السعودية بين الإصلاح والممانعة السلفية

حسن المصطفى

في العام 1996، كان القيادي في تنظيم "القاعدة" يوسف العييري، موقوفا في العنبر رقم 1 في سجن المباحث العامة بمدينة الدمام شرق السعودية. العييري الذي كان عائدا لتوه من السودان، بعد رحلة لسوح الجهاد الأفغاني، أُحيل إلى المحاكمة، بتهمة الانتماء لتنظيم "القاعدة"، والإشراف على التدريب العسكري لعدد من عناصره. صدر الحكم بحقه بالحبس ثلاث سنوات، لكنه ما لبث أن أخلي سبيله دون أن يقضي كامل محكوميته بعفو حكومي، موصدا باب السجن من خلفه، ليعود إلى بندقيته التي اعتاد، مصوبا إياها في صدر من عفا عنه، وليسقُطَ المطلوب رقم 10 في قائمة 19، في مواجهات مع قوى الأمن السعودي قرب مدينة حائل، ويطوبه رفاق السلاح "شهيدا" بعد أن نصبه أسامة بن لادن، زعيما لـ"القاعدة في جزيرة العرب".

محمد العوفي، السجين رقم 333 في معتقل غوانتانامو، والعائد على جناح السلامة إلى السعودية في العام 2007، خضع لبرنامج المناصحة وإعادة التأهيل، الذي تشرف عليه وزارة الداخلية، بهدف تصحيح مسار تفكيره، ودمجه تاليا في المجتمع. إلا أن أبا الحارث، جرت رياحه بما لا تشتهيه سفن "المناصحة"، حيث ظهر في الرابع والعشرين من كانون الثاني المنصرم، في شريط مصور، إلى جوار ناصر الوحيشي، زعيم تنظيم "القاعدة في اليمن"، والسعودي سعيد الشهري، السجين السابق في غوانتانامو، والذي خضع هو الآخر للبرنامج ذاته، والمشتبه بتورطه في تفجير السفارة الاميركية في صنعاء في ايلول الماضي.

العوفي الذي عين قائدا ميدانيا للتنظيم، ما لبث أن تراجع عن بيعته، معلنا ندمه، وصابا جام غضبه على "الشيطان" الذي أغواه، لتسلمه السلطات اليمنية إلى نظيرتها السعودية، والتي أعلن المتحدث باسمها اللواء منصور التركي أنه سيتم التعامل مع العوفي وفق الأنظمة المعمول بها في المملكة، داعيا جميع المطلوبين ضمن قائمة 85 الأخيرة، أن يحذوا حذو العوفي.

نموذجان من مئات النماذج التي تعكس طبيعة التعامل بين السلطات السعودية من جهة، والمتشددين الدينيين من جهة أخرى. في علاقة لا تأخذ شكلا محددا، فهي بين الضرب بيد من حديد، والتلويح بجزرة العفو والمغفرة. السلطة أي سلطة يهمها في نهاية المطاف أن تسيّر أمور الحكم دون معوقات، وبأقل كلفة ممكنة. فإن أمكن حل المشكلات بالحوار والحسنى، فهو الأَوْلى، وإلا فإن المصلحة العامة التي تراها هي، ستحدد أي أسلوب مختلف سيتبع، تتفاوت غلظته من حالة لأخرى.

إلا أن السؤال الذي يظل ملحا عن هذه العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية في السعودية، هو حول مدى ارتهان الثانية للأولى، وهل بإمكان أي نظام دولة حديثة أن يبقى حبيس تصورات عقدية موغلة في التصلب، تكبح جماح الإصلاح، وتعطل أي تغيير ممكن. فالدولة لها اشتراطاتها وقوانينها ورؤيتها للمجموعة البشرية التي تنضوي ضمن حدودها الجغرافية، تختلف، بل تتناقض والمفهوم الديني السلفي، القائم على الصوابية والاصطفاء الإلهي. وهو منطق يحتكر الحقيقة في فئته، طاردا الأغيار، أي أغيار كانوا، إلى حظيرة "المدنس"، وبالتالي فإما أن يخضعوا للرؤية التي يصدح بها القوي، أو يتحملوا ما يجرونه على أنفسهم من متاعب!

ما يعقّد المسألة أكثر في السعودية، هو العلاقة التاريخية بين الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي من خلالها أسبغ عبد الوهاب الصفة الدينية على النظام في المملكة، وأعطاه شرعيته. وهي شرعية ربما كانت مفهومة أو ضرورية في مرحلة من المراحل الزمنية، إلا أنها باتت الآن عبئا ثقيلا على الدولة، جعلها تدفع أثمانا مكلفة في علاقتها مع العديد من مكوناتها الاجتماعية في الداخل، ومع محيطها الإقليمي والدولي في الخارج، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من ايلول 2001، وبروز أسماء 15 سعوديا اشتركوا في غزوتي نيويورك ومنهاتن، لم يكونوا إلا ابناء طبيعيين وأوفياء للمدرسة السلفية المتشددة.

هذه المدرسة تعددت مستوياتها، بين رجال دين كلاسيكيين، وسعوديين مزجوا بين الحركية السياسية وعقيدة "السلف الصالح"، وجهاديين حملوا السلاح ليس في وجه أميركا وحسب، بل امتدت أيديهم لتبطش بمدن عدة من المملكة. وكان الحبل السري الجامع بين هؤلاء الفرقاء، هو التشدد ونبذ الآخر وتكفيره.

السلفيون المهادنون للدولة في خطابهم، استغلوا حاجة النظام لهم بعد تفجيرات الرياض 2003، والمواجهات المفتوحة بين رجال الأمن السعودي وأعضاء تنظيم "القاعدة". فالحكومة حينها، استعانت بعدد من رجال الدين لتبيين فساد من سمّتهم "الفئة الضالة"، ومنحت العديد من الدعاة مساحة في الإعلام المحلي، وخففت المضايقات عن عدد آخر منهم، ليكونوا سندا لها في مواجهاتها مع "الإرهابيين". إلا أن هؤلاء استغلوا الفرصة، فراحوا يوسعون من نفوذهم، وينشرون فكرهم المتطرف، مرتدين معطف الحمل الوديع، فيما هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، راح رجالها ينشطون في مواجهة كل ما يرونه مخالفا للشريعة الإسلامية، متجاوزين القانون في كثير من الأحيان، ليسقط جراء ممارساتهم عدد من الضحايا، ما ولد رأيا عاما ساخطا ضدهم، وارتفعت الأصوات المنادية بمقاضاتهم ومحاسبتهم على تجاوزاتهم المتكررة.

إن التغييرات الأخيرة التي قام بها العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، وإعفاؤه الشيخ إبراهيم الغيث من رئاسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعيين الشيخ عبد العزيز الحمين، بديلا منه، ما هي إلا خطوة في اتجاه إصلاح هذا الجهاز الممانع في سلوكه، وبنيته، وتفكيره لأي تغيير. من هنا، يمكن قراءة الأحداث الأخيرة في المدينة المنورة، حيث مرقد الرسول محمد ومسجده، والتي جرت فيها صدامات عنيفة بين مجموعات من رجال الحسبة والمتشددين السلفيين من جهة، ومجموعات من الزوار لمسجد الرسول ومقبرة "البقيع" من جهة أخرى. يمكن قراءة هذه الأحداث بصفتها محاولة بطريق غير مباشر من جهاز الحسبة لمقاومة ومواجهة التغييرات الملكية الأخيرة، ووضع عصيّ في دواليب الإصلاح التي لا يراد لها أن تسير إلى الأمام، وإنما جرها سنوات إلى الوراء.

الاعتداء على الزوار العزّل بالسلاح الأبيض وبالهراوات، وجرح عدد منهم، وتفريقهم بالقوة، وافتعال المشكلات اليومية، ليس بالعمل الفردي الذي يصدر من فرد هنا وآخر هناك، إنما هو عمل منظم، مدفوع في اتجاه التصعيد وخلق فتنة تعم البلاد بين المكونات المذهبية المختلفة، فتنة عابرة للمناطق، ليكون شغل الناس الشاغل هو الانغماس في هذه الفتنة، والتراشق الكلامي، عوضا أن يشارك الجميع في مسيرة الإصلاح والتنمية.

ما يثير الشك والريبة لدى عدد من المراقبين، هو صمت بعض الجهات، وربما تواطؤها حيال ما يحصل. فعندما يتم تبرئة فريق، وتجريم الآخر، وعندما يتواطأ رجل الأمن مع رجل الحسبة ضد المواطن العادي، حينها يختل ميزان العدالة، وينتفي أي امكان لإصلاح حقيقي في جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة، وفي شؤون البلاد عامة.

فالإصلاح أساسه العدل والمساواة، وميزانه القضاء العادل المستقل، الذي يميل الى الدليل القاطع، لا الى المحسوبيات المذهبية أو المناطقية.

لقد جاءت أحداث المدينة المنورة، لتكون مختبرا حقيقيا لمسيرة الإصلاح، وقدرة الدولة على ضبط المجموعات المتشددة المنفلتة من عقالها. وهي في حال تعاملت بيسر ورأفة معهم، كما تعاطت مع عدد منهم من قبل، فإنها بذلك ترجئ التغيير الحقيقي لأمد غير مسمى، مفرغة بذلك الإصلاحات من مضمونها.

إن القرارات الملكية الأخيرة، آن لها أن تتوج بإعادة صياغة لعلاقة الدين بالدولة في السعودية، لتجعل أساس شرعية أي نظام ليس بعلاقته بمؤسسة دينية عتيقة، وإنما بعقد اجتماعي مدني مع مواطنيه، الذين هم سواسية أمام القانون، لا امتياز لأحدهم على الآخر، في دولة حديثة لا يحاسب فيها الناس على أساس النيات والمعتقدات، وإنما وفق الحقوق والواجبات. دولة يستحقها السعوديون الذين لا يقلون علما ووعيا عن أقرانهم، ويرفضون أن تختطفهم فئة مغالية.

عن صحيفة النهار اللبنانية، 1/3/2009

الصفحة السابقة