مسيرة الإصلاح في السعودية

من العريضة الى الصمت المطبق

مضاوي الرشيد

عندما تكون السياسة قائمة على علاقات مشخصنة بين الحاكم والمحكوم في دولة تنعدم فيها المؤسسات التي تمكن الشرائح الشعبية المختلفة من ممارسة المشاركة في صنع القرار تصبح العريضة المطالبة بالاصلاح والتغيير الوسيلة الوحيدة لاستجداء بعض المطالب من القيادة. في بلد كالسعودية أخذت العرائض المرسلة الى ولي الامر أبعاداً مهمة خاصة بعد احداث الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) عندما قامت مجموعات شعبية نخبوية في مجملها بتقديم خطابات ممكن تصنيفها على انها تقع في ثلاث خانات أو مجموعات.

المجموعة الاولى من العرائض وان لم تكن موجهة الى ولي الامر الا انها كرّست تضامن الموقعين على هذه العرائض مع قضايا العرب وخاصة في فلسطين والعراق.

المجموعة الثانية من العرائض صدرت من الاقليات كالشيعة والاسماعيلية ومن النساء وكلهم طالبوا بالمشاركة في صنع القرار أو بنصيبهم من الكعكة خاصة بعد عقود طويلة من التهميش وحتى العدوانية من قبل أطياف مختلفة من السلطة والمجتمع.

ما يهمنا هنا هو المجموعة الثالثة من العرائض والتي طالبت بالاصلاح السياسي الشامل المتمثل بالانتخاب الحر وفصل السلطات وإستقلالية القضاء والمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية وتقوية مؤسسات المجتمع المدني المستقلة. عشرات من النخب المختلفة الاتجاه والتفكير إجتمعت لتطرح موضوع الملكية الدستورية كبديل للملكية المطلقة الحالية ورغم أن الاصلاحيين الدستوريين كما عرفوا فيما بعد لم يكن تصورهم للاصلاح المرجو مستمداً من التجربة الاوروبية بل من تجارب دول الجوار والتي بدأت تسير في هذا الاتجاه الا أن مشروعهم لقي رداً بارداً ثم وصل الى مرحلة السجن عندما زج بمجموعة من محركي فكرة الملكية الدستورية ومنظريها في السجن لعدة أشهر صدرت بعدها الاحكام التعسفية بحقهم.

ولم يخرج هؤلاء من السجن الا الصيف الماضي وبعد تتويج عبد الله ملكاً على البلاد. ولكن رغم أن هؤلاء الاصلاحيين هم اليوم خارج السجن الا أنهم وطيفا كبيراً من زملائهم لا يزالون ممنوعين من السفر بعد مصادرة جوازاتهم. وهم أيضا مغيَّبون عن الاعلام العالمي والمحلي. فلا حوارات على الفضائيات ولا مقالات تنشر حتى هذه اللحظة.

يبدو أن الاصلاحيين قد وصلوا بعد العريضة الى الصمت المطبق. من الصعوبة في بلد يقدِّس السريَّة أن تتضح الصورة بالنسبة لما حصل عندما أطلق سراح الاصلاحيين.. ولا بد لنا أن نستنتج أن حالة الصمت هذه لا تنذر بخير.

أخطأ النظام السعودي عندما سجن هؤلاء الاصلاحيين لانهم كانوا بالفعل من المنظرين لقيام الدولة السعودية الرابعة. الكل يعلم أن المرويَّات التاريخية السعودية تقسِّم التاريخ الحديث الى ثلاث دول. الدولة السعودية الاولي والتي انتهت عام 1818 بعد حملة ابراهيم باشا علي نجد بإيعاز من السلطان العثماني. والدولة السعودية الثانية الهشة والتي تلتها ولكنها هي أيضا انتهت عام 1891 نتيجة الصراع الداخلي بين الاخوان السعوديين وتحت ضغط قوى محلية إستطاعت أن تنافس السلطة السعودية. بعد هذا جاء دور الدولة السعودية الثالثة والتي دشنت عام 1932. هذه التجارب السابقة إنعدمت فيها المشاركة الشعبية ما عدا الحلف المزعوم بين الامراء والعلماء والذي بدأ يظهر وكأنه حاليا يمر في مرحلة تصدع واضحة.

المطَّلع على عرائض الاصلاح منذ عام 2003 يستنتج أن المصلحين حاولوا جاهدين التنظير لكيان جديد رابع يحل تدريجيا محل التركيبة السابقة والتي تبدو اليوم اكثر من أي وقت مضى وكأنها حالة شاذة ليس في العالم بل في محيطها الاقليمي الخليجي. مشروع الاصلاح الذي طرح من خلال العرائض يوعد بنقلة تنهي حالة التذبذب القائمة الآن. النظام السعودي الحالي يتَّصف بصفات خاصة به فلا هو دولة اسلامية ولا هو دولة علمانية بل هو خلطة اشبه ما تكون بمنزلة بين المنزلتين. هو يتسم بالانتقائية عند تطبيق بعض الاحكام الشرعية فرغم انه يحتفظ بمظاهر تطبيق الشريعة والتي حصرت بقطع الايادي والرؤوس والرجم والجلد الا انه يلجأ الي الاحكام الوضعية في كثير من المجالات كالصحافة والتجارة وغيره.

وكثير من الاحيان نجد ان السلطة السياسية تتجاوز الاحكام الصادرة من القضاء فتعفي عن من حكم عليه بالسجن مثلاً او أنها تزج بأحدهم في السجن دون حكم قضائي. الانتقائية والتعسفية إنتقصتا من قوة القضاء وهيبته وجعلتاه يفقد الاستقلالية والتي طالب بها الاصلاحيون، كذلك هذا النظام ليس بالتقليدي وليس بالحديث. وليس هو بالنظام الديمقراطي او النظام التوليتاري. بل انه حالة خاصة من تطور بطيء وغير منسق او متكامل. لا تزال السعودية قائمة على منطق شخصنة السياسة في مرحلة غياب المؤسسات المستقلة.

وبينما تبقى السياسة وممارستها عملا شخصيا تحتكره مجموعة ضيقة لا تمثل الا ذاتها نجد المجتمع السعودي قد وصل الى مرحلة استقطاب وتشظي فكري واجتماعي وايديولوجي. هذا التشظي ليس من باب التعددية بل هو نتيجة مباشرة للدور الذي تلعبه السلطة في التأثير على المجتمع من باب الوصول الى الولاء المطلوب. التشظي يظهر بوضوح على عدة محاور.

من هذه المحاور محور تفتق الهويات الضيقة من قبلية ومناطقية وطائفية علي حساب هوية وطنية واضحة المعالم اهم ميزاتها الشعور بالعدالة من قبل أصحاب هذه الهويات. هناك مجموعات منشغلة ببلورة هوياتها المحلية علها بذلك تستطيع أن تنال بعض الحقوق من منطلق كونها إما أقلية أو منطقة أو قبيلة أو طائفة. مثلا يوجد تيار واضح في الحجاز يلوح بهوية حجازية ذات ثقافة وتراث محلي يصوّر وكأنه طمس من قبل السلطة المركزية المهيمنة. حتي هذه اللحظة يظل هذا التيار يدور في فلك الثقافة ولكن ربما يتطور في المستقبل ليدخل حيز السياسة ويطالب بتمثيل ومشاركة علي اساس ثقافة مناطقية. كذلك المجموعات الشيعية والاسماعيلية فهي ايضا تصيغ مطالبتها بالعدالة والمشاركة على أساس كونها مجموعة لها خصوصيتها الطائفية والتي يعتقد أنها طمستها أو تجاوزتها الدولة الحديثة. اما القبائل فهي أيضا تحاول أن تعيد صياغة ذاتها من خلال الاحتفال بتاريخها وولائها للنظام كمجموعة متميزة عن غيرها على الخارطة الجيوسياسة السعودية.

أما فكرياً فهناك أيضاً حالة تشظي واضحة بين الحداثيين والاسلاميين والسلفيين وغيرهم من أصحاب التيارات الواضحة ولكنها غير رسمية. إستطاع الاصلاحيون الدستوريون أن يتجاوزوا بعض هذا التشظي ولو لفترة قصيرة عندما أجمعوا على ضرورة الاصلاح. يبدو أن النظام فسّر المطالبة بالاصلاح الدستوري على طريقته الخاصة. هو اليوم يحاول أن يختزل الاصلاح الشامل بمفهومين اولهما الاصلاح الديني وثانيهما الاصلاح الاجتماعي الفوقي.

ويبدو أن النظام يستجيب بإيجابية للمطالب الجماعية للمجموعات الطائفية او القبلية اذا أظهرت هذه المجموعات الولاء المطلق ولكنه يظل يتغنى بمقولات الوطنية الشاملة في نفس الوقت إذ أنه لا يستسيغ الظهور بمظهر المستجيب لمطالب المجموعات لانه سيفتح على نفسه أبوابا لا يستطيع اغلاقها بسهولة بعد ذلك.

أدى هذا الى بعض التناقضات وهي كثيرة. مثلا في عام 1993 جرت صفقة بين النظام والمعارضة الشيعية من اجل احتواء النشاط السياسي الخارجي لهذه المجموعة فسمح للشيعة ببعض الحريات الدينية ولكن في نفس الوقت لم تتوقف الحملات المضادة ضد هذه المجموعة. وفي تعامله مع القبائل نجد النظام يشجع التغني بثقافة القبيلة وتراثها ولكنه في نفس الوقت يطمس أي ظهور سياسي لاعضائها وفي نفس الوقت يروج هوية أكثر شمولية كالانتماء العربي والاسلامي. ومن ثم يعاقب من تضامن مع المشروع الاسلامي الأممي. وبينما يكافئ النظام الاسلامي الموالين نراه في نفس الوقت يغازل الليبراليين ويفسح لهم المجال في انتقاد من يعارض مشروعهم.

يدعي النظام اليوم مساندة مشاريع تجديد الخطاب الديني ولكنه يعاقب بشدة من يتجرأ على التنظير لموضوع الشورى من منطلق اسلامي بحت كما حصل لأحد الاصلاحيين الاسلاميين. ومن جهة يمارس النظام الرقابة على المطبوعات ويمنع الكتب المصنَّفة أنها مخلَّة بالآداب ولكنه في نفس الوقت يحتضن ويحمي من يكتب هذه الكتب. هذه التناقضات في الممارسة السياسية جعلت الدولة السعودية تصل الى مرحلة حرجة جاء الاصلاحيون لينظروا من أجل أن يخرجوها من مأزقها الحالي. كان تنظيرهم محاولة لانتشال هذه التركيبة من حالة الازدواجية والتناقض إذ أنهم تصوروا دولة مؤسسات وقانون ومشاركة وفصل للسلطات.

اظهرت السلطة انها مستعدة لتبني سياسة اجتماعية تطلق بعض الحريات والتي تمثلت بظهور المرأة الي الحيز العام بعد غياب طويل وغيره من الاصلاحات السطحية كالحوارات المتلفزة والتي تخرج بتوصيات غير ملزمة لاحد وانتخابات فرعية لمجالس بلدية محدودة الصلاحيات بينما تبقى السلطة بعيدة عن أي خطوة تؤدي الى المشاركة الفعلية عن طريق مجلس أمة منتخب أو فصل حقيقي للسلطات.

الاصلاحات الشكلية والتي تحظى بتغطية إعلامية مكثفة من باب الدعاية والترويج لها على أساس كونها نقلة حقيقية الى عصر الانفتاح تبقي قاصرة على محاولات مشتتة تأتي من باب ردة الفعل وليس على أساس مخطط شامل. تحصل هذه الاصلاحات في فترة تتميز بطفرة نفطية واضحة. يظل النظام معلقا آماله على أن يكون الدولار خير بديل للاصلاح السياسي والذي طالب به الاصلاحيون الدستوريون. وقد أثبت النظام السعودي في تعامله مع قضية الاصلاح السياسي ان الولاء للنظام مقتصر على هذا الدولار وتوسيع رقعة انتشاره بين أيدي أطياف مختلفة ومتنوعة في المجتمع. ويبدو لي في الوقت الحاضر ان هذا الدولار هو خير أفيون للشعوب.

صحيفة القدس العربي ـ 3/ 4/ 2006

الصفحة السابقة