السعودية شركة محدودة مرجعيتها مجلس إدارة مغلق

النظام السعودي: أمرهم سرٌ بينهم

مؤخرا اعلن الملك عبد الله بن عبد العزيز تعديلا للفقرات المتعلقة بحكم ال سعود والتي صدرت في اوائل التسعينات تحت مظلة النظام الاساسي للحكم.

شدد هذا النظام الاساسي على هوية الدولة الاسلامية واحتكامها للشرع ولكنه اكد على احتكار اسرة آل سعود للمناصب العليا في الدولة دون اي تحديد يفصل هذا الاحتكار. ومنذ يوم الجمعة 19 تشرين الاول (اكتوبر) اصبح من الممكن تحديد وتأطير هذا الاحتكار من خلال ما يسمي بهيئة البيعة.

هيئة البيعة هذه بيروقراطية جديدة ابتدعها مستشارو الملك الحالي كغطاء دستوري لما يعرف بمجلس الاسرة. الهيئة مشروع مستقبلي لا يفعل حاليا اذ ان الملك وولي عهده قد استثنيا من التطبيق فليس لهيئة البيعة صلاحية ولا دور في المرحلة الآنية ويبدأ عملها بعد رحيل هؤلاء حسب نص اصدار نظامها. تحتكر مجموعة ابناء عبد العزيز مقاعد الهيئة وكذلك ابناؤهم الذين يمثلون أبا عاجزا او متوفيا ويعتمد هذا التمثيل على من يختاره الملك. كذلك يختار الملك وولي العهد احد ابنائه. كل هذا الاختيار والتعيين يعتمد على الصلاح والكفاءة حسب معايير تغيب عن الجميع ما عدا الأب الذي يختار.

أهم ما في المرسوم الملكي الجديد ما يتعلق بكيفية اختيار ولي العهد. اذ ان الملك يقترح بعض الاسماء ومن ثم بعد التشاور يعرض الامر على الهيئة وبعد التشاور والتوافق يتم تسمية ولي عهد البلاد. وان لم يتم التوصل الي نتيجة عندها يطلب الملك من الهيئة التصويت على مرشح ولي العهد على ان يتم تعيينه خلال مدة ثلاثين يوماً.

يحضر نظام هيئة البيعة لمرحلة حرجة ستدخلها السعودية سببها كبر السن للجيل الاول من الامراء، اذ انها تنظر لهيئات طبية ومكلفة باصدار تقارير صحية في مدة قصيرة عن حالة الملك وقدرته على ممارسة الحكم، وان اقرت اللجنة حالة مرضية دائمة، يتم مبايعة ولي العهد ملكا على البلاد. وان مرض الملك وولي العهد معا (وهو امر لا يمكن استبعاده) تقوم هيئة تسمى المجلس المؤقت للحكم بادارة مصالح البلاد والعباد.

وبعد سبعة ايام تقوم الهيئة باختيار الاصلح للحكم من ابناء الملك المؤسس وابناء الابناء.

تنطوي هذه المواد المعدلة من النظام الاساسي السعودي على عدة مرافق تصب كلها في هدف واحد. الا وهو تجنب الصراع المخفي حاليا والذي لا بد له ان يظهر الى العلن يوما ما. تناقضات نظام التوريث السعودي بدأت تظهر واضحة. مشكلة العائلة السعودية اليوم تنبثق من كون التوريث ينتقل من الاخ الى الاخ وليس من الأب الى الابن. وبتعددية الاخوان ومن ثم ابنائهم نجد ان الصراع على السلطة حالة متزامنة مع نظام التوريث كان اول مشهد لها صراع سعود وفيصل في الستينات، والذي ادى الى خلع الاول وابنائه جميعا من المناصب الحساسة وقدوم فيصل وتصدر ابنائه هو للمناصب المهمة.

اليوم تعيش الاسرة هذا الهاجس، فكل أب قد ربى على الاقل ثلاثة او اربعة من ابنائه على مناصب يعتبرها هؤلاء حقا مقدسا. الهاجس الرئيسي ينطلق من خوف هذه الاسرة ان يعين احد ابناء عبد العزيز الحاليين ابنه في منصب ولي العهد، وبذلك تتم النقلة من سلطة الاخوان المجتمعة الحالية الى احد الملوك ومن ثم تحصر الولاية في نسله هو وحده مستثنيا بذلك الاجنحة الاخرى، وتتحول هذه الاجنحة الى اجنحة هامشية في المستقبل، تماما كما حصل لابناء الملك سعود بعد خلع والدهم.

وبالطبع تشدد الاوامر الملكية الجديدة على مبدأ السرية، اذ ان اجتماعات هيئة البيعة بحضور امينها المنسق والمعين من قبل الملك الحالي تبقى خلف الكواليس، وهذا هو بيت القصيد. مرة اخرى اثبت النظام السعودي ان حكم البلاد والعباد هو شأن داخلي سري لا يطلع عليه احد سوى الامين العام ومن يتولى ضبط المداولات والاجتماعات من التكنوقراط المقربين جدا في الجوقة الملكية.

هيئة البيعة بدعة جديدة ابتدعها النظام السعودي الذي يدعي انه يمثل الدولة السلفية تارة، ودولة التوحيد تارة اخرى. فبعد عقود من الترويج لما يسمي اهل الحل والعقد، والتظاهر باستشارتهم من مبدأ امرهم شورى بينهم، نجد هذا النظام بدلا من ان يتطور في مسيرة الشورى الحقيقية وليس شورى مجالس الامراء، قد تراجع الى الوراء من خلال الاعلان عن هيئة سرية تسمى هيئة البيعة.

الدولة السلفية السرية هذه ربما هي اول نمط سلفي نتعرف عليه يحصر ادارة دفة الحكم بعائلة واحدة تصبح هي وحدها اهل الحل والعقد. فلا فقيه ممثلا يرسل ابنا له ان ضرب في جسده مرض، ولا وجهاء مجتمع ولا عالم دين، بل ابناء المؤسس، وابناؤهم فقط لا غير. تستثني هيئة البيعة هذه هيئة كبار العلماء والمفتي. الدولة السلفية الجديدة تعتمد في مرجعيتها على السلف الصالح الوحيد المعترف به الا وهو جوقة ابناء عبد العزيز وأبنائهم.

نتمنى ان تأتي الدولة السلفية بنصوصها لتطلع عليها المواطنين، اذ ان مصطلح السلفية يحدد المرجعية الاولى والاخيرة ويحصرها في النص وفي امثلة جيل قديم. ولكن يبدو ان السلف الصالح السعودي الممثل على مقاعد هيئة البيعة هو المرجعية الحقيقية، فلا قرآن مقدس، ولا سيرة نبوية، ولا حتى سيرة صحابة قدامى، بل شركة محدودة مرجعيتها مجلس ادارة مغلق يحافظ على لحمته شخص تكنوقراطي قريب ولكنه بعيد، نتمنى له اسعد الاوقات في ادارة دفة البدعة الجديدة السرية، حيث ستتمخض الجلسات المستقبلية عن مفاجآت كبيرة.

لا نقيم النظام السعودي على اساس معايير غريبة نستوردها من تجارب شعوب اخرى، وانما نقيمه حسب خطابه السياسي المعلن والمؤصل في انظمته الاساسية. النظام هذا يدعي انه دولة اسلامية، ولكن لم يبق من الادعاء هذا سوى المسمي فقط لا غير. تعديلات النظام الاساسي الاخيرة تبين بشكل واضح بعد هذا النظام عن اي نمط يمكن وصفه بانه اسلامي، ناهيك عن كونه سلفياً كما يدعي بعض الامراء. اثبت النظام السعودي مرة اخرى انه نظام وراثي عائلي سري يبتدع اجراءات ومراسيم شمولية وخفية تحت مظلة الشعار الديني وهو ابعد ما يكون عن النصوص التي يزعم تقيده بها. وان كان مؤسس المملكة قد اعطى لطلبة العلم بعض الأبهة الشكلية المزيفة، الا ان ابناءه واحفاده اليوم يتجاهلون هؤلاء كليا، خاصة بعد ان سلطوا عليهم من يطعن بهم وبعلمهم الشرعي، والذين هم اولا واخيرا شركاء في صناعة الشركة السعودية المحدودة، ومكلفين بحفظها وصيانتها، خاصة في المجتمع وعند اطيافه الضعيفة.

ويبقي المجتمع مغيبا كليا، فلا مجلس منتخب، ولا هيئات مستقلة، ولا فعاليات اجتماعية، ولا مجالس استشارية تتدخل في حكم البلاد او اختيار ذوي الصلاحية والكفاءة، وتبقى معايير هذه الكفاءة سرا محصنا فوق قدرة المجتمع على الفهم والاستيعاب.

الطريق المسدود والذي تحاول هيئة البيعة فتحه يفسر حالة الشلل التامة التي رافقت شعارات الاصلاح التي طبل لها الكثيرون، والتي اعتبرت وقفة مميزة ستنتشل البلاد من الركود الذي رافق السنوات الاخيرة للعصر البائد، ولكن يبدو ان الركود وصمة سعودية مستمرة. النظام السعودي مشغول ليس بالاصلاح السياسي الحقيقي الذي يضمن نقلة نوعية من الاستبداد والشمولية الى الانفتاح والمشاركة السياسية بل هو مشغول بكيفية توزيع الارث والمحاصصة في شركة مغلقة وليس ملكية دستورية كما حلم البعض. نظام هيئة البيعة الجديد ليس الا سلفية تستند على نصوص ربما منها أمرهم سر بينهم، ومرجعيتها نظام الشركات الاسرية الخاصة والمحدودة.

القدس العربي، 1/11/2006

الصفحة السابقة