الدكتورة مضاوي الرشيد

الكوبري: حصاد الاصلاح السعودي

الدكتورة مضاوي الرشيد

دخلت في نقاش حول انجازات الأعوام الأربعة السابقة مع احد الكتاب السعوديين على قناة فضائية وتناولنا قضية الإصلاح السياسي، وانتهى الحوار الى موضوع الكوبري وشبكة الطرق السريعة المعبدة التي تربط مدن المملكة خاصة تلك التي تم انجازها خلال عهد الملك عبدالله.

ونستغرب الالتباس الذي يحصل عند البعض خاصة اولئك الذين يخلطون بين مفهومين: احدهما يتناول الاصلاح السياسي وآخر يستشهد بانجازات مادية منها تطوير البنية التحتية بما فيها (الكباري) والمطارات وغيرهما من مرافق الحياة.

لا يزال مفهوم الاصلاح مغلفاً بمعايير الانجاز المادي المرئي ولا يتجاوزه الى جوهر الاصلاح السياسي الذي طالب به الكثيرون في السعودية وصاغوا العرائض من أجل تبلور مفهومه، وجمعوا التواقيع المطالبة به، ودخل بعضهم السجن، وحرم آخرون من ابسط الحقوق بسبب الحراك الذي قاموا به.

هذه المطالب الاصلاحية تجاوزت (موضوع الكوبري) وتطرقت الى ما هو اكثر شمولية حيث طرحت وثائق الاصلاح رؤية واقعية لتغيير حقيقي لا يزال حتى هذه اللحظة معلقاً ومتوقفاً على ارادة عليا لم تستجب له واكتفت بنظرية الصبر والتدرج ومقولة ان المجتمع ليس مهيئاً لقفزة تنقل النظام السياسي الى مرحلة الانفتاح المرجو الذي ايضاً يتجاوز موضوع ادخال السينما والمسرح الى ما هو أهم كالمشاركة السياسية وسيادة القانون وفصل السلطات.

أي تغير جوهري حصل في العالم كان نتيجة حراك شعبي تنخرط فيه النخب والمجتمع المدني لمدة عقود طويلة ترضخ تحت ضغطه القيادة السياسية وتتنازل فيه عن استئثارها بالسلطة وبما أن السعودية بتركيبتها الحالية الاجتماعية واقتصادها الريعي قد أخرا هذا الحراك، الا انه كان متلازماً مع تثبيت الدولة الحديثة ولم ينقطع ابداً.

ولكن هذا الحراك لا تقابله رغبة حقيقية في التغير السياسي والنقلة النوعية من قبل المحتكرين للسياسة في البلاد. اكتفت القيادة بالتنمية والتي رافقتها طفرة نفطية خاصة في السنوات الماضية مما جعلها تختبئ خلف الانجازات المادية لتؤجل الاستجابة لمطالب الاصلاح السياسي، فتوقفت عجلته رغم بعض المطالب التي لم تجد مكاناً سوى صفحات الانترنت لتعبر عن رغبة حقيقية وقفزة نوعية في تركيبة الحكم الداخلي.

وظلت هذه المطالب بعيدة عن اضواء الاعلام الرسمي الذي لم ينشر حتى هذه اللحظة خبر هذه المطالب أو التعليق عليها من قبل أي مسؤول رفيع المستوى. يحصل هذا على خلفية ادعاءات رسمية بانفتاح الصحافة السعودية ويبدو انها اليوم اكثر انشغالاً بالشأن الايراني من انشغالها بالشارع السعودي ومطالب نخبه الاصلاحية. وينشغل هذا الاعلام بالانتخابات الايرانية ونتيجتها اكثر من انشغاله بالغاء الانتخابات السعودية في بلديات محلية أو قمع الحريات في بلد تعتبر فيه مصادرة حقوق الانسان من مسؤوليات النظام.

ويتبجح الاعلام السعودي بنكبة الديمقراطية في ايران وقمع الاصلاحيين وتيارهم في شوارع طهران بينما يظل مصير المعتقلين السعوديين على خلفية دعوة للمظاهرات أيام احداث غزة مجهولاً لا يتطرق له الاعلام السعودي بل أنه يعتم عليه ويتجاهله ناهيك عن قضية المساجين الذين لم يقدموا الى محاكمة حتى هذه اللحظة رغم مرور اكثر من عامين على اعتقالهم بحجة انهم كانوا ينوون تأسيس حزب سياسي.

فمظاهرات ايران ثورة على حكم الملالي كما يزعم الاعلام السعودي بينما مظاهراتنا فتنة وفساد في الارض تستدعي فتاوى التحريم والقمع المنظم. فالنظام السعودي ومن خلال اعلامه الممول رسمياً بدأ يعطي دروساً في الديمقراطية المعدومة في الداخل السعودي ودروسه الموجهة الى الداخل لا تتجاوز صور الانجاز العظيم الذي يمر فوق الكوبري المزعوم والمدن الصناعية المبعثرة على أرض الواقع، والتي اتفق المحللون الاقتصاديون على أن هدفها الأول تنويع الدخل والاستثمار للدولة، وليس ايجاد فرص عمل حقيقية للمواطنين، وسيكون مصيرها كمصير المدن القديمة التي بنيت بعد طفرة السبعينات من القرن المنصرم.

وحتى ان استبدلنا انجازات التنمية واعتبرناها بديلاً حقيقياً للاصلاح السياسي فسنجد اننا لا زلنا في مرحلة متخلفة عندما نتعاطى مع التنمية البشرية. فجامعاتنا التي صرفت عليها الملايين تبقى حتى هذه اللحظة في مؤخرة المراكز الثقافية ونسبة الفساد تعد من اعلى النسب في العالم وقمع الحريات يستشري بل يزداد خاصة وأن معطيات القرن الحالي قد جاءت بوسائل اتصال حديثة تزامنت مع تطوير تقنيات جديدة في نفس الوقت.

فما يكسبه المجتمع عن طريق انخراطه بوسائل الاتصال الحديثة تأخذه منه الدولة بوسائل اخرى هدفها الحجر على هذه الوسائل وحجبها تحت الذريعة المعروفة وهي الحفاظ على الامن الاجتماعي واخلاق الأمة ولكن يبقى الهدف الرئيسي هو التضييق على حريات المجتمع وكذلك قدرته على تنظيم نفسه في مجالات بعيدة عن سلطوية النظام والآلة القمعية.

استطاع النظام السعودي ان يقنع شرائح كبيرة في المجتمع السعودي ان الاصلاح لا يأتي الا من فوق وان ظهرت معالمه المقننة فسيكون هبة تقدمها السلطة كما تشاء وعندما تشاء لأن حراك المجتمع يشق الصف وينذر بعواقب وخيمة كالفتنة والانقسام والفوضى. فيتحول المجتمع تحت هذه المنظومة الى مترقب للهبة الاصلاحية التي تدل على حكمة فطرية للقيادة حيث هي وحدها من يقرر مكانها وزمانها وتفاصيلها وأي خطوة اصلاحية تعلن تتلقفها وسائل الاعلام الرسمي وتعتبرها مفاجأة كبرى وشطحة اصلاحية مدروسة تشكر عليها ويتحول عزل هذا المسؤول أو ذاك واستبداله بآخر إلى ثورة حقيقية ستغير مسار المؤسسات الحكومية ورؤيتها المستقبلية.

ويخلق هذا النوع من الدعاية المدروسة حالة تأهب وانتظار عند الكثيرين الذين يصابون باحباط مستمر بعد الاعلان عن انجازات الادارة ومشاريعها التنموية. والكل يذكر مسرحية الانتخابات السعودية والتي صورها الكثيرون وكأنها استمرارية لتجربة سابقة. فالتقفها الاعلام الداخلي والخارجي الذي بقي صامتاً مؤخراً عندما تم الغاؤها بأمر خاص. وبقية عملية الالغاء مدفونة لم يمر عليها الاعلام السعودي ولم يكرس لها حلقة نقاشية واحدة.

وبينما ننشغل بتفاصيل الدستور الايراني ومرشده الأعلى لا ننتبه الى عملية توزيع الادوار واستئثار البعض بمناصب عليا في الدولة لأكثر من نصف قرن في بلادنا. نشرح الدستور الايراني ونختبئ خلف شعارات عريضة تحاول اقناعنا أن دستورنا القرآن واكثر ما نطمح له هو نظام اساسي صدر على عجل في بداية التسعينات تحت ضغوط محلية وخارجية. كان هدفه الأول تعريف المجتمع بحق أسرة تحكمه وشخصيات تنتظر دورها في تبوؤ اعلى منصب في الدولة.

لقد حان الوقت لأن نترك ايران لشعبها اذ اثبت هذا الشعب قدرة فائقة على تدبير مصلحته وحراك شعبي قديم أطاح بدكتاتورية لها جذورها التاريخية ونلتفت لمأساتنا ومأساة مؤسساتنا التي تحولت الى بؤر همها الأول حماية النظام وليس المجتمع بل هي متهمة اليوم بالعمل ضد المجتمع وقهره وتقليص استقلاليته وحراكه.

وعندما نفصل فقط موضوع التنمية المادية وانجازاتها المزعومة عن قضية الاصلاح السياسي سنجد انفسنا أمام واقع مزر حيث تخلفت المملكة ليس عن محيطها العالمي بل عن محيطها الخليجي في كثير من الأمور ومن أهمها تطوير المؤسسات الكفيلة باشراك المجتمع في تقرير مصيره ومصير ثروته وسياسته الخارجية وطالما ظلت الحريات مصادرة وخاصة الحريات السياسية سنظل نردد شعارات باهتة تستغل إعلامياً وسنظل نحكم من قبل شركة عائلية تعاني اليوم من معضلة كثرة المساهمين. فالاوطان لا تبنيها الشعارات بل تبنيها مؤسسات نزيهة مستقلة لها ديمومة تبقى بعد فناء الاشخاص. وعندها فقط ربما ننخرط في حلقات دروس الديمقراطية التي نوزعها على العالم والجيران على شاشات التلفاز وصفحات الجرائد.

وقبل أن نستهزئ بتجارب الشعوب الأخرى وننبش تعثر ديمقراطيتها لنبدأ مشوارنا الطويل على كوبري التنمية السياسية الحقيقية. وكما هي مطبات الكوبري الذي يصل المدن بعضها ببعض سنجد أن اكبر مطب للاصلاح السياسي قد وضعه المسؤول الكبير الذي توج عهده بشد الاحزمة وتقنين عدد المستأثرين بالسلطة وصلاحياتهما ومواردهم التي يستمدونها من خزينة الدولة. لقد تلاشت هذه الشعارات ما ان ظهرت ولم يبق منها سوى الاصداء المبهمة وحالة إحباط دفعت البعض في الداخل السعودي إما للتقوقع والاختفاء أو لتصعيد لهجة المطالب الاصلاحية التي لا تلقى اذناً صاغية.

عن القدس العربي، 29/6/2009

الصفحة السابقة