دين (المستعبِدين) وعلاقة الديني بالسياسي في السعودية

الدكتورة مضاوي الرشيد

تظل العلاقة بين الدين والسياسة مبهمة وغامضة رغم تفرغ الكثير من الدارسين والمحللين لتفسيرها وتسليط الضوء عليها، ورغم اختلاف التفسيرات حسب منطلقاتها ومنهجيتها وآيديولوجياتها الا ان هناك اجماعا على كون هذه العلاقة حرجة ومتعددة الوجوه والمسيرة حسب الحقبة التاريخية المحددة، وتتأرجح العلاقة دوماً بين تصادم وموالاة بين القائمين على المجالين السياسي والديني.

عادة يطلب السياسي من الديني الرضوخ التام للأجندة السياسية، بل وايضاً صياغة الخطاب المشرعن للسياسة، وتأصيل هذا الخطاب في نصوص دينية وتفسيرات تعرض وكأنها كلمات مقدسة وليس صناعة بشرية قائمة على الاجتهاد والاستدلال وغيره من وسائل الاستنباط، وهذا ما يجعل السياسي يستميت في السيطرة على الديني حتى يضمن نشوء طبقة دينية موالية ومستعدة لأن تنبش مراجعها بحثاً عن الصياغة التي تضمن استمرارية السياسي والشرعنة له.

أما من جهة الديني، فهو بحلفه مع السياسي يضمن الحفاظ على مصالحه الدنيوية قبل الدينية، وان كان شغله الشاغل احياء الدين، والحفاظ على فضيلة المجتمع، واقامة الحدود فيه.

في مجتمع كالمجتمع السعودي بتركيبته السياسية الحالية تبقى هذه المعادلة بين السياسي والديني مطبقة بحذافيرها، رغم ان التصادم بين السياسي والديني كان قد رافق تطور الدولة منذ نشوئها. طبعاً لا يخلو الأمر من صدام، وحتى من عنف حاد، لكن هذه تعتبر حلقات تستطيع السلطة ان تتجاوزها، تماماً كما حصل خلال نقاط ساخنة في تاريخ العلاقة بين السلطتين السياسية والدينية.

الموالاة والصدام وجهان مختلفان، لكنهما يولدان نتيجة رغبة السياسي في حصر الديني والتضييق عليه، فيولد هذا الحصر والحجر حركات معارضة تحاول ان تهرب من التسلط السياسي، وتنفض عنه نتيجة قراءة معاكسة لنفس النصوص التي تستعملها السلطة الدينية الموالية في مجملها.

العلاقة السعودية الحرجة بين السياسي والديني تولد ايضاً صراعات جانبية يدور رحاها في طيات الديني ذاته، حيث تتصارع الشخصيات في ما بينها بحثاً عن شهرة ومنصب او جماهير تحترمها وتتبع أثرها الفكري. وتدخل الشخصيات الدينية في مرحلة مزايدات وتنافس، إما على التقرب من السلطة او التقرب من الجماهير، وقد ازدادت عملية التنافس هذه في عصر العولمة والفضائيات، فوجد طيف كبير من الشخصيات الدينية عالم الشهرة ذات الحدود البعيدة، مرتعاً جذاباً لشد الكثير من المستمعين والمشاهدين والقارئين. ومما يزيد التنافس: حدة وجود السياسي ذاته، والذي ينشئ حلقات للولاء والمكافأة عن طريق استقبال الديني في المجالس والاستماع لرأيه ولو من باب رفع العتب، وعن طريق اختراع المناصب والألقاب في بيروقراطية دينية همها الأول إحكام السيطرة على الديني وربطه بالسلطة بطريقة تجعله اكثر طواعية وليونة.

من تداعيات تدخل السياسي في الديني ومحاولات السيطرة عليه، نجد ان السعودية فعلاً قد دخلت مرحلة الانفصام الديني، بين دينين يعتمدان مصدراً واحداً، لكن لكل منهما خطاب وأولويات مختلفة تماماً عن الآخر. نشأ عندنا في السعودية ما يصح تسميته بدين (المُستعبِدين/ بكسر الباء)، وهو خطاب ديني يمثله صالح اللحيدان، صاحب فتوى قتل اصحاب الفضائيات الماجنة، ومؤخراً فتوى تحريم الاعتصامات والمظاهرات المساندة لمعاناة اهل غزة في حربهم الحالية مع اسرائيل. وهاتان تمثلان بشكل واضح وصريح اتجاهات دين المستعبدين، حيث ان الأولى تبرهن على انحسار وتقلص السلطة الدينية وقدرتها على تغيير مجرى الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية العامة، وتقوقعها في مجال حراسة الفضيلة العامة والخاصة للمجتمع. اما الفتوى الجديدة ضد الاعتصامات على اساس انها مفسدة للبشر والهاء عن ذكر الله، فهي ايضاً دليل واضح وصريح على استعباد الدين من قبل السياسي وتدجينه وحجره في جحر يجعله مهزلة ومضحكة للجمهور العربي الغاضب.

دين المستعبدين هذا هو ايضاً مشغول بالسحر والشعوذة، ومستعد ان يعلن الجهاد بجميع انواعه، ويرابط على ثغور المشعوذين والسحرة وغيرهم من اصحاب البدع والشركيات الكبيرة والصغيرة، ناهيك عن تتبع النساء وترصد ايماءات اجسادهن، وتتبع نعالهن، وملاحقة عطورهن التي تختلط في اسواق حديثة وقديمة.

دين المستعبدين هذا قد ولد نتيجة التسلط السياسي، ومحاولة تدجين الدين تحت مظلة هيئات ولجان وبيروقراطية كبيرة، تضمن انتشار الخطاب وممارسته على ارض الواقع.

لا يلتفت دين المستعبدين الى مهرجانات الوطن، ومزمار المطبلين لأعياد تقدس ولاة الأمر، ودورهم التاريخي، ولا الى عرضات راقصة تختلط فيها اصوات الطبول مع اصوات الولاء للهيمنة الخارجية، ولا يعترض دين المستعبدين على ألسنة تبتهل لغير الله او تلحن لحن الخنوع والموالاة، ولا على حشود كرة القدم وجمهورها الكريم، وعملية الاستهلاك التي تقوم بها اندية ارتبطت بأسماء السياسي واحفاده الصغار.

كل هذا ليس بفساد، وليس بالهاء عن ذكر الله، وكيف يكون ذلك وقد قرر السياسي في سياسته الاجتماعية ان يتلهى الشباب بمثل هذه الممارسات الرياضية الجذابة، ويتركوا ما لقيصر لقيصر؟. اما الجهاد، الكلمة المحرمة، فهو ايضاً ممنوع الا تحت شروط تعجيزية يبت في امرها سلطان الأمة وخليفة المسلمين فقط لا غير، بعد مناقشات مستفيضة في البيت الابيض لحجة السياسي المحلي المتسلط على الديني.

دين المستعبدين اليوم يمر في مرحلة نهائية، بل نستطيع ان نجزم انه بالفعل قد انتهى. لقد وقع الديني في فخ السلطة التي سحبت البساط من تحت قدميه وجعلته مهزلة للعالم، ما عدا بعض الاوساط المنتفعة من خطابه. وقد وجدنا دين المستعبدين هذا يحتفل به في اوساط غربية، لأنه يحرم السياسة بشقيها الجهادي والاعتصامي النابذ للعنف، فتقوم دراسات حالية في جامعات غربية عن ما يسمى (السلفية الهادئة) التي تعنى بشؤون الشوارب واللحى وطول الثوب وكلها تسمى (سمات الهوية) في عصر ما بعد الحداثة، وتستعرض الجاليات المسلمة التي تبنت دين المستعبدين هذا وكأنها أملنا في النهضة، وفرصتنا الوحيدة في التعايش مع الغير المختلف، وكلما تمعّنا في عدد سنتيمترات لحانا وثيابنا، كلما انغمسنا اكثر واكثر في عصر ما بعد الحداثة. ولكن كيف يكون ذلك ونحن قد قفزنا عن مرحلة كبيرة وهي الحداثة ذاتها؟

يسر السياسي في السعودية والغرب خاصة ان ننغمس في دين المستعبدين هذا، ونتحول الى جاليات مسلمة مسالمة ومستسلمة تتمرس في فن الطقوس والشعائر، وتتجادل في اصولها وطريقتها، وتتعارك على خطواتها وايقاعاتها، وقد ذهب احد المحللين الى القول ان هذا الدين هو خير خيار في عصر التمدن والتطور، وانه ينتشر ليس بأموال السعودية، بل لأنه الأصح والأنفع لأمة المسلمين، وخاصة شبابها المتعلم صاحب الخبرات الجديدة في شبكة المعلومات والتقنية، خاصة بعد ان نشأ جيل مسلم جديد اسماه بدون ارض (De territorialized). انه مستقبل المسلمين الجدد: بالفعل بدون ارض في عصر العولمة.

انجازات السعودية في فنون دين المستعبدين عظيمة، قد تشكرها عليه اطياف ملونة من السلطات السياسية في بلاد العرب والعجم. انه دين لا يترك خيارات واضحة وصريحة للمسلم. فمن جهة يحرم عليه الجهاد لتحرير ارض او رفع ظلم او نصرة مسلم آخر، ومن جهة أخرى يحرم عليه الاعتصام والتظاهر السلمي، وكل ما يسمح به هو جمع الصدقات، خاصة وان كانت مفاتيحها بيد سلطان الأمة. ومتى انتصبت الصناديق بمشيئة ولي ا لأمر، وحمل مفاتيحها الكبيرة التي تذكرنا بمفاتيح الجنة التي صنعها كهنوت اوروبا في القرون الوسطى، نستطيع ان نسترخي، لأننا قدمنا كل ما في وسعنا نصرة لإخوان لنا من غزة الى غيرها.

لقد قلص دين المستعبدين هذا حيز الحرية والخيار وحق الانسان في التعبير والنصرة عن طريق عمل سلمي كتجمع او اعتصام.. ولو حرمه دون استحضار الفساد في الارض، واللهو عن ذكر الله، لتفهمنا وجهة النظر، ولكن هذا الاستدعاء هو ما يجعلنا نفكر بفتوى شيخنا الفاضل، وبدينه الذي يستعبدنا، بعد ان تعلمنا ان العبودية للإله وليس للسلطان. ولو ان شيخنا قد ساهم ولو مرة واحدة في مظاهرة، لعرف كيف يكون الافساد في الارض واللهو عن ذكر الله مقترناً بصلاة وذكر لله.

ليت احدى فضائياتنا نقلت له كيف توقف المتظاهرون في ميدان الطرف الأغر ساعة الصلاة في لحظة خشوع، يفترشون بلاطاً اسود تجلد من قسوة البرد، لكن حرارة شعورهم وايمانهم بقضية غزة وأهلها، وحقهم المسلوب، جعلتهم يجمعون بين الاحتجاج والدين ـ بين صلاة تكرس استسلام العبد لخالقه وليس استسلامه لسياسة همجية غاشمة تقتل بدون هوادة.

وربما اعتقد الشيخ ان مظاهرات الاحتجاج هي كمظاهرات كرة القدم، وان اعلامها وشعاراتها كأعلام اعياد وطنية مفرغة من المعنى، وقومية لم تتبلور ملامحها سوى تلك التي تركع للفرد وتشرعن لتجمعات عبادة الشخص وطقوسها وموسيقاها وأعلامها وصورها المعروفة. هل يعرف الشيخ ان اي صورة انسان لم تحمل خلال الاعتصام سوى تلك الصورة التي حملت صورة طفل او طفلة جريحة جراء قصف مدمر؟

بالنهاية، ومن مبدأ القبول بالآخر، وهو شعار خلاب هذه الأيام، ومن منطلق حوار الأديان المروج له حالياً.. لا يسعنا سوى احترام دين المستعبدين والقبول به، وربما محاورته في جلسة مجلس أمن قادمة، ومصافحة إعلامه ـ عفواً لن نستطيع ذلك بحكم بعض العوائق التي ليس لنا عليها من سلطان كطبيعة الجسد البشري وانتمائه الى جنسه ـ الا اذا اختلطت الأمور، تماماً كما اختلطت على الديني المصري عندما صافح بيريس خلال جوقة حوار الأديان في الأمم المتحدة، خاصة واننا نعيش في عصر يكثر فيه محو الاختلاف بعد ان تشبهت النساء بالرجال والرجال بالنساء.

ولا يسعنا هذه اللحظة الا ان ندعو الله ان يحصننا من ريح دين المستعبدين ومستعبديهم وعبادهم. انها حصانة مطلوبة طالما اننا احياء ولسنا امواتاً، وقد نتساءل في المستقبل خاصة بعد تحريم الاعتصامات: ما هو حكم ارسال (الكليجة القصيمية) لأطفال غزة، علّها تفرحهم في ليلتهم الظلماء؟

عن القدس العربي، 13/1/2009

الصفحة السابقة