، تحكي حماسة اللحظة آنذاك. ولا ضير في ذلك؛ لو لم تكن تلك الحكاية مبنية على الاستحماق والاستغفال لمستمعيها.

في ذلك العمر الغض الذي يفترض فيه أن لا يشتغل بهكذا حراك، أهداني أحدهم شريطا مسموعا. سمعت الشريط، انه «فلان« يروي ما رآه - بأم عينه - على أرض الأفغان الصامدة. الخرافة - للأسف - كانت هي النسيج العام لمادة الشريط الذي يدعي الإسلامية. وهي خرافة لا تسمى بهذا الاسم - الذي هو اسمها الحقيقي -في الشريط الجهادي، بل تسمى لديهم: كرامات!!!. ورغم تأثري بالقضية وتفاعلي معها، إلا انني لم أصدق تلك الخرافات، بل وجدتني نافرا منها أشد النفور؛ لأنها كانت تحتاج لتضليل سابق حتى يمكن تصديق هذا المستوى من الدجل اللامعقول.

أذكر، ان من «الكرامات!!!» التي كثر تردادها، وصدقها الكثير من الشباب آنذاك، ان «المجاهد» في أرض الأفغان يرمي الدبابة الروسية بقبضة من الرمل؛ فتحترق هذه الدبابة وتتحول إلى رماد. هذه القصة الخرافية لم ترد في شريط عرضي هامشي، بل وردت في شريط رائج، ولرجل من أكبر دعاة الجهاد الأفغاني. هذه القصة وأمثالها - فضلاً عن قصص الأموات الذين تفوح منهم رائحة المسك - ألهبت المخيال لدى الشباب الصحوي الغر، خاصة وان بنيته الذهنية كانت قد هيئت لتقبل مثل هذا التخريف والخبل المشرعن زوراً وبهتاناً.

جمهور - كجمهور هذا الداعية الجهادي - يقتات على ذكرى المنامات، ويصدق بعالم الكرامات، وترافقه - كما يتوهم - الجان في اليقظة والمنام، لا يمكن أن يمتلك حصانة ضد الحكاية الخرافية التي تحرك مكامن العزة والنصر في أعماق نفسه، مهما كانت موغلة في منافاتها للواقعي، وتضادها مع الممكن العقلي. هذه الهشاشة في الوعي، التي تؤسس لحالة من الغيبوبة في عوالم اللامرئي والماورائي، كانت هي الآلية التي أراد بها الصحوي مواجهة واقعه الأممي البائس في تلك الفترة المصيرية، المصيرية بالنسبة له كحراك لا زال في طور النشأة والتكون.

هذا العالم الخرافي لم يكتب له الزوال حتى الآن. فلا زالت قصص الكرامات الجهادية، تنافس الكرامات الصوفية على مائدة الخرافة والدجل والتضليل. لا زال الكثير منا - ونحن في عصر العلم والتقانة - يجنحون للتفسير الماورائي والخرافي، حتى للظواهر الطبيعية التي ثبتت أسبابها العلمية.

والمشكلة الأخطر أن هذه التفاسير المنافية لروح العلم تجري شرعنتها؛ لتصبح - بعد ذلك - من صلب عقيدة المسلم المعاصر. وهذا - كما هو واضح - من أسباب التنكر - الذي نراه في سياقات الإسلاموية خاصة - للعلمية من جهة، وللتوكل على المعجزة الماورائية من جهة أخرى.

الشاب الغاضب لواقع أمته، والمؤمن بعالم الخرافات والمنامات والكرامات، عندما تستفزه الأحداث من ناحية، وتلهب خياله الخرافة من ناحية أخرى، لابد أن يتساوق مع عوالم الخرافة التي يظنها طوق نجاة في مثل هذه الأحوال. لا يمكن لهذا الشاب أن يقرأ الواقع المتعين بما فيه من معادلات القوة والضعف، كما لا يمكن أن يقايس الواقع والتاريخ ويفهم الصيرورة من خلال هذا وذاك، وهو يؤمن أن قبضة من تراب «أو طلقة من بندقية منقاش!» تسقط الطائرة وتحرق الدبابة!.

هكذا أوحي إليه مؤدلجوه وخادعوه. انهم يوحون إليه ان القوة الحقيقية في إيمانه، وليست في أي شيء آخر. فمتى امتلك هذه الطاقة الإيمانية استطاع أن يغير الواقع، مهما كانت مكونات الواقع المادية، ولا غالب إلا الله.

كيف نريد من شبابنا أن يقرأ الواقع العراقي الملتهب، قبل الذهاب إلى المحرقة بقدميه، وهو يفكر بعقل خرافي، عقل صنعه له سدنة الخرافة ومنظروها؟. كيف له أن يفهم تعقيدات الواقع هناك؟، وكيف له أن يعي حجم الضرر الذي يتسبب به لأهله، ولوطنه ولأمته؛ من جراء تشويه سمعتها، وإلصاق التهم بأبنائها، وتصويرها في صورة الأمة المصدرة للإرهاب العالمي، كيف يعي ذلك، وهو مشحون بمقولات تشرعن له الإرهاب، بل وتعده بالنصر المؤزر، بمجرد التصديق بعالم الخرافة؟.

وخطأ؛ قد يتصور البعض أن مروجي الخرافة هم - فقط - من قليلي الخبرة في الميدان الشرعي من حيث الاختصاص. لكن الواقع يحكي أن كثيراً من هؤلاء الذين يصنعون الخرافة بدعوى الكرامة، ينتمون إلى السلك الأكاديمي، ويؤسسون - في السياق الأكاديمي - لمقولاتهم الخرافية على هيئة أبحاث محكمة ومساءلة، وكأنهم يمارسون أعلى درجات الموضوعية العلمية. وهذا - بلا شك - يعطي مقولاتهم وأبحاثهم «ما يزعمونه أبحاثا» مصداقية علمية أمام طلابهم والمتماهين معهم من خارج الميدان الأكاديمي.

يحكي لي أحدهم يقول: قبل خمسة عشر عاماً، حضر إلى بلدتنا «فلان» وهو في أوج مجده الحركي. لم أكن عازماً على حضور محاضرته، مع أن صيته في محيطي كان عالياً، وكانت الشهادات المجانية من قبل الغوغاء وأشباه الغوغاء لاتني عن الإشادة به وبعلومه وبمعرفته بواقع عصره. لكن، في مغرب ذلك اليوم كنت أسير في الطريق العام، فشاهدت الجموع الغفيرة تتوافد على الجامع الذي يلقي فيه محاضرته؛ لأنه قد تم الترويج لها بمهارة عالية، وهو فن يتقنه الحركي المؤدلج، ويجهد فيه نفسه دون ملل أو كلل.

يقول: كانت الجموع أكثر مما توقعته بكثير. ولهذا عزمت على الحضور؛ لأني تصورت ان الذي احتشدت له هذه الجموع، وأعلنت له تلك الإعلانات العريضة التي تمثل شهادات، إضافة إلى كونه أستاذاً متخصصاً في العقيدة في إحدى جامعاتنا!، لابد وأن يكون أستاذاً «استثنائياً!!!» في علمه المتخصص، وفي فهمه لمجريات الحدث الواقعي، خاصة في تلك الفترة، وهي فترة - من تاريخنا - كانت شائكة، ومليئة بالأحداث المحلية والعالمية.

لقد تصورت - لجهلي بالدعاية الصحوية - أني سأرى فيه الإمام الشافعي في الفقه والبخاري في الحديث وابن جرير في التفسير والأشعري في العقائد والفارابي وابن سينا وديكارت وكانط وهيجل وهيدجر وراسل في الفلسفة والجاحظ والتوحيدي والمعري في البيان... إلخ. لكني صعقت. إذا كان أول ما سمعته منه حال دخولي المسجد وجلوسي، ان أكد لنا أن الإيمان يصنع المعجزات في الحروب، وأننا قادرون على هزيمة أي جيش!!!، ما دمنا صادقي الإيمان. ولكي يؤكد رأيه هذا، ذكر قصة يزعم أنها وقعت لإخوان «السبلة» إذ كانوا - كما يقول - على درجة عالية من الإيمان.

يقول: كان «الإخوان» ببنادقهم المتواضعة واقفين، فإذا بطائرة انجليزية مقاتلة تحلق فوقهم. لم يخافوا؛ لأنهم - كما يزعم - أصحاب عقيدة صافية!. لقد تصرفوا إزاء هذا التهديد الانجليزي المدجج بتقنيات لا يعرفون عنها شيئا بأن تساءلوا تساؤلا استنكارياً يكشف عن قوة إيمانهم: الله فوق الطائرة، أم الطائرة فوق الله؟. وبما أن الجواب لديهم واضح وجلي، يعرفه الجميع، فمما يخافون؟. الله فوق الطائرة، وهو معهم، فكيف يهزمهم الإنجليز؟!

هنا - كما يزعم أستاذ العقيدة - سقطت الطائرة وهزم الانجليز؛ لأنهم الانجليز واجهوا الاخوان بالقوة المادية، بينما واجههم الاخوان بقوة العقيدة. بعد الانتهاء من سرد القصة رفع الأستاذ صوته بالتكبير إعجاباً، ورفع الحضور - أيضاً - أصواتهم إعجابا وتأمينا على هذا الكلام. يقول راوي القصة: لم استطع الصبر على هذا الدجل، فخرجت من المسجد وأنا لا أدري، هل أعجب منه في جرأته على هذا الدجل أمام هذا الحشد الكبير، أم أعجب من تصديق الحضور له، وحسن استماعهم لما يقول، رغم تعارضه مع بدهيات العقل.

والمأساة، انه مع ما في كلامه الذي يرويه - إن صدق - من استهانة بذات الله - عز وجل - ومقارنة له بخلقه، وان بأسلوب غير مباشر، إلا انه لقي الكثير من الإعجاب. هذا الكلام -وهنا خطره الحقيقي - لا يصدر عن عامي أو شبه عامي في حكم الناس، لا يصدر عن جاهل لا يتلقى الناس كلامه بالقبول، بل يصدر عن أستاذ جامعي متخصص في العقيدة، ومهمته الرسمية والتطوعية: تعليم العقيدة الناس على أوسع نطاق.

من يصدق بهذه الحكاية «حكاية الطائرة الانجليزية» - وهم كثر - هم أناس يفكرون بعقل خرافي، عقل لابد أن يقودهم - طال الزمان أو قصر - إلى كوارث كبيرة، لا يقتصر ضررها عليهم كأفراد، وإنما يمس الأمة جمعاء. لن يأخذ هؤلاء معادلات القوة المادية والضعف في حسابهم؛ لأنها لا قيمة لها، أو - على أحسن حال عندهم - ثانوية، لا تغير في مجريات الأحداث. والمشكلة الأكبر - بعد كل هذا - أن هؤلاء يكثرون ولا يقلون، خاصة في مجتمعاتنا، مع ان منطق الأحداث - من حيث انتشار التعليم ومنافذ التوعية - يستوجب أن يكون الأمر بالعكس. ولكن كيف وهم يتوارثونها صاغرا عن صاغر.

هذا الأستاذ الذي يروج لأمثال هذه «الكرامات!» يحتضن في إطار عمله الأكاديمي من يؤمن بهكذا رؤى، ويمد فاعليته الحركية؛ ليجعل منهم أساتذة مرموقين في السلك الأكاديمي الذي كان له في يوم من الأيام نفوذاً طاغياً عليه، فيمرر لهم الأطروحات المسماة بالعلمية، على انها أطروحات علمية، ويشيد بها، ويروج لحامليها، لمجرد التوافق فيما بينهم في الحراك الإيديولوجي. وهذا يعني أن الخرافة لم تعد مجرد ظاهرة أو شبه ظاهرة، وإنما هي تيار جارف، تيار يوظف الخرافة والعقل الخرافي لصالح حراكه الإيديولوجي.

أحد مريدي هذا الأستاذ - وهو مثله أستاذ في العقيدة! - تحدث - في مجلس كنت بنفسي شاهداً عليه - عن الأعاصير والفيضانات التي تتعرض لها الولايات المتحدة الأمريكية، وكيف انها - على قوتها المادية التي يجب أن نغتر بها؛ كما يقول - لا تستطيع دفع هذه الحوادث «الربانية». يقول: انظروا إلى قدرة الله، وعجز أمريكا. تعالى الله عما يقول هذا الأستاذ علواً كبيراً.

لا أدري كيف يفكر هؤلاء، هل المسألة مباراة بين القدرة الإلهية المطلقة وقدرة كيانات بشرية، إن كانت قوية، فهي قوية في إطار الإمكان البشري فحسب؟. الله أعز وأجل وأعظم في قلوب المؤمنين به من أن تطرح في حقه - ومن قبل أستاذ في العقيدة! - مثل هذه المقارنات الحمقاء. لكن صدق الله العظيم القائل في كتابه العزيز: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه).

إن هؤلاء يقللون من أهمية القوة المادية التي لا يمتلكونها، ويروجون لقدرة الإيمان الشخصي على المواجهة؛ لتوظيف من يتماهى مع رؤاهم الماورائية، في حرب خارجية معلنة، أو داخلية غير معلنة في معظم الأحوال. والضحية في كل حال، هم هؤلاء الشباب الذين تم استغلالهم؛ بوضعهم تحت تأثير مثل هذه المقولات الخرافية التي تجعل رؤيتهم للواقع رؤية غائمة، إن لم تكن رؤية مغلوطة تماماً. وتكون النتيجة بعد ذلك رحلة اللاعودة إلى العراق أو إلى الشيشان؛ لتقديم تضحيات مجانية، ومن ثم العودة «عودة بمواصفات أخرى، شخص آخر» مدججاً بايديولوجيا الجهاد الكاذب.

الصفحة السابقة