إني أتهم

منصور النقيدان

في شهر يناير/ كانون الثاني عام 2003 سألني ضابط في المديرية العامة للمباحث في الرياض عن حقيقة ما أشيع عن كوني أنا كاتب مذكرات ‘’تجربتي مع المطاوعة في الرياض’’ التي نشرت في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 باسم (التائه)، وحسب ما أفصح لي ساعتها فإن كاتب المذكرات أشار إلى محاولة بعضهم القيام باغتيال أستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كان قد نشط عبر خطبه ومحاضراته في التسعينات ضد ما أسماه الإسلام السياسي، وأن الجهات الأمنية ترغب في معرفة حقيقة ما ذكره لأن الشخص المستهدف كان قد أبلغ السلطات سابقاً عن تعرضه لمحاولة اغتيال بعد خروجه من المسجد الذي يؤم فيه بالدرعية بعد صلاة الفجر، وأن الأجهزة الأمنية كانت متشككة حينها في حقيقة ما ذكره وأن ذلك ربما كان بقصد الإثارة والدعاية!

شتاء 1992 توقف أحدهم بسيارته أمام مبنى معهد الإدارة العامة في الرياض، تريث قليلاً بانتظار خروج سيارة مدير المعهد الأسبق محمد الطويل، وحينما مر قريباً منه حرك سيارته وتبعه، فقد رشحته لتلك المهمة خبرته في مجال الحسبة وسنوات طويلة قضاها في المراقبة والترصد، حيث كان يومها نائباً لمدير أحد مراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العاصمة الرياض، وكان على صاحبه هو الآخر أن يتكفل بتوفير قناصة مع كاتمها وتنفيذ عملية الاغتيال.

منذ ألقى الشيخ عبدالرحمن الدوسري (ت 1979)، محاضرته الشهيرة في معهد الإدارة في السبعينات الميلادية، وتكراره الحديث عنه لاحقاً في مجالسه وفي مواعظه ووصفه له بأنه أحد معاقل الماسونية، أصبح المعهد بعدها والعاملون فيه رمزاً للشر، غدا المعهد في نظر كل من تطوَّع والتحى رمزاً لطاغوت النظم واللوائح والقوانين وهيكلاً لياسق عصري ينتهك حرمة الشريعة في بلد الإسلام.

لم تنفذ عملية الاغتيال لأسباب لاعلاقة لها بقناعة المنفذين، وإنما لأسباب فنية ولانشغال كل واحد منهما بعد ذلك بأموره الخاصة وبأنواع أخرى من الاحتساب، تشمل مع مجموعة من المتطوعين التواطؤ مع مهندسين في (وزارة البرق والبريد والهاتف) يسهلون مهام التجسس على مسؤولين مدنيين ومديري عدد من الدوائر الحكومية في عدد من المدن السعودية ومحاولة الإيقاع بهم في اتصالات معاكسة وغيرها، ثم اقتيادهم صاغرين إلى مراكز هيئة الأمر بالمعروف، حيث يقوم عضو واحد من الهيئة برفقة مجموعة من المتطوعين بتقييد المتهم والتحقيق معه، استمر هذا النشاط الذي كان يمنح أبطاله نشوة السلطة سنتين حتى أوقعت بهم أجهزة الأمن أكثر من مرة.

وبلغ الأمر ذروته بعد أن تولى مهام رئاسة هيئات الأمر بالمعروف في القصيم أوائل التسعينات شخصية تتمتع برؤية مختلفة، ضخت دماء جديدة وأسبغت على عمل الهيئة روحاً لا تمت إلى ماضيها بصلة، وقامت بإقصاء الشيوخ والكهول الذين كانت معظم جهودهم منصبة على التذكير بالصلاة عند سماع الأذان بين المتاجر، والصياح على امرأة أظهرت ذراعها أو رفعت ذيل عباءتها على غير العادة، ولأن عدداً من المدن كانت تتبع نفوذه فقد قام بمنح أشخاص متطوعين لا يعملون في الهيئة، صلاحيات تخولهم التحقيق في أي واقعة عبر مساحة تمتد لثمانين ألف كم.

وإذا تحقق صدق ما يتناقله إعلاميون وألمح إليه بعض المسؤولين السعوديين في الأيام القريبة الماضية، فإن إيقاف الرئيس الأسبق لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقصيم قبل أسبوعين جاء إثر تورطه في الدعم المالي بملايين الريالات لأشخاص قاموا بتفجيرات داخل البلاد وعمليات اغتيال لرجال أمن، المفارقة تكمن في أنه حاصل على الماجستير في العدالة الجنائية!

ما هو أكثر أهمية من كل ما ذكر أن نتحلى بإيمان عميق أن تساؤلاتنا التي تتعاظم كل يوم عن مستقبل هذا الجهاز وعن تفسير مقنع لسر بقائه مطلق اليد يعيث في الأرض فساداً واعتداءً على الناس، وتشكيكاً في شرف نسائهم، هي تساؤلات مشروعة تمليها علينا سعوديتنا ووطنيتنا قبل كل شيء، كما أن خوفنا على أرواحنا واستقرار بلدنا هو الذي يجعلنا نطرح السؤال الكبير: كيف يستطيع السعوديون أن يأمنوا أشخاصاً أصبح من العسير الشعور بالأمان معهم أو الثقة بهم؟

إن القيام بأشياء عملية توحد جهود كل أولئك المهانين الذين لم يجدوا آذانا صاغية لنداءاتهم هي أن يسعى كل واحد منهم إلى توثيق كل ما يواجهه من اعتداء عبر التصوير أو التسجيل الصوتي أو التدوين، وأن يشجع بعضهم بعضاً على الحديث بصدق عن تجربته تلك وتنشر في موقع على الإنترنت بأسماء كتابها الصريحة من دون خوف أو تردد، لأنهم حينها لن يشعروا بالعزلة ولن يجدوا أنفسهم يواجهون الضغوط الهائلة وحدهم، كما أنها سوف تساعدهم على تجاوز الآثار النفسية المدمرة بعد تجربتهم المؤلمة.

قد لا يتمكن أفراد أو جماعات صغيرة واعية تماماً لخطورة الحال من تغيير الأوضاع، ولكن من المهم بمكان أن يكرروا السؤال الكبير على أنفسهم مع كل مغيب شمس يوم أسدل الستار فيه على مأساة جديدة: لمن سيمنح السعوديون ثقتهم؟ لهيئة تتدرع بفتاوى تشجع تجاوزات أعضائها المتعمدة وانتهاكاتها لخصوصيات الآخرين حد الإذلال، أولئك الذين يأبون التعايش مع مسلمين يؤمنون مثلهم بالله ربا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً لأنهم يتبعون مذهباً فقهياً لا يعرفونه إلا بالاسم، أم ستكون ثقتهم بأولئك الذين يريدون لهم أن يعيشوا أسوياء ملؤهم الثقة بأنفسهم وبأولادهم، وأن يعيشوا بسلام مع جيرانهم ومجتمعهم يتمتعون بالحرية نفسها التي يحظى بها الآخرون، آمنين على عقائدهم ممارسين لشعائرهم كيفما كانت. فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟

عن (الوقت) البحرينية، 24/6/07

الصفحة السابقة