(الهوية السعودية) والوحدة الوطنية

حمزة قبلان المزيني

يجد الملاحظ للمشهد الوطني السعودي أن قدرا كبيرا من التجانس قد تحقق بين المواطنين السعوديين في العقود الثمانية الماضية. ويمكن الإشارة هنا إلى بعض مظاهر هذا التجانس. فمنها ما يبدو تجانسا كليا في ملابس الرجال في المملكة (ولن أتحدث عن النساء!) فقد اختفت التنوعات المحلية لألبسة الرجال التي كانت تميز كل منطقة، بل كل مدينة وإقليم، وصار السعوديون جميعا ـ تقريبا ـ يلبسون قطعا من الملابس متشابهة؛ فهم يلبسون الثوب الطويل المفصَّل بطريقة تتميز عن الطرق التي تفصل بها الثياب في العالم العربي، بل في منطقة الخليج كذلك، ويعتمرون الغترة (أو الشماغ) بطريقة معينة ويلبسون العقال بطريقة يختلفون فيها عن غيرهم.

وهناك تجانس في الطعام الذي يأكلون؛ إذ اختفى كثير من ألوان الطعام المحلية، واقتصر ظهورها على المناسبات، وشاع ـ في مكانها ـ قائمة طعام تكاد تكون واحدة تتوسطها (الكبسة) بشكلها المعهود، والأمر نفسه في القهوة والشاي. وشاعت طريقة واحدة في بناء المنازل، ما كان منها لسكن أسر متعددة، كالعمائر، وما كان منها خاصا على طريقة الفلل (وأظهر ما تتميز به الفصل بين مداخل الرجال ومجالسهم ومداخل الحريم ومجالسهن!).

أما الأسباب التي أدت إلى هذا التجانس فيأتي على رأسها الاستقرار السياسي لفترة طويلة وهو ما أسس لنظام تعليم موحد. وأدت المناهج الموحدة إلى غرس قيم وطنية واحدة تقريبا في نفوس الطلاب على تنوع انتماءاتهم. ومنها النظام الموحد الذي تعمل بموجبه الأجهزة القضائية والتنفيذية والإدارية.

لذلك كله، لن يخفى على الملاحظ للشأن العام في المملكة هذا القدر الكبير من التجانس بين المواطنين السعوديين. فلا تكاد تميز واحدا عن آخر من حيث الشكل الظاهري (أستثني هنا الذين ينتمون إلى المؤسسات الدينية لمختلف المذاهب في المملكة؛ فهم يختلفون في لباسهم الرسمي).

ومع هذا القدر الكبير من التجانس إلا أن هناك ما يدعو إلى التخوف من بعض العوامل التي يمكن أن تقود إلى إضعافه، وهو ما سيؤدي ـ لا سمح الله ـ إلى إضعاف الوحدة الوطنية.

وأعتقد أن هناك خطرا حقيقيا يتهدد هذه الوحدة الوطنية ينبع من القصور في فهم ماهية (الهوية). فعلى الرغم من التجانس الذي يصل إلى حد التماثل في كثير من مظاهر الحياة في وطننا إلا أننا لم ننجح إلى الآن نجاحا كبيرا في استثمار هذا التجانس في تكوين 'هويةب نتجاوز بها الانتماءات المحلية الضيقة.

فلا يزال كثير منا يرى أن الهوية المحددة له تنبع من هذه الانتماءات قبل ـ الوطنية، على الرغم من الاعتراف الذي يكاد يجمع عليه بوجود (هوية) واضحة يمكن أن توصف بـ (الهوية السعودية). وتكمن العوامل التي تؤدي إلى إخفاء هذه الهوية في الأسبقية التي يوليها هؤلاء لـ(هوياتهم) الخاصة على (الهوية) الوطنية الجامعة.

وإذا ما استعرضنا هذه (الهويات) الخاصة فإننا نجد أن الشعور بالانتماء إلى إقليم معين كان ـ ولا يزال ـ واحدا من العوامل المفرِّقة. فلا يزال كثير من المواطنين ينظرون إلى انتمائهم إلى إقليم معين على أنه من أوضح (الهويات) التي تعرِّفهم أو (تميزهم) عن غيرهم وهو مقدَّم على غيره.

وربما يتبع هذا الانتماء الإقليمي بعض (المنافع) التي يجنيها بعض المنتمين في التوظيف أو الأولوية في تولي الإدارة حتى في المناطق التي لا ينتمون إليها. والمؤكد أن هذا الاستئثار لا تقرُّه الأنظمة التي وضعتها الدولة ولا ترضى عنه القيادة السياسية التي تجعل في رأس سلم أولوياتها المساواة بين المواطنين ـ على اختلاف المناطق التي جاؤوا منها ـ في الحقوق والواجبات؛ لكن هذا الواقع لا يخفى على المتضررين منه.

ولم تقض (الهوية السعودية) الجامعة على بعض مظاهر التمايز الطبقي والقبلي التي ربما تصل حدود العنصرية، أو التهوين من وجودها. ويعرف القارئ الكريم بعض تلك المظاهر التي كانت وراء إثارة بعض القضايا الخاصة بكفاءة النسب في المحاكم، خلال السنين الماضية القريبة أو التفاخر بالانتماءات القبلية.

ويأتي في مقدمة (الهويات) التي تتهدد (الهوية السعودية) الجامعة تلك الهويات التي تتصل بـ (الهوية المذهبية). فلا يزال هذا العامل واحدا من أهم العوامل المثيرة للنسيج الاجتماعي. ومن الملاحظ أن ما يسمى بـ (الصحوة الإسلامية) التي غمرت الوطن خلال العقود الثلاثة الماضية لم يقتصر مدها على (التيار السلفي) المهيمن بل تعدته إلى المذاهب الإسلامية الأخرى التي ينتمي إليها بعض المواطنين السعوديين.

ونشأ عن هذه الظاهرة محاولة المنتمين إلى كل واحد من الانتماءات المذهبية الإعلان عن نفسه ودعوة أتباعه إلى البحث عما يميزهم عن غيرهم. ومن مظاهر هذه (الصحوة) هذا (الصخب) الذي نجده في المنتديات التي تتبع هذه الانتماءات في فضاء الإنترنت.

ومن المؤكد أن كل واحد من هذه الانتماءات يعمل على إشهار صوته والزعم لأتباعه بأنه الوحيد الذي على الحق وأن المذاهب الأخرى ليست إلا مبتدعة أو ضالة. وربما وصل التنازع إلى حد القطيعة بين أتباع هذه الانتماءات.

ومن المؤكد أن قدرا كبيرا من (المسؤولية) يقع على (التيار السلفي) المهيمن الذي كان بإمكانه أن يحد من هذا التنازع لو أنه لم يقع ضحية لـ (الصحوة) التي كان من مظاهرها (المفاصلة) السياسية مع الآخرين.

ويرى أتباع الانتماءات المختلفة أن (الشراكة) في الوطن تقتضي أن تحترم كافة الفئات الاختيارات العقدية والفقهية لغيرها. ولا تزال هذه الشكوى قائمة ويمكن أن يلمسها كل من يلتقي بالمواطنين السعوديين الذين ينتمون إلى تلك الانتماءات. ولا يمكن النظر إلى هذه الشكاوى باستخفاف؛ فهي تقوم على واقع يمكن أن يشعر الملاحظ بمرارته إذا ما وضع نفسه في موضع أتباع هذه التيارات.

وللحد من خطورة هذا الوضع يجب علينا جميعا أن نبحث عما (يجمعنا) في ظل هذا الوطن الجامع. ومن المؤكد أن هناك كثيرا من الأمور التي يمكن أن تؤدي بنا إلى هذه المواطنة الحقة. وأول العوامل التي يمكن أن تعالج هذا الوضع أن نحترم ـ جميعنا ـ اختيارات الآخرين المذهبية مادام أنها تعلن انتماءها للوطن.

ويمكن أن نبدأ في معالجة هذا التنافر (المذهبي) بتجريد المناهج الدراسية من المواقف التي يمكن أن تُفهم على أنها (تتعالى) على المذاهب الإسلامية الأخرى أو (تبدِّعها) أو (تكفِّرها)، وصياغة هذه المناهج بطريقة تجعلها عوامل مؤلِّفة غير مفرِّقة وذلك بقصرها على ما يجمع بين المسلمين من المشتركات والتركيز فيها على الأخلاق الإسلامية بدلا من الاهتمام الزائد بتفصيلات عقدية وفقهية ينبغي أن يتعلمها الطلاب والطالبات في بيوتهم.

ولو خلِّصت المناهج ـ في أقل التقدير ـ من التركيز على رسم الفوارق بين التيار السلفي والاختيارات المذهبية الأخرى لكان هذا أكبر عامل في القضاء على مظاهر الشحناء التي تنخر في وحدتنا الوطنية التي بناها المؤسسون بجهد جهيد، ولكنا عززنا التجانس الواضح بغرس المواطنة القائمة على الشراكة الحقيقية في الوطن الواحد.

الوطن، 22/11/2007

الصفحة السابقة