السعودية وحزب الله

إنعدام الأخوة الإسلامية

مضاوي الرشيد

سُمِح للعدوان الاسرائيلي بالدخول في اسبوعه الثاني، وتواصل التصريحات السعودية بإدانة (مغامرة) حزب الله، والتي تحمله مسؤولية وقوع الضحايا والتدمير في لبنان. المسلمون الغاضبون، بما فيهم بعض السعوديين، فسّروا هذه الحماقة باعتبارها جزءاً من الخنوع السعودي للولايات المتحدة وحلفائها. على مستوى ضيق، يبدو هذا الرأي سطحياً. إن المصدر الحقيقي للاستنكار السعودي هو الخوف العميق من حزب الله، الذي ينظر اليه بكونه يمثل تهديداً أكبر من تهديد اسرائيل ذاتها.

البيان السعودي الرسمي غير المنسوب يحمّل ضمنياً حزب الله مسؤولية تدمير لبنان وخسارة الارواح. وهذا البيان يصرّح بأن هناك تمايزاً بين المقاومة الشرعية والمغامرة غير المحسوبة، واتهام حزب الله بالتصرف بدون تشاور مسبق مع حكومته. في اليوم التالي، أعاد وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل فحوى البيان الرسمي السابق عقب اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة.

الموقف السياسي السعودي هذا أعقبته مباشرة فتوى دينية. إن المؤسسة الدينية السعودية المذهبية اندفعت لدعم القيادة السياسية التي حمتها ضد الغضب الناشىء عن حوادث الحادي عشر من سبتمبر. صدرت الفتوى عن عبد الله بن جبرين، عالم الدين الوهابي المشهور، والمعروف بتشدده وتحريضه السياسي خلال حرب الخليج، ويرتبط اسمه بمذكرة النصيحة التي طالبت بإعادة أسلمة النظام السعودي، بعد أن انحرف، حسب اعتقادهم، عن الصراط المستقيم. وقد نصّت الفتوى على أنه لا يجوز للمسلمين دعم الرافضة، الاسم الازدرائي للشيعة، ولا يجوز لهم جمع التبرعات للاجئيهم، لأنهم ليسوا مسلمين حقيقيين. وقد أدان ممارساتهم الدينية، ووصفهم بالمشركين وخلص الى أنهم أعداء الاسلام.

الشيخ بن جبرين يعتبر الشيعة كفاراً، وأن الحادهم أسوأ من ذلك الذي حاربه النبي في القرن السابع (الميلادي) في مكة، وهو موقف وهابي متوارث عن سلسلة من علماء الدين. وقد جاءت الفتوى في لحظة خطيرة وحظيت بتقدير كبير من قبل الاسرائيليين، حيث أعادوا نشرها في واحدة من جرائدهم المحلية.

ومرة أخرى يثبت الوهابيون الرسميون بأنهم الانتلجسيا المذهبية التي تبقى مواليه لليد التي تطعمها. فالشيخ الذي أصدر هذه الفتوى ينتمي الى نفس المعسكر الذي اعتمدت عليه الولايات المتحدة لانزال الهزيمة في الشيوعية خلال الحرب الباردة وبخاصة في افغانستان ومناطق أخرى في العالم العربي والاسلامي. وكما هو الحال بالنسبة للصحافة الاسرائيلية، فإن الولايات المتحدة ستقدّر مرة أخرى الخدمات التي يقدّمها العلماء الوهابيون، الذين يشرعنون بإخلاص سياسات النظام السعودي، والتي توافقت مع السياسة الاسرائيلية والاميركية والبريطانية وعدد آخر من الدول.

أسلحة الضعفاء

التحالف بين النظام والعلماء الوهابيين قد تم تجديده مؤخراً، يلحظ ذلك بوضوح حين انتقد النظام السعودي الهيمنة الايرانية في العراق، وهو تطور، بدلالته، عزز الهيمنة الشيعية لأول مرة في تاريخ العراق الحديث. عزّا الوهابيون السعوديون القائد الاردني للمقاومة العراقية، أبو مصعب الزرقاوي، والذي أعتبر مدافعاً عن سنة العراق ضد الشيعة الكفار، الذين وصفوا بطريقة ازدرائية كمتحدرين من ابن العلقمي، الوزير البغدادي الذي يحُمِّله السنة مسؤولية سقوط بغداد في أيدي المغول. لقد باركوا سعود الفيصل حين صرّح بأن الولايات المتحدة سلّمت العراق الى ايران، البلد الذي يمثّل الشيعة الزنادقة بحسب وجهة نظر أغلب الوهابيين.

في المقابل، فإن (الشارع السعودي) منقسم على نفسه. فليس هناك مظاهرات أو هيجانات كتلك التي شهدتها عمان والقاهرة والمنامة كرد فعل على العدوان الاسرائيلي. وبدلاً عن ذلك، فإن الناشطين السعوديين فضّلوا (اسلحة الضعفاء) أي كتابة العرائض.

اقتفاء لنهجهم المألوف، فإن ميول المفكرين والوطنيين والاسلاميين اقتصرت على إصدار عريضة، أدانوا فيها التدمير الاسرائيلي للبنان، وبهذا عزلواا أنفسهم عن الموقفي السعودي ـ الوهابي الرسمي الذي يحمّل حزب الله مسؤولية الدمار. نشروا عريضتهم في الصحافة في دعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وضمّت ـ العريضة (المتهمين عادة) من بينهم: كتاب، وأساتذة جامعات، ومحامون، وآخرون يمثّلون الطبقة الوسطى السعودية الناشئة.

كما أدان الشيعة السعوديون الموقف الرسمي في موقع تابع لهم على شبكة الانترنت وفي محطة تلفزيون فضائية عربية، ويرفضون الفتوى الصادرة عن ابن جبرين، وهو شخص معروف بادانته للشيعة والذي أنكر في السابق ممارساتهم الدينية بل وحرّم على المسلمين أكل ذبائحهم.

الطائفية جانباً

الاسلاميون السعوديون، وأغلبهم من السنّة، أثبتوا بأن لديهم علاقة حب ـ كراهية مع مقاومة حزب الله. إنهم غيورون بفعل سجّلها السابق وشعبية قائدها نصر الله. إنهم يتجاوزون في نظرتهم للاختلافات الدينية والهوية المذهبية حين يفخرون بمقاومة رجال نصر الله في لبنان. سلمان العودة، الشيخ الصحوي، دعم المقاومة اللبنانية على شاشة إحدى المحطات التلفزيون العربية المموّلة سعودياً، وأن كثيراً من الاسلاميين السعوديين يقدّمون وحدة الامة على توحيد الملّة (أي توحيد العقيدة والمذهب)، كون الأول هو الموقف المطلوب في أوقات الازمة.

ومن نافلة القول، فإن كلاً من النظام السعودي ومؤسسته الدينية استنكرا مثل هذه الزندقة. إنهم يفضّلون أن يبقى العلماء منقسمين ما لم يتوحّدوا تحت لواء النظام السعودي وتوجيه العلماء الوهابيين. وعلى الضد من لغة الوحدة الاسلامية والاشراف على المنظمات والمؤسسات الاسلامية العالمية، فإن النظام السعودي يقوم بتشجيع إحداث قطيعة بين الاخوة الاسلامية.

دول اللعبة

إن القول بأن عداوة السعودية لحزب الله نابعة من اعتقادها بالتعريف الويبري للدولة كجهاز له احتكار استعمال وسيلة القهر هو قول خاطىء وغير مدرك.

يجادل بعض الكتّاب بأن السعوديين ينظرون الى حزب الله بكونه دولة داخل دولة، وعليه يجب ازالته حتى لو تطلب ذلك تطهيراً عرقياً في جنوب لبنان، وتدمير البنية التحتية اللبنانية أو تدمير كل لبنان، إن هذا الرأي يغفل تاريخ النظام في دعم مجموعات هدفها الرئيسي كان تدمير دولها.

وبنفس القدر، فإن الزعم بأن العداوة السعودية الرسمية تجاه حزب الله هو انعكاس للكراهية المذهبية التاريخية بين سنة السعودية وشيعة حزب الله هو قراءة خاطئة للموقف السعودي الحالي. فقد دعمت السعودية الزيدية في اليمن ضد الجمهوريين اليمنيين الناصريين خلال حرب اليمن العام 1962. في الحقيقة، فإن النظام رحّب بالقيادة الزيدية المخلوعة ومنح أفرادها جوازات سفر ومخصصات مالية شهرية، ومازالت هذه المخصصات قائمة حتى اليوم.

العودة: هل كان موقفه صحوياً؟!

الجهاد (الخاطىء)

بالرغم من فتوى ابن جبرين ـ والتي حظيت بتأييد كثير من السعوديين ـ فإن عداوة السعودية تجاه حزب الله ليست نابعة فحسب من الانقسام السني ـ الشيعي. إن خلف هذه العداوة أسباباً أخرى رئيسية وعميقة.

أولاً، تسعى السعودية الى تدمير أي تمظهر للاسلام السياسي المندغم في السياق الوطني المحلي. وفيما كان النظام السعودي يدعم ويرعى بصورة دائمة الحركات والاتجاهات الاسلامية الأممية داخل المجال الاسلامي، فقد كانت دائماً تعادي وتحارب الاسلاميين الوطنيين مثل حزب الله. فلدى الاسلاميين في المغرب، الجزائر، لبنان، اليمن، وأخيراً الاسلاميين العراقيين ممثلة في هيئة علماء المسلمين، قصص يروونها حول خصومة السعودية إزاء برامجهم، والمتصلّة ببلد واحد.

في المقابل، فإن الحركات الاسلامية العالمية (القاعدة على سبيل المثال) كانت مدعومة في البداية من السعودية. فقد رعى النظام القادة الذين يقودون الجهاد في مناطق بعيدة. ويشيد علماء الدين التابعين لها بأمراء الجهاد، مثل عبد الله عزام وأسامة بن لادن. وقد ناضلت الحركات الأممية في سبيل الله خارج الحدود: افغانستان، الفيليبين، البوسنة، الشيشان، الصومال، ومناطق أخرى.

قبل الحادي عشر من سبتبمر، شجّع النظام مواطنيه على الحرب في الخارج في سياق الجهاد العالمي المبارك. فقد حاربوا كـ (خلايا) منفصلة تماماً عن السياق المحلي أو المجتمع، بالرغم من أن كثيراً من السعوديين انتهوا الى الزواج من نساء محليات أو تنشئة روابط محلية في محطات جهادهم. إن السعوديين الذين تم تجنيدهم يشبهون أولئك الذين يتمتعون بنزوح سنوي من البلاد في البحث عن الحرية من قيود مجتمعهم. بالنسبة لكثيرين، فإن الجهاد في الخارج كان امتداداً لعطلة الصيف، حيث يعودون بعد ذلك الى بلادهم بروايات بطولية تمجّد دفاعهم عن المسلمين ضد الكفّار. قلة صغيرة فقط تنظر الى ضلوعها في الجهاد العالمي بوصفه وظيفة كاملة.

يفضّل النظام السعودي انخراط مواطنيه في جهاد بعيد، بدلاً من البقاء في الوطن والتفكير حول إمكانية إقامة الخلافة الراشدة في أرض الحرمين الشريفين أو التمتع بوسائل لازالة الطغاة المحليين ـ في الخطاب الجهادي فإن هؤلاء الطغاة هم الحكّام السعوديون أنفسهم.

قل الشيء الصحيح

ليس لدى مشايخ مثل ابن جبرين هواجس إزاء الصراع في سبيل الله في الخارج، ولكن لديهم تحفظّات حول الجهاد في الداخل. فالنوع الاخير من الجهاد يقود الى فتنة بين المؤمنين، وعلاوة على ذلك فإنه يهدد بتفكك التحالف المقدّس بين المؤسسة الدينية والحكام السعوديين.

الجهاد في الداخل سيفضي دون شك الى عض اليد التي تغذي العلماء الوهابيين. ولهذا السبب، فإن العلماء السعوديين الرسميين يقاومون إغراء دعم الفعالية الاسلامية المحلية ويحاربون في معارك ضد الصحويين الذين يترّكز إهتمامهم بصورة مباشرة على السياق المحلي. في التسعينيات، أدان العلماء شيوخ الصحوية الذين استنكروا على النظام دعوته للقوات الاميركية الى السعودية. لقد أصدروا اليوم فتاوى ضد المعارضة الاسلامية في المنفى، وخصوصاً تلك التي تركّز نشاطاتها على السعودية ولا تشغل نفسها بالقضايا الاسلامية العالمية، مثل حركة الاصلاح الاسلامية في السعودية، التي كانت الفتاوى العدائية الصادرة من قبل العلماء الرسميين ضدها مشينة.

الإلهام المشترك

الخصومة السعودية إزاء مشروع حزب الله ينبع من الخوف من نموذجه الذي قد يتحوّل الى مصدر إلهام لدى الاسلاميين في الداخل. وبالرغم من أن حزب الله يستمد من مصادر ورجال وفكر ذات طابع شيعي، فإن تاريخه وتاريخ النضال الاسلامي الشيعي في العراق، وايران، ودول الخليج ـ بما في ذلك السعودية ـ كان يستلهم من مصادر شيعية وسنية على السواء. فالفكر السني في القرن العشرين كان مبجّلاً من قبل الاسلاميين السنة والشيعة. وكما هو الحال بالنسبة لدى نظرائهم السنة، فإن كثيراً من الاسلاميين الشيعة كانوا يستلهمون من مفكرين مثل السيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، وكلاهما من السنة. إن الاختلاف الوحيد بين نوعي الاسلام الشيعي والسني ينبع من حقيقة أن السنة فشلوا بصورة مزرية في تحقيق أهدافهم بينما نجح الشيعة في ذلك.

الاسلام الشيعي نجح في تطبيق رؤيته في إيران ولاحقاً في لبنان، حيث أسس حزب الله ما يعرف بـ (دولة داخل دولة). ومنذ وقت قريب، وصل الاسلاميون الشيعة الى السلطة في العراق بينما فشل الاسلاميون السنة في الاطاحة بنظام عربي، دع عنك إقامة دولة إسلامية زاهرة.

المثير للدهشة، أن كثيراً من الاسلاميين السنة يفضّلون الذهاب الى العالمية، وضرب العدو البعيد، بينما يمنحون الطغاة المحليين قوة وقدرة على إحداث دمار أكبر على من ورائهم. فلو نجح الاسلاميون السنة في صراعهم المحلي ضد الطغاة المحليين، أي عدوهم المباشر، فإنهم لن ينصرفوا الى العالمية، وإيقاع الدمار في مناطق مثل نيويورك، ولندن، ومدريد، ومناطق أخرى.

وبينما تشظى الاسلام السني، فإن الاسلام الشيعي رسّخ نفسه في مواقع محددة. فقبل الهجوم الاسرائيلي على حزب الله في الثاني عشر من يوليو، مثّل الحزب حركة إسلامية وطنية. جهاد حزب الله مندك في تربته، وفي السابق، ضحّى الفدائيون من حزب الله بأرواحهم وقتلوا على أرضهم. ولهذا السبب، فإن نموذج حزب الله الذي هو مقيم في منطقة محددة يخيف النظام السعودي. فهذا النموذج يجب إزالته خشية تكراره في مناطق أخرى، وخصوصاً القريبة من الرياض.

اختراق الخلاف

السبب الآخر لاشاعة النظام السعودي العداوة ازاء حزب الله لأنه نجح في تجسير فجوة الخلاف السني ـ الشيعي عبر تأييده لمنظمة حماس السنيّة ونضالها ضد الدولة الصهيونية المصمّمة على ازالة الفلسطينيين، وخصوصاً أولئك الذي يرفضون شروطها في السلام.

وكحركات مقاومة، فإن حماس وحزب الله قبلوا بأن يكونوا شركاء في الجهاد في سبيل الله، بما يدع جانباً الهويات المذهبية، فيما فشل الاسلاميون السنة والشيعة في العراق في الوصول اليه تحت الاحتلال أو قد يكون بسبب الاحتلال.

إن تضامن حزب الله ـ حماس، برعاية إيرانية، يخيف النظام السعودي لسببين: الاول، أنه يمدد مجال نفوذ بلد خصم، أي منحها موقعاً في منطقة الخليج على حساب السعودية، التي يفضي إخفاقها واعتمادها التام على الولايات المتحدة لحماية حقول نفطها الى فضحها أمام شعبها. ففي كل مرة يتعاطى الرئيس الايراني أحمدي نجاد مع الاغلبية السنية (الشارع العربي) في حال، على سبيل المثال، قدحه في اسرائيل وانكاره لمحرقة الهولوكست، فإنه يحدث إهتزازاً عبر الرياض، التي تثيره قوة بلاده، والقائمة على قدرات عسكرية وبشرية حقيقية.

السعودية تفتقر الى كليهما، بينما ينظر كثير من السعوديين الى إيران بكونها بلداً نجح في تحويل ثروتها النفطية الى قوة سياسية حقيقية، وهي حقيقة لم يفلح النظام السعودي في الوصول اليها. فلو كان كذلك، فإنها ستضع إمكانياتها الاقتصادية في خدمة القوى الاجنبية. السبب الآخر، أن خوف السعودية من تضامن الحركتين (حزب الله وحماس) يقلق النظام السعودي لأن سياسته قائمة حتى الآن على مبدأ العهد القديم: فرّق تسد.

الديمقراطيون الخطرون

السبب الثالث لعداوة الرياض لحزب الله تنبع من قبول الاخير للعملية الديمقراطية. فقد خاض حزب الله اللعبة الديمقراطية والتزم بنتائجها، فيما تمسّك بموقفه كحركة مقاومة حررّت جنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيلي. وقد طوّر حزب الله سياسة إجتماعية شاملة تتغلب على تحفّظات الاسلاميين حول البرلمانات، والانتخابات، ومشاركة المرأة في الحياة العامة، والتعايش مع الآخر، والاحزاب السياسية العلمانية. لقد قبل بمقاومة اسرائيل بالتعاون مع الاحزاب السياسية الاخرى في لبنان، وتواصل حزب الله مع الجماعات الاخرى في مجتمع تعددي مثل لبنان. وبالرغم من أن أعوانه من الناحية العملية يقصرون أنفسهم على الضاحية الجنوبية (من بيروت) التي طوّرت مؤسساتها وخدماتها المتعالقة مع الدولة، فقد نجحت في بناء جسور مع الجماعات السياسية الاخرى ليس في لبنان فحسب بل وفي بلدان أخرى.

إن هذا الجانب في تجربة حزب الله المثير لسخط السعودية، وسيحظى الاسلاميون بقبوله فحسب في حال أثبتوا بأنهم على استعداد لتنفيذ استراتيجات وسياسات اجتماعية أكثر رجعية مما هي عليه. فقد اعترف النظام السعودي بحكومة طالبان فقط لأنها عرضت النموذج الأسوأ للدولة الاسلامية ـ النموذج المتشدد، الطهراني، المفلس ـ الذي يجعل النظام السعودي وكأنه المثال المتقدم المعتدل الشرعي.

عداومة السعودية إزاء حزب الله متجذّرة في رغبة النظام لكبح جماح أي نموذج إسلامي بديل، وخصوصاً ذلك النموذج الذي يفضح رجعيتها في المستويات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية. لقد رعى السعوديون نظام طالبان لأنه نظام يمتثل رؤية العالم لدى ابن جبرين ـ وهو عالم منقسم بين الاخيار والذين يعتبروا أزلام لآل سعود، والكفار، وهم بصورة أساسية المسلمون الآخرون الذين يرفضون فكرة الاستزلام. لقد بارك علماء السعودية دولة طالبان والتي رأوا فيها مثالاً للدولة الاسلامية النموذجية. ولو لم تكن هذه الدولة خاضعة لابن لادن، لواصل النظام السعودي دعمه لطالبان.

حزب الله هو مجموعة واحدة تقدّم نموذجاً سياسياً واجتماعياً بديلاً ـ وهو بديل ليس من السهل رفضة من قبل النظام السعودي، حيث أن إسلامييه يتطلعون نحو بعض المنجزات الاجتماعية والسياسية لحزب الله، قبل أن تدّمرهم إسرائيل.

نماذج جديدة

الأكثر أهمية، فإن النظام السعودي يخشى إعادة تكرار نموذج حزب الله على أراضيه وخصوصاً في المنطقة الشرقية الغنيّة بالنفط.

وبالرغم من أن النظام السعودي توصّل الى مصالحة مع الجماعات الشيعية المعارضة العام 1993، أدّت الى عودة معظم المنفيين الشيعة من لندن، ودمشق، وبيروت، فإن انعدام الثقة، والخصومة الكامنة مازالت باقية، وخصوصاً بعد أن فشل النظام في كبح جماح أشباه ابن جبرين، الذي يواصل اصدار فتاوى تقسيمية ومتشددة ضد الشيعة.

وحتى الآن، فإن وجهة النظر الشيعية هي أن (عدو عدوي صديقي). فقد وضعوا مهاراتهم الفكرية في خدمة النظام السعودي حين أعلن حربه على الارهاب ضد القاعدة. وقد بدأ كتّابهم يشيدون بالمواطنة السعودية والشراكة، وشجب التطرف الوهابي في وقت كان النظام بحاجة الى إنزال الهزيمة في خلايا القاعدة، فكان الشيعة السعوديون مجنّدين في معركة النظام السعودي ضد المتطرفين، الذين يتموقع تطرّفهم في العقيدة الوهابية.

فقد استعمل النظام الشيعة كما هو الحال بالنسبة لمفكّرين سنة آخرين، للايقاع بخصومه. الآن، فإن هذا الخصم قد أصبح مهزوماً في الغالب، وأن النظام أعاد إحياء تحالفه المقدّس مع الوهابية المدجّنة، بعد اجتثاث العناصر المتطرّفة غير المرغوب فيها. لقد توصل الشيعة السعوديون الآن الى نتيجة مفادها أن النظام لا يمكنه التخلّص من الوهابية، وبالتأكيد لو فعل ذلك فإنه لن يقوم بذلك لحسابهم. إن عودة ابن جبرين هو دليل واضح على أن تعريف آمال الشيعة بوصفهم مواطنين مسلمين تامين قد تم تمزيقه تحت القيادة السعودية.

إن نموذج حزب الله يبقى مصدر إلهام للشيعة السعوديين، وفي الحقيقة فإن حزب الله الحجاز قد بدأ بالظهور مجدداً. مع مصالحة الشيعة السعوديين، يبدو أن هذه الحركة بدأت بالتمكين حيث جذبت أولئك الشيعة الذين رفضوا لأن يكونوا جزءاً من الاتفاق الذي تمَّ التوصل اليه في التسعينيات. وقد يتمكّن حزب الله الحجاز في المستقبل من حشد المزيد من المؤيدين، في حال توصل كثير من الشيعة الى أن النظام استعملهم في تأمين مصالح رئيسية، خارج إطار الحضور الشكلي الحالي في المجالس البلدية المحلية، وشعائر العزاء العامة الآن وفي المستقبل، وغيره. ليس هناك ما يؤدي الى إستمالة الشيعة أكثر من الاعتراف الرسمي بمذهبهم الفقهي في السعودية ـ وهو حلم سيتمنى ابن جبرين وأمثاله الموت قبل رؤيته متبنياً من قبل الائمة الصالحين، أي أمراء آل سعود. ولحد الآن، فإن العلماء قاوموا تضمين ممثل للشيعة في هيئة كبار العلماء، فيما يبقى الفقه الجعفري غير معترف به على المستوى الرسمي.

حديث الشارع

إذا كان ما يدعى بالشرق الاوسط الجديد ـ وهو مفهوم مازال في طور الكليشه ـ قد يحل تدريجياً في محل الشرق الاوسط الكبير القديم، كما صوّرته إدارة بوش، سيفضي الى موت الدولة القومية العربية مابعد الاستقلال وتشظي هذه الدولة في كانتونات مذهبية صغيرة، فإن لدى الشيعة السعوديين فرصة تحقيق حلمهم: دولة إسلامية مستقلة في المنطقة الشرقية. وقبل تطوير الكانتونات المذهبية، فإن هذه الدويلات قد تترعرع تحت غطاء الفيدرالية، اقتفاءً للنموذج العراقي الحالي. وفي هذا السياق، فإن نموذج حزب الله سيثبت بأنه نموذج جيد يحتذى.

لقد انضمّ النظام السعودي الى إسرائيل في إدانة حزب الله لأنه ليس خلية إرهابية مقطوعة الجذور تعدّ أعضاءها لتفجير أنفسهم في نيروبي، ونيويورك، وبالي أو لندن. فلو فعل حزب الله ذلك، فإن النظام السعودي وعلماء الدين قد يباركونه لدفاعه عن الأمة في قلاع المناطق البعيدة. وقد يحتمل تمويله ورعايته، حتى تلك اللحظة التي يولي الحزب إهتمامه برعاته الاوائل. حتى الآن، فإن حزب الله حارب، فوق كل ذلك، من أجل أرض شعبه. وقد نجح فيما فشلت الانظمة العربية في أغلب الاحيان خلال المواجهات مع آلة القتل الاسرائيلية.

ترى السعودية حزب الله بأنه ذراع للهيمنة الايرانية في بلد فيما تنبري عشيرة الحريري لتحقيق (سعودة لبنان). ومهما قصّرت عشيرة الحريري في تحقيق ذلك، فإن الامبراطورية المالية للوليد بن طلال وعدت بإكمال المهمة. وكما هي العادة، فإن النظام السعودي يفضّل حيازة أكثر من زبون في لحظة زمنية معينة.

وتأمل السعودية بزوال حزب الله، لأنه يؤسس للاخوة الاسلامية التي يحول النظام السعودي دونها، بالرغم من لهجة دعمه للقضايا العربية والاسلامية. ففي السابق، اجتاحت اسرائيل لبنان لاجتثاث الفلسطينيين، وقد نجحت في طرد منظمة التحرير الفلسطينية الى المنفى في البلدان العربية، ولكن حزب الله لا يمكن اجتثاثه، فقد يكسر عسكرياً ولكنه سيواصل إزعاج ليس سكان شمال اسرائيل ولكن أيضاً النظام السعودي على المدى الطويل بعد اخماد نار الحرب. إن الدعم الذي حظي به ـ حزب الله ـ في الشارع العربي، وبين السعوديين، يثير قلق الانظمة العربية التي أُعتبرت رموزاً للخيانة والخداع من قبل شعوبها. يوصّف الشارع العربي محاور شره على أنها: الثالوث المصري ـ الاردني ـ السعودي الذي وجّه اللوم لحزب الله بدلاً من اسرائيل لتدميره لبنان للمرة الثانية.

عن: www.saudidebate.com

الصفحة السابقة