ليس تطرفاً ولكنه التكفير

محمد بن علي المحمود

لم يكن التكفير مجرد جريمة عابرة؛ ولن يكون. التكفير كإيديولوجيا، هو شرعنة واعية للإقصاء والقتل والتفجير؛ بحيث تصبح هذه الأفعال مبررة، بل ومشروعة، وأحيانا لها حكم الوجوب العيني ؛ بوصف الآخر (المختلف/ المكفَّر( منكراً حلّ في الواقع؛ يجب تغييره باليد (وهو هنا القتل للفرد، والتفجير في الجماعة(. ليس التكفير مجرد جريمة كباقي الجرائم الجنائية الكبرى، مثل تهريب المخدرات وترويجها، وسرقة الأموال العامة وتبديدها، وجرائم الاغتصاب بمستوياتها وبأنواعها.

الفرق بين التكفير كجريمة كبرى، وهذه الجرائم الجنائية الكبيرة؛ هو ما يدعونا إلى الإلحاح المتكرر على تعرية التكفير في منظومتنا الثقافية. الفرق بينهما كبير. ففي الوقت الذي تتوارى فيه الجريمة الجنائية خجلاً من المجتمع الذي تتموضع فيه؛ تعلن جريمة التكفير عن نفسها؛ بوصفها عملا مشروعا، بل بوصفها قُربة إلى الله، يعتقد ممارسها أنه بهذا الفعل (التكفير( أفضل من الجميع.

وحين نتأمل في الظاهرة أكثر؛ نجد أن الجريمة الجنائية ليست إلا مجموعة من الظواهر الإجرامية المنفصلة، التي تقود إليها حالات الضعف البشري أمام أنواع الإغراء في عالم الحياة والواقع. ومن ثم يكون الرادع القانوني حاجزاً يحول دون ممارسة الكثير منها، ويكون الفاعل ـ في الغالب ـ في حالة إدراك تام لحالة الخزي التي يتلبس بها؛ حال ممارسته جريمته. وهذا عكس جريمة التكفير التي لها امتداداتها الروحية والفكرية التي لا يمكن عزلها عن المقدس في الوعي الاجتماعي، وفاعلها يتصور نفسه في حالة نقاء وصفاء إيماني؛ يميزه عمن حوله من الكفار!.

الجريمة الجنائية منبوذة في الوعي الاجتماعي. وأي مجتمع ـ مهما كانت نوعية علاقته مع الجريمة ـ يدين هذه الجريمة بكل أطيافه، ويضع فاعلها في خانة: مجرم. بل إن محيطه الأسري ـ وما يتبعه من علائق القرابة الاجتماعية ـ يسعى لإخفاء هذا الارتباط القدري؛ بوصفه جالبا للخزي والعار. يحدث هذا، بينما حالة التشدد الديني التي تقود إلى التطرف، ومن ثم إلى التكفير، تكون رائجة في بعض البيئات المنغلقة على تشددها، كما هي الحال في بعض بيئاتنا. وهذا ما يدعوها إلى عدم إدانة المكفراتي على نحو صريح؛ لأنه يزايد على تشددها، أو تطرفها.

حين تستكشف البيئات التي تمتاز بالتشدد الديني؛ تجد أن جريمة التكفير ليست بالجريمة التي توضع ـ اجتماعيا ـ في خانة: المخزيات. التكفيري في هذه البيئات ليس منبوذاً؛ مع أنه يكفِّر معظم أفراد هذا المجتمع؛ إن لم يكن جميعهم، ويروِّج لهذه الجريمة في محيطهم دون إحساس بالخزي. في أحسن الأحوال، يرونه مخطئا في سلوكه هذا خاصة؛ لأنه سلوك يمسهم، وربما يبحثون له عن أعذار. لا يعدونه مجرما، بل مجرد مخطئ!. يتضح هذا بصورة أكبر؛ في حال لو تصورنا هذا المكفراتي لم يكن مكفراتيا، وإنما تاجر مخدرات مثلا. لا شك أن رد فعل المجتمع سيكون عنيفا. وهذا إيجابي. لكنه ـ أي المجتمع المتشدد ـ لم يتخذ السلوك نفسه مع التكفيري، بل لم يتخذ مع أي إجراء رادع؛ مع أنه أعظم جرما، وأشد خطرا!.

هنا تتضح خطورة التلبس بالمقدس في الخطاب التكفيري. لقد أكدت ذلك مرارا، وبينت أن التسامح مع المكفراتي فيه إساءة بالغة تطال الدين ذاته. إن التكفيري ـ قصد أم لم يقصد ـ يسيء أول ما يسيء إلى الإسلام؛ لأنه بممارسته سلوكا مشرعنا بمفردات إسلامية؛ يحمّل الإسلام وزر جرائمه التي قد تكون صادرة عن جهل مركب، أو عن نفس مريضة مأزومة، أو عن غضب مرتبط بأسباب خاصة، أو ثأر خاص، ولكنها تبحث لها عن مبررات شرعية؛ تسوّق لها في المجتمع، أو ـ على الأقل ـ تمنحها حصانة ضد الإدانة.

المكفراتي لا بد أن يمتاح من ثقافة المجتمع، ويتكئ على مفرداته الدينية المقدسة. وهي مفردات تستقطب النفسي بقدر ما تستقطب الفكري. ولهذا يصعب على المجتمع ـ نفسيا وليس فكريا فحسب ـ أن يضع المكفراتي مع تاجر المخدرات في سياق واحد، وأن يمنحه الإدانة نفسها ـ نوعا ودرجة. ولتوضيح البعد النفسي، نضرب هذا المثل الواقعي الدال: لو حضرت الصلاة، وأراد مروّج المخدرات أن يتقدم ليؤم الناس الصلاة. لا شك أن المصلين لن يرضوا بذلك، ومعهم حق. لكن، ماذا لو تقدم للإمامة (شيخ!( مكفراتي، هل يستطيع أحد منعه؟!، وبأي مبرر؟!. يحدث هذا على المستوى النفسي. ولو تأمل أي من هؤلاء المسألة في بعدها الفكري/ الفقهي؛ لوجد أن ترويج المخدرات لا يصل بالإنسان إلا إلى درجة الفسوق، بينما المكفراتي، خارجي بالأصالة، يرى بعض العلماء أنه كافر!، استدلالا بقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم: (..يمرقون من الدين). والمروق: الخروج.

في مثل هذه القضايا التي يضرب فيها المكفراتيون على أوتار العواطف للمجتمع؛ ليسلم الإنسان الساذج إليهم فكره وهو في حالة من اللاوعي العام، يصعب تحديد الحدود الفاصلة بين الفكري والنفسي. كثيرون منا، يتصورون أن المسألة مجرد قناعات فكرية، لا علاقة لها بالحالة السيكولوجية من قريب ولا بعيد، ومن ثم لا دور لهذه الحالة في تشكّل الفكرة. ولكن الواقع يحكي عكس ذلك. المسألة وإن كانت دينية من نواحٍ عديدة، إلا أنها من نواحٍ أخرى لا علاقة لها بحقيقة التّدين. يحدثني أحدهم عن أحد المكفراتية أنه يقول: أحب ابن لادن كما أحب الرسول. يريد أحبه بالدرجة نفسها. فأي دين هذا؟!. إنه دين الخوارج.

مرجعية الفكر التكفيري ليست مقطوعة ولا معزولة. امتداداتها تضرب في أعماق منظومة التشدد التي تتقاطع معها بعض البيئات الاجتماعية عندنا. إن من الخيانة العلمية أن نراها ـ أو ندعي أنها ـ مجرد فكر طارئ؛ بينما استدلالات المكفراتيين الثلاثة الذين اعترفوا أمام الجميع على شاشة التلفاز، مأخوذة من تراثنا السلفي الخاص، وليس من سيد قطب ولا غيره، من مفكري الحركات الإسلامية.

يسهل علينا أن نلقي مسؤولية ترويج الفكر التكفيري على أفراد وجماعات وتيارات من خارج الحدود؛ لأنها حالة مأمونة، لا تُوقِع المرء في كثير من الحرج. من السهل نظم قصائد الهجاء في الغائب. وأقصد بالغائب هنا: الذي توارت عنك قبيلته الاجتماعية والفكرية. لن تكون محرجاً أبداً؛ عندما تقوم بتشريح مقولات سيد قطب أو المقدسي. لكنك ستكون في غاية الحرج، وستُخضع كلامك لحسابات كثيرة، واعتبارات يصعب حصرها، قبل أن تضع يدك على مقولات هذا الشيخ أو ذاك من أبناء بلدك. لا شك أن الشرط العلمي هو الذي يحدد لك في أي اتجاه تسير، كما يحدد لك ـ سلفاً ـ مستوى التضحية الواجب دفعها وطبيعتها.

حقيقة لا أدري؛ متى نكون صرحاء، إلى درجة تحديد المقولات التكفيرية، ونسبتها إلى أصحابها، دون وارثيهم من جوقة الحفظة المجترين لتلك المقولات؟!. أحيانا تفاجأ بما لم يكن لك في الحسبان. شخصيات ترتبط بها عائلياً أو اجتماعياً، وكنت تراها مجرد أسماء عابرة في فضاء التشدد الديني. بعد مرور الوقت، وبعد تتبع الصلات الخفية، الفكرية وغير الفكرية تكتشف أن المسألة ليست مجرد تشدد، وأخذ للدين بيد عسراء، وإنما هي حالة تكفير صريحة لكل مختلف عنهم من أبناء المجتمع، فضلا عن غيرهم. في هذه الحال تدرك طريقة تناسل المرض.

عندما تتحدث بصراحة، وتحدد الأسماء على نحو صريح، لا شك أنك ستكتشف حجم الغضب الذي يراد به الذود عن حمى التكفير، لا عن حمى الإسلام كما يزعمون. ستكتشف أنك بصراحتك المشخصة، قد تركت المكفراتي الصامت لا يستحل الصمت، ولو بنفثة مصدور. وعندما تبحث في دلالات هذا الغضب، وتتبع علائقه الاجتماعية والفكرية؛ تكتشف أن من كنت تراهم فرقاء لاعتبارات عمرية ومناطقية وفكرية، مجتمعون على فكرة مجنونة، لا تني توسع المجتمع تفسيقاً وتبديعاً وتكفيراً.

فيما مضى كنت أرصد بعض الفتاوى المتشددة، والتي تدخل في باب: المضحكات المبكيات، وعندما أذكرها لبعض من اكتشفت ـ فيما بعد ـ أنهم مكفراتيون صامتون، كانوا يقولون ـ تقية أو نفاقا ـ: هذه أخطاء، وكل إنسان يخطئ!. في هذه السنوات، اكتشفت أنهم مؤمنون بهذه الفتاوى الشاذة غاية الإيمان، وأن المسألة عندهم (تدرّج( في بيان الحقائق!؛ لئلا ينفر الناس منهم، عندما يدركون أن الفقه عندهم: ذهنية تحريم لا غير.

عندما تحدثت في المقال السابق عن حمود بن عقلا، وبينت أنه متعاطف مع الإرهابيين، إن لم يكن مفتيا لهم على نحو مباشر، وأشرت إلى فتواه في استدعاء القوات الدولية في أزمة الخليج، كنت أريد أن يعرف الجميع أن المسألة ليست مجرد خطأ عابر في الفتوى، وإنما هو خط عام، يسير عليه هو وأتباعه، وأنها لم تكن نزوة تطرف عابرة، وإنما هي ـ فيه ـ قديمة، ظهرت ـ بوضوح ـ في أزمة الخليج، وامتدت إلى وفاته قبل أربع سنوات من الآن تقريبا.

الصراحة هنا ضرورية؛ مهما كلَّفت؛ لأن السكوت عن هذا التيار، وعن رموزه؛ يعني منحه الفرصة التاريخية ليستشري في المجتمع استشراء السرطان، خاصة وأن المكفراتية الثلاثة الذين خرجوا علينا في رمضان عام 1424هـ، واعترفوا بأنهم مرجعيات للمفجرين؛ عندما ذكروا أنهم أفتوهم، بدفع الصائل، هم من تلاميذ حمود بن عقلا، بل ليسوا مجرد تلاميذ له، فالأستاذ لا يتحمل بالضرورة نتاج تلاميذه، ولكنه كان المزكِّي لهم، والمتبرع بالتقديم لكتبهم.

لم أذكر آنذاك فتوى حمود بن عقلا في البطاقة المدنية للمرأة، وأنه كان يقول بكل جرأة: (البطاقة منكر لا يجيزه الشرع) لاحظ أنه لم يقل: لا أجيزه، وإنما أسند الفعل إلى الشرع! ؛ ليجعل من رأيه احتكارا لرأي الشرع. طبعاً ليست القضية هنا في هذا التحريم، وإنما في المسوغات التي ذكرها، وعدَّ منها: التصوير. ويقصد هنا مجرد التصوير، حتى للذكور، وبعد أن يورد النصوص على تحريم تصوير ذوات الأرواح يقول: (وهو محرم باتفاق العلماء). هكذا دون تفصيل!

هذه الدعوى (دعوى اتفاق العلماء( جرأة في الكذب، لا يصح السكوت عليها. ولا أدري أي اتفاق هذا الذي أجمع فيه العلماء على تحريم تصوير ذوات الأرواح. المسألة خلافية كما يعرف ذلك من له أدنى اهتمام شرعي، ولا بد أن لا ننسى أنه يقول ذلك، في معرض تحريره حكم الصور الموجودة في بطاقاتنا المدنية. لم أذكر هذه الفتوى؛ لأنها فضيحة لنا كمجتمع أمام العالم، عندما يعرف أننا لا زلنا نتناول هذه المسائل البدهية على هذا النحو من الوعي الغارق في تخلفه من جهة، والمشدود إلى تشنجات تنبئ عن أمراض خاصة من جهة أخرى.

قد تكون هذه الفتوى المشددة، وما فيها من عبث استدلالي، لا يتسع المجال لفضحه، مجرد فتوى شاذة عابرة من جملة فتاوى حمود الشهيرة في هذا المجال. لكن، التأمل في مثل هذا الواقع ـ الروحي والفكري ـ الذي ينتج مثل هذا التشدد، ثم يستمر في هذا السياق؛ لينتج فتاوى التكفير أو يباركها، يكشف أن التطرف الذي يراه بعضنا يسير الضرر، هو ـ بالضرورة ـ من مقدمات التكفير والتفجير.

التكفير لا ينشأ ـ أو على الأقل، لا ينمو ويروج ـ في بيئة ترفض التطرف، وتمتلك حساسية ضد الغلو والتشدد. بيئة كهذه، هي بيئة طاردة لكل من يجنح إلى التطرف من أفرادها. ولذلك ترى البيئات التي تتسم بهذه السمة، سرعان ما يهاجر عنها أبناؤها المتطرفون؛ ليبحثوا عن مكان يحتضنهم نفسياً وفكرياً.

التكفير ينمو؛ عندما تصبح رموز (مشايخ( التكفير محل تقدير واحترام اجتماعي كبيرين. وتستقطب هذه الرموز طلائع التكفير؛ لتأخذ الراية من بعدها، بعد أن تكون قد تشبعت بمقولاتها، بل ـ وفي أحيان كثيرة ـ تجاوزتها في سياقها التكفيري، وكانت أشد صراحة وأعظم جرأة على التكفير.

التكفيريون الثلاثة: علي خضير الخضير، وناصر الفهد، وأحمد الخالدي هم ـ على الأقل ـ الأشد صراحة من غيرهم في التكفير؛ إضافة إلى ربطهم بشيخهم: حمود. وإذا عرفنا أن المدعو: حمود، له تلاميذ، وأشباه تلاميذ من غير هؤلاء الصرحاء، عرفنا أن المسألة ليست مجرد سلوك إجرامي، يقوم به الجناح العسكري للتيار التكفيري.

عندما أصدر التكفيري: ناصر الفهد، كتابه (التبيان في كفر من أعان الأمريكان( وهو الكتيب الذي كفر به كل من وقف مع الحملة ضد الإرهاب، باعتبارها حملة صليبية ضد الإسلام، احتفى به التيار التكفيري؛ لأنه الكتاب الذي يكفر به الدولة، وتنضح مفرداته بالتعصب لطالبان، وتكفير ما سواها. لقد أصبح هذا الكتيب مرجعا شرعيا للإرهابيين، على كل ما فيه من بساطة وسذاجة في الوعي السياسي. ويكفي التأمل في سجع العنوان (وكل عناوين كتبه مسجوعة!( لتعرف أنه مازال يعيش القرون الوسطى بظلاميتها، روحاً وفكراً.

المهم، أن هذا الكتيب التكفيري، الصريح في تكفيره، قدم له ثلاثة من الذين يسيرون في الخط نفسه، وهم:

1 - حمود بن عقلا. وهو شيخ هؤلاء، وقد توفي. يقول في التقديم: (والشيخ ناصر الفهد ـ وفقه الله ـ له جهود مباركة، وقد ساهم وجاهد ـ وفقه الله ـ في مناصرة الحق وأهله، ودفع الباطل وأهله).

2 - علي خضير الخضير. ويقول في مقدمته: (فوجدته كتابا رائعا متقنا في بابه، يكتب بماء الذهب).

3 - سليمان العلوان. وهذا أثنى عليه ابن لادن في أحد تصريحاته التي يجود بها على خلصائه من تورا بورا. يقول سليمان في تقديمه لكتاب ناصر الفهد: (فلله در هذا الشيخ (يقصد التكفيري: ناصر الفهد( ونعما ما كتبت يداه).

ثناء رخيص، دون أي احتراز، على كتاب تكفيري من الدرجة الأولى، يشهد بالكثير لمن تأمل. يأتي هذا الثناء من أناس كانوا ـ قبل موت حمود، واعتقال ناصر وسليمان وعلي ـ ينشرون مثل هذا الفكر بيننا، ويلقونه على مسامع شبابنا، وتقدمهم بعض طوائف المجتمع المتطرفة؛ بوصفهم: مشايخ أو طلبة علم!

صحيفة الرياض، 6 يوليو 2006

الصفحة السابقة