زيارة أبو الغيط لبيروت وزيارة كرامي الى القاهرة

هل تصلح مصر ما أفسدته السعودية فى لبنان؟

أسعد الخوري

منذ زمن بعيد، لم تكن زيارة مسؤول مصري إلى لبنان تحتل الموقع الذى احتلته زيارة وزير الخارجية أحمد أبو الغيط، علماً بأن للقاهرة حضورها الخاص فى بيروت منذ الرئيس عبد الناصر، والجميع يعرف دورها فى دعم وصول رئيس الجمهورية الحالي ميشال سليمان إلى القصر الرئاسى فى بعبدا.

(كبح الجماح) هو العنوان الذى يلخّصه متابع معنيّ للحركة المصرية فى لبنان، ويقصد أن القاهرة تنظر بقلق كبير إلى ما يجرى الآن فى لبنان، وتشعر بأن الخلافات السياسية الداخلية، والتعقيدات المتصلة بالوضع الإقليمي وطبيعة العلاقات العربية - العربية، من شأنها تعقيد الأمور أكثر فى لبنان، وبالتالى فإن المطلوب لمنع الانفجار الشامل هو كبح جماح كل الأطراف المتورّطين فى الأزمة اللبنانية الحالية، ومن دون أن يتوغل كثيراً فى الشرح، وترى مصر أن هناك سلوكاً سعودياً غير موفق، ومن دون مقدمات إضافية أو حرج. يضيف صاحب هذا الرأي: إن من يفكر فى الاتكال على المجموعات الأصولية لتحقيق مكاسب سياسية مخطئ تماماً، ومصر تعطي دروساً فى هذا المجال، وهي سوف تكون على خلاف مع أى جهة فى العالم تحاول إقامة تحالفات علنية أو مستورة مع الأصوليين.

لكن الأمر قد لا يكون على هذه الصورة فقط، إذ إن ما تراه مصر مناسباً للبنان اليوم، قد لا يكون هو نفسه ما تراه سوريا أو السعودية، هذا قبل أن يكون مناسباً لما يراه اللبنانيون أنفسهم، ولا سيما أن ما يعرف بـ(الانطباع) عن موقع مصر من الصراعات القائمة، لا يقدمها كطرف محايد، أو له مسافات متساوية من أطراف الأزمة الداخلية، كذلك فإن مصر تتخذ موقعاً سياسياً فى العالم العربي يجعلها أقرب إلى التحالف المتناغم مع السياسة الأميركية فى المنطقة، وهي لم تقدم حتى اللحظة نموذجاً يعطيها مكانة متقدمة تسمح بتحولها إلى قطب يلجأ إليه الجميع، ولذلك فإن الحذر والخشية والتحسب من أي خطوة مصرية الآن فى لبنان ستكون أمراً حقيقياً وجزءاً من جدول أعمال قسم كبير من القوى ومن الجمهور أيضاً. وهذا ما يعكس النقاشات التى ستقوم من الآن فصاعداً حول ما تنوي مصر القيام به. لكن ماذا تريد مصر الآن؟

فى ظاهر الأمر، وكما يقول مطّلعون، فقد أنشئت لجنة من القيادة المصرية لمتابعة الوضع في لبنان، وعقدت سلسلة من الاجتماعات وناقشت كمية من التقارير المتنوعة حول الأوضاع الأمنية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والطائفية والمذهبية، مع قدر وافر من التقارير ذات الطابع الاستقصائي، حتى لا يقال الاستخباري، بما يمكّن من توفير قاعدة بيانات صالحة لتحديد التوجه واتخاذ القرار.

وحتى وقت غير بعيد، كانت القاهرة تشعر بأن هناك إمكاناً لمعالجة الأزمة من خلال حوار لبناني - لبناني. لكن حوادث مايو الفائت جعلتها تفكر بالأمر من زاوية مختلفة، وما حصل من تداعيات حتى اليوم، يجعل مصر بحسب مطّلعين على وجهة نظر رسمييها، تتخذ موقعاً إلى جانب ما اتفق عليه فى الدوحة، وهو أمر تعدّه اليوم من ثوابتها، وترى أنه لا يمكن تجاوزه، وأن محاولة التنصل منه والاستمرار فى منطق المواجهة ستجعل صورة ما يجري فى طرابلس صورة عامة عن كل لبنان.

لم تكن القاهرة توافق السياسة السورية فى لبنان، وهي وإن حافظت على تواصل ولو بالحد الأدنى أو عبر مسارب أمنية أو سياسية من خلال لبنانيين، فإنها لم تتعمد استفزاز دمشق، ومع أن سوريا لم ترتح لمقاطعة الرئيس المصري القمة العربية الأخيرة، إلا أنها لم تبادر من جانبها إلى فتح معركة مع القاهرة، لكن سوريا عبّرت بطرق مختلفة عن رفضها للموقف المصري الذى يحمّلها بشكل أو بآخر القسم الأكبر من المسؤولية عما جرى فى لبنان. لكن تبدو القاهرة أخيراً، مضطرة إلى مراجعة لمقاربتها الملف اللبناني، بعدما شعرت بأن حليفتها السعودية دخلت عنق الزجاجة، ولامست حد الخطر بمبادرة جهات فى السعودية سياسية وأمنية ودينية إلى طرح شعار الاتكال على الأصولية لمواجهة ما تعتبره الرياض أعداءها وأعداء حلفائها فى لبنان.

كرامي ومبارك: دور سعودي فاشل ومدمر

وهو ما دفع بالقيادة المصرية، بحسب أكثر من مصدر، إلى لفت انتباه الجهات المسؤولة فى السعودية إلى مخاطر خطوة كهذه، وتنبيه هؤلاء بأن المجموعات التي تتقاتل فى شمال لبنان تحظى بدعم وتمويل من جهات كثيرة، من لبنان ومن خارج لبنان لا من طرف واحد فقط.

ولأن طرابلس تمثل بالنسبة إلى المصريين حجر الزاوية فى الملف الخطر الذى يحدق بلبنان الآن، وجدت القيادة المصرية أن فكرة التواصل مع الجميع تتطلب مقاربة مختلفة تنطلق من الشمال، وكان التواصل مع الرئيس عمر كرامي، الذى يمثّل بالنسبة إلى المصريين عنواناً حقيقياً لا مفتعلاً، كما يمثل نقطة تماس مع جميع الأطراف ولا يمكن التعامل معه أو تصنيفه وفق قواعد فريق 14 آذار فى لبنان، علماً بأن المصريين كانوا يعرفون أن كرامي سيقول أمامهم ما يراه منصفاً بحق الجميع، وهو لا يبدو فى موقع من يمكن تعريضه لعملية إغواء أو إغراء من النوع الذى ينقله من موقع إلى موقع، برغم أنه قال هذا الكلام بصراحة شديدة خلال لقاءاته المختلفة في مصر والتي توّجها مع الرئيس حسنى مبارك.

وبحسب المتابعين فإن مصر التي تدرك خطورة المشكلة السعودية - السورية ترى أنها غير قادرة على المبادرة الآن، ويرى محللون ان القاهرة عاجزة عن لعب دور فعال فى بيروت بدون رضى وضوء أخضر من دمشق.

وقد أثار المسؤولون المصريون مع كرامي الأمر من زاوية ما يجرى فى الشمال، وهو قدم إجابات بطريقة واضحة: هذه المعركة تتطلب أكلافاً كبيرة، ولنفترض أن بعض المجموعات الحليفة لسوريا تلقت منها الدعم، فهل لي أن أعرف هوية من يتولى تسليح الآخرين وتمويلهم؟ نعم هناك دور سعودي فى هذا الجانب ويجب الإقرار به. ولذلك - تابع كرامي - أرى أن من الواجب التعامل بواقعية مع ما يجرى عندنا.

فسوريا دولة قوية ولها نفوذها القوي، ومن يفكر فى تجاوزها أو العمل ضد مصالحها فلن ينجح في شيء، والأكيد أن مصر يجب أن تؤدّي دوراً مركزياً ومكثفاً فى ترتيب العلاقات بين سوريا والسعودية، وهذا سيكون له تأثيره الإيجابى الكبير.

يبدو أن كرامى سمع من بعض من التقاهم كلاماً لا يجعله متفائلاً بإمكان حصول شيء كبير على هذا الصعيد، ما اضطره إلى إثارة الأمر بوضوح أكبر مع الرئيس المصري وطالبه بأن يبذل جهداً شخصياً فى هذا المجال، وهو انتزع منه موقفاً فى هذا الإطار يفيد بأنه سيقوم بما يراه مناسباً وبسرعة كبيرة.

وهذا الأمر توضحه جهات مطلعة على الموقف المصري قائلة إن الاتصالات مع سوريا قائمة، وإن هناك جهوداً كبيرة لترتيب الأمر بينها وبين السعودية، ولكن يجب الانتباه إلى أن المشكلة بين الجانبين معقدة جداً، وهناك جوانب شخصية لها تأثيرها أيضاً، وحتى فى القاهرة هناك من يوافق السعوديين على بعض الملاحظات.

وأكثر من ذلك، فإن كرامي بدا حريصاً على مصارحة القيادة المصرية بما لا يمكن أن يسمعوه من آخرين، وقال لهم صراحة: (نحن نتفهم سعى البعض إلى توحيد موقف القادة السنّة فى لبنان، لكن ذلك لا يمكن أن يتم تحت عباءة سعد الحريري، وهذا أمر لا يمكن القبول به، كما لا يمكنني أنا أن أقبل بتوحيد السنّة فى مواجهة الشيعة، بل أرى أن عليهم التوحّد خلف عنوان المقاومة وخلف عنوان حماية الدولة وإعادة بناء هذه الدولة).

وحسب المطلعين فإن كرامي سمع من محدثيه المصريين أجوبة صريحة من نوع (نحن لا نريد سوى تعزيز الحوار، ومصلحتنا فى الحوار لا فى القتال بين السنة والشيعة). أما فيما يخص الموقف من زعامة الحريري فإن كرامي سمع كلاماً واضحاً أيضاً مفاده (نحن نتعامل معك كقوة قائمة بحد ذاتها كما نرى الحريري كقوة قائمة بحد ذاتها، كما نتعامل مع الرئيس فؤاد السنيورة كقوة مستقلة أيضاً، ونحرص على التواصل معك).

ومع أن كرامي شعر بأن مصر مهتمة بالتواصل مع سوريا لكنه انتبه إلى أنها غير مهتمة كثيراً بالتواصل مع إيران، رغم أنه حمل على ما يبدو وجهة نظر مصرية فى ما خص سلوك إيران في لبنان والمنطقة، ومن الممكن أن ينقله إلى طهران التى يزورها حالياً، لكن المطلعين على وجهة النظر المصرية يعتقدون بأن الأمر ليس على هذا النحو، وأن التواصل المصري - الإيراني قائم، ولكن هناك خلافات عميقة بين الطرفين فى ما خص أموراً كثيرة ليس أقلها ما يجرى فى العراق، وهو أمر لا ينسحب بالضرورة على موقف مصر من حزب الله فى بيروت، برغم أن العلاقة بين الجانبين شهدت تحسناً فقط منذ فترة وجيزة، وحسب ما هو وارد فى تقارير عن زيارة أبو الغيط إلى بيروت، فإنه كان صريحاً مع الوزير محمد فنيش، إذ إنه أراد أن يكلمه (بشكل جدي) يعبّر عن رغبة فى التواصل والنقاش حتى مع وجود خلافات، ولذلك حرص أبو الغيط على افتتاح لقائه بوزير حزب الله بإبلاغه عتب القاهرة ورفضها لما جرى من أحداث فى مايو الماضي في بيروت، وكان رد فنيش بتوضيح الموقف من زواياه المختلفة، وتركيزه على أن كل ما جرى ما كان ليحصل لولا سلوك الفريق الحاكم فى لبنان الذى كان يمكن أن يبقى لسنوات طويلة رافضاً مشاركة الآخرين فى إدارة البلد. لكن الوزير المصري كان حريصاً أيضا على إثارة موضوع اللقاء (الضرورى والملحّ) الذى يجب أن يتم فى أسرع وقت بين السيد حسن نصر الله والنائب سعد الحريري، وهنا أيضاً رد فنيش بتوضيح أن الرفض يأتي هذه المرة من جانب الحريري لا العكس، وتأكيده أن حزب الله معني وصاحب مصلحة فى إعادة التواصل مع الجميع وفي المقدمة مع الحريرى وتياره السياسي.

ومع أنه لم يكن متوقعاً أن يتحدث الوزير المصري فى زيارته القصيرة عن الجوانب الاستراتيجية من دور حزب الله، فإن المطلعين على موقف القاهرة، لا ينفون انطباعات بعض زوار القاهرة عن (استخفاف بعض المسؤولين المصريين بما أنجزته المقاومة فى مواجهة إسرائيل فى حرب يوليو 2006).. إلا أن هؤلاء يلفتون الانتباه إلى أن (في مصر من تابع بدقة شديدة تفاصيل هذه الحرب ونتائجها وتداعيتها بخلاف ما قام به كثيرون حتى فى لبنان).

إلا أن ما حققته زيارة الوزير المصري، بدا فى مرحلته الأولى مقتصراً على إطلاق مرحلة جديدة من العلاقة المصرية مع ملف بهذه الحساسية، لكن الكل يتعامل مع المبادرة على أنها إشارة أولى إلى فشل السياسة السعودية التى اتّسمت بها السنوات الثلاث الماضية، والتي أدّت إلى تراجع نفوذ المحور الذى يضمّها ومصر، فى هذا البلد، وإذا كان بمقدور القاهرة الحد من الخسائر، فإن ثمن خطوة كهذه يتطلّب ابتعاداً عن كل الانحياز الذي تمارسه الرياض، والذي وصل فى المرحلة الأخيرة إلى التورط فى لعبة التجاذب حتى فى بعدها المذهبى والأمني، وهو الأمر الذى من شأنه أن يثير حفيظة دمشق التى لم تكن تقبل أن يتمركز خصومها فى قلب بيروت ويطلقوا عمليات التحريض ضدها، وهي لن تقبل أن يلعب أحد بالنار بالقرب من حدودها بقاعاً أو شمالاً.. فهل تصلح مصر ما أفسدته السعودية؟

جريدة العرب اللندنية، 6/9/2008

الصفحة السابقة