السعودية: تدوين التراث الشعبي تمهيدا لاختلاسه

د. مضاوي الرشيد

يعرف التراث الشعبي علي انه الحاضن لذاكرة الامم ومعظم هذا التراث يتم تناقله بطريقة شفوية وعفوية. عادة يخزنه الكبار في السن الذين يوصلونه الي الاجيال اللاحقة. اشتهر هذا التراث في منطقة الجزيرة العربية حيث اصبح مصدرا من مصادر التاريخ الذي يعتمد عليه الكثير من الباحثين في ابحاثهم التاريخية التي تعني بالشأن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وكذلك امور تتعلق بتعاطي المجموعات البشرية مع محيطها وبيئتها الجغرافية والطبيعية. يخزن هذا التراث مرويات تتعلق بالعلاقة بين الافراد والمجموعات كذلك تخزن هذه القصص المعرفة الشعبية المتعلقة بالحرف والصناعات وطرق توفير العيش وتكنولوجية الانتاج. كذلك تحتضن المرويات الشفوية قصص العلاقات السياسية واخبار النصر والهزيمة وكذلك اخبار الخيانة والمقاومة الي ما هنالك من امور تتعلق بكون الانسان مخلوقا سياسيا يخضع لانماط مختلفة من الهيمنة او الولاء او الاحلاف ويعبر عن ذلك من خلال التراث.

بحكم كون هذا التراث الشعبي تراثا شفويا فهو بطبيعته يصعب تدوينه واحتواؤه من قبل من يريد ان يفعل ذلك.

يتجاوب هذا التراث مع الحاضر وتعاد صياغته حسب الظروف التاريخية، يلجأ لهذا التراث القوي والضعيف، الكبير والصغير المستبد والمستبد به. لذلك هو ينمو ويتكاثر ويزدهر في المراحل العصيبة وكذلك مراحل الرفاهية والرخاء، مثلا نجد ان تجربة الرقيق ارتبطت بازدهار مرويات شعبية متناقلة شفويا من قبل العبيد في مختلف انحاء العالم كذلك نجد ان المهيمن سياسيا او اجتماعيا يطمح لتدوين هذه الهيمنة عن طريق كتابة الارث الشعبي وابعاده عن عفويته المرتبطة بلحظة السرد.

عندما يصبح هذا التراث شأنا مرتبطا بأجهزة الانظمة الحاكمة تحت عنوان الابحاث نستطيع ان نجزم ان المشروع يسخر لاهداف سياسية مركزية بحتة تنطلق من احتياجات النظام السياسي وليس من الرغبة النزيهة لتدوين التراث الشعبي للمناطق المختلفة التي يتكون منها بلد ما. وهذا بالفعل ما يحدث الآن في السعودية حيث نجد ان احد اجهزة النظام السعودي انيط به مهمة تدوين هذا التراث. عندما تصل يد النظام الي التراث الشعبي بحجة تدوينه نعتقد اننا وصلنا الي مرحلة السيطرة علي الذاكرة التاريخية لكل منطقة.

الانظمة الشمولية تصرف الملايين ليس فقط من اجل السيطرة علي الحاضر بل هي تشتاق الي السيطرة علي الماضي عن طريق عملية انتقائية للتراث. هذه العملية ذات هدف واحد هو اسقاط المرويات التي تشكك في مشروع النظام ورؤيته للماضي والتي يبني علي اساسها شرعيته فتختفي المرويات من دواوين النظام وتمحي المقولات الثائرة المقاومة لانواع الهيمنة بكافة اشكالها. تسقط اسماء كثيرة لرواة وغزاة ومقاومين ولا تظهر الا قصص المطبلين المنبطحين للهيمنة السياسية والذين يضفون الشرعية علي هذه الهيمنة.

يأتي مشروع تدوين التراث الشعبي في الجزيرة العربية في مرحلة يبدو فيها النظام انه فقد المصداقية التي بموجبها هيمن علي عقول ابناء المنطقة. فراح يبحث عن سالفة في كل المناطق تحت ذريعة الحفاظ علي هذه السوالف من الضياع والاندثار تحت ضغط المدنية الحديثة والتغييرات الاجتماعية السريعة. مؤخرا حسب مراسل وكالة انباء رويترز وصل تدوين التراث الي اطراف المملكة خاصة منطقة الشمال بالقرب من الجوف وسكاكا المعروفة بتراثها الشفوي الفني والمتنوع ويبدو ان هناك مخططا لتدوين القصائد والمرويات الشعبية في مناطق المملكة الاخري. سيأتي النظام بالرواة ليسردوا قصصهم ومن ثم تدون هذه القصص في مجلدات ضخمة تتصدر صور امراء الثقافة الصفحات الاولي من هذه المجلدات بالاضافة الي بعض الكلمات المصفوفة التي تؤرخ للدور الثقافي لمثل هذه الشخصيات التاريخية وجهدها في سبيل عدم ضياع الذاكرة التاريخية المحلية تمهيدا لعملية اختـــــلاس الذاكرة.

كثير من السوالف والقصائد لن تجد طريقها الي هذه المجلدات الخضراء وستبقي هذه السوالف حبيسة الذاكرة الشعبية ترددها السنة الكبار علي مسامع الصغار في الاجتماعات الشعبية وفي المدن والواحات والاستراحات. ستتجاوزها المحاولات الرسمية لتدوين الارث الشعبي لانها تعري المقولات الرسمية وتشكك في مصداقيتها.

تؤرخ المرويات الهاربة من سوط الرقيب المدون لحقبات تاريخية لا يريد النظام ان يعترف بها بل يفضل ان يمحيها من الذاكرة التاريخية الجماعية كما محي الاثار والمباني التي تذكره بتاريخ آخر طمسه وقضي عليه تحت سلسلة طويلة من الذرائع.

فبعد هدم المباني والآثار جاء اليوم دور هدم الذاكرة الشعبية تحت ذريعة الحفاظ عليها. مشروع تدوين الموروث الشعبي هو مشروع اختلاس للماضي وتقييده وحصره في مجلدات النظام. عندما يبحث النظام السعودي عن سالفة يدونها سينسي الكثير من السوالف الاخري التي تفضح زيفه وزيف الرواية التي استطاع ان يحفرها في مخيلة الجيل الذي وقع في قبضته عن طريق كتب التاريخ ذات المروية الواحدة التي تطمس مرويات الشعب بكافة اشكالها وانواعها.

تدوين التراث الشعبي في السعودية خطوة تمهد للسيطرة ليس فقط علي الماضي وانما الحاضر والمستقبل. يأتي هذا التدوين في لحظة هشاشة النظام والذي لم يعد يستطيع ان يستهلك الدين في مشروع ارساء شرعيته لذلك هو اليوم يبحث عن اساطير شعبية عله بذلك يحفر اسمه في الذاكرة التاريخية الشعبية بعد ان انهارت مقولاته السابقة.

فبعد ان تشدق بالطهورية والصفاء علي مستوي العقيدة والممارسة نجده اليوم قد تعري من كل نقاء وسقط في وحل السياسة ورمالها المتحركة واحلافها المتغيرة. وها هو النظام اليوم يلهث وراء اللسان الشعبي عله بذلك يلتقط قصيدة مدح واطراء تلفظها شفاه رواة الجزيرة ذوي اللهجات المحلية فتجد سوالفهم طريقها الي موسوعات النظام الجديدة والتي ربما في المستقبل القريب تستخدم كجزء من المناهج التعليمية او كبديل للفكر الديني والذي هو في طريقه الي الانقراض خاصة بعد ان وصلت يد الرقيب الامريكي ومقصه الي اكثر صفحات هذا الفكر.

عملية اختلاس التراث الشعبي عن طريق تدوينه من قبل الاجهزة الحكومية التي تخلط بين البحث والمباحث والذاكرة والنسيان هي عملية سياسية بحتة ذات اهداف واضحة اهمها التأصيل للهيمنة الحالية تحت ذريعة الحفاظ علي التراث من الضياع. المدنية والتمدن لا تؤديان الي اندثار الذات الشعبي. ما يؤدي الي الاندثار هو سوط الرقيب والمدون الآتي من العاصمة الرياض. سيحتفل هذا المدون كالعادة بأسماء البعير والنياق ونغمات الربابة والمهباج وبيت الشعر ومحتوياته وصناعة النعال والحبال وربما وشم النساء ووضع الحنة علي اليدين والكعبين. وربما يذكرنا بتدوين قصصنا الشعبية التي تدين ماضينا وتصورنا كعبدة اوثان واصنام واشجار ثم سيبحث عن سوالف عودتنا وهدايتنا الي الطريق المستقيم علي يد طلائع التوحيد في القرن العشرين.

ما هي السوالف التي سيتجاوزها مدون النظام السعودي؟ وما هو التراث الذي سيبقي رهينا وحبيسا في الذاكرة التاريخية الشعبية ولن يسلم نفسه لسجن الموسوعات القادم؟

التراث الذي سيستثنيه مدون النظام له طابع خاص في كل منطقة من مناطق الجزيرة وعند كل قبيلة من قبائلها وواحة من واحاتها. هل سيدون المدون قصص جدات وامهات الاحساء الشيعيات عن اميرهم السعودي والذي وصفه امين الريحاني بأن اسمه تحول الي فزاعة تستحضرها الأمهات لتخويف الابناء المشاغبين خاصة بعد مشروع اسلمة المنطقة منذ عام 1913، هل سيدون المدون في حائل مثلا قصص جده المناضل ناصر السعيد الذي اقتنص في بيروت عام 1979 واختفي حتي هذه اللحظة. هل سيدون تراثها وسوالفها عن قصص المساجد التي استبيحت وكأنها بؤر كفر وشرك. وفي القصيم هل سيدون المدون مذبحة عالم يدعي ابن عمر والذي سقط رأسه لا لسبب الا لانه رفض الهيمنة السياسية المتمسحة بالدين. وفي بلاد غامد وزهران هل سيدون المدون كيف جوعت المنطقة وخلت الحقول من سنابلها وتحول سكانها من الانتاج الزراعي الي عسكر للسلطان. هل سيدون المدون تراث عبد الرحمن الشمراني وغيره ممن رفض التسلط. وفي الحجاز ماذا سيدون المدون؟ واي تراث شعبي سيسجل خاصة بعد محو المباني والاثار التي وقفت شاهدا علي تاريخها. هل سيدون قصص حرق المكاتب والكتب ام التسلط علي اعلامها ورموزها.

سيصاب مدون النظام بمرض فقدان الذاكرة عندما يحل ضيفا علي مناطق الجزيرة المتنوعة التراث والتاريخ. سينسي المدون قصائد القبائل التي هجرت من ديارها لا لسبب الا لانها رفضت اشكال التسلط المختلفة ومصادرة الارض ومن عليها وما فيها من ارزاق. سيتجاوز المدون ذلك التراث الذي يؤصل لهجرات قسرية متلاحقة ليس تحت ضغط الجفاف ورياح الخماسين بل تحت ضغط القهر السياسي والاكراه الديني الذي ارتبط بمرحلة تأسيس ما يسمي بدولة التوحيد. هل سيدون المدون تراث الانسلاخ عن الوطن والارض وقصائد الحنين الي الاهل ام انه سيتجاهل كل هذا التراث ويذكرنا بملحمة التوحيد المزورة التي اخفي ضجيجها معاناة شعب كامل فرض عليه الخنوع والتبعية بدلا من العزة والاباء؟

سيبقي التراث الحقيقي مدفونا في الذاكرة لكنه لن يقبل بعملية الاختلاس الجديدة والتي تأتي تحت ذريعة الحفاظ عليه من النسيان. ستهرب ذاكرة ابناء الجزيرة من موسوعة النظام للتراث الشعبي لانها تقبع في المخيلة الخصبة الحاضنة لمرويات قديمة يصعب طمسها او اختلاسها من اكبر دور البحث والمباحث.

القدس العربي ـ 12 /6/2006

الصفحة السابقة