معوقات الديمقراطية في المملكة العربية السعودية

أربعة أسباب رئيسية وراء تأخر المشروع الديمقراطي والإصلاحي في المملكة دون سواها من دول الخليج العربي التي تتشابه نظمها السياسية ونسيجها الإجتماعي:

السبب الأول: القيادة السياسية الجامدة، ونقصد بها كبار أمراء العائلة المالكة، وهم من الجيل القديم المحافظ الذي ناهز الثمانين عاماً، والذي لازال يقتات على إرث الماضي، ويعيش في أفكار الماضي، ويعتبر موضوع السياسة والحكم شأنٌاً عائلياً خاصاً، لا حقّ لأحد التدخّل فيه، أو المطالبة بتعديله. هذه القيادة تبدو غير مهيأة لتقبّل موضوع الإصلاح، أو التعاطي مع الأفكار الجديدة والتطورات الفكرية التي حدثت في المجتمع السعودي والمجتمعات المجاورة.

ثم إن هذه القيادة بطيئة في الفعل والحركة وربما الفهم أيضاً، وهي بطبيعتها المحافظة تميل الى إبقاء القديم على قديمه، وتخاف من طرق بوابة التغيير، ولهذا صحّ القول بأن الشعب السعودي، وخلافاً لما يقال ويشاع من أذناب السلاطين، متقدّم على حكومته وقيادته، وطموحاته يصعب أن تستوعبها الذهنية الملكية في الوقت الحالي.

لذلك، لا يتوقّع أن قيادة هرمة لم تنل حظاً من التعليم ومستسلمة لأفكار قديمة ماضوية أن تتقبل دعوات الإصلاح مهما تدنّت حدودها، وهي حين تحاصر لا تستسلم بسهولة، وتلتف حوله بالتنازل الشكلي (مثال ذلك أنظمة الحكم) وحتى هذا التنازل لا يأتي إلاّ بولادة قيصرية وببطء شديد، ودونما فاعلية، كما هو واضح من تجربة السنوات العشر الماضية.

لقد اختلف الأمراء بشأن إدارة الدولة، واختلفوا على تقاسم الحكم، ولكنهم لم يختلفوا على أن الإصلاحات السياسية خط أحمر لا يمسّ وأنه قد يتهددهم جميعاً. لعلّ الأمير طلال بن عبد العزيز كان الوحيد الذي يطالب بالإصلاح وضمن دائرة ضيقة في فترة الستينيات، ولكنه عاد وارتدّ على مجمل أفكاره ومطالبه، وهو اليوم وإن أبدى تميّزاً عن بقية الأمراء، إلا أنه يشكّل حالة الشذوذ والنشاز، فضلاً عن أنه لا سلطة لديه، وقد قيل بأنه لو كان يمسك بزمام الأمور لفعل فعل إخوته الكبار.

السبب الثاني: وجود مؤسسة دينية متضخمة ومسيطرة على الأوضاع الثقافية والفكرية وعلى المسلك الإجتماعي بشكل عام. هذه المؤسسة بطبيعتها معادية للتغيير، وهي تتصف بالمحافظة الشديدة، وأسباب رفضها متعددة، أهمها: 1) أن الإصلاح يخفّض حصّتها من الحكم، أو بالأصح يضعها ضمن حجمها الطبيعي، ويفسح الطريق لقوى ومصالح أخرى مقموعة بالبروز. 2) ترى المؤسسة الدينية بأن الطابع الديني للمملكة سيتغير بالسلب في وجود الحرية والشورى، أكثر منه مع الديكتاتورية التي تمثلها القيادة السعودية الحالية. رجال المؤسسة الدينية يعتقدون بأن العلمانية والمذاهب الدينية المختلفة في الحجاز وغيره ستنتعش وتخلق مجتمعاً على غير النهج الذي تريد الوهابية تربيته عليه. 3) إن المؤسسة الدينية في المملكة تعدّ الأكثر عنفاً وتطرّفاً وتخلّفاً مقارنة مع نظيراتها في طول العالم الإسلامي وعرضه. ورجال المؤسسة ضيّقو الأفق لا يؤمنون بالإنفتاح على الآخر ولا الحوار بالحسنى ولا يهمّهم من شؤون الدين سوى الموضوع العقدي في حدوده الضيّقة دون الإلتفات للأبعاد الأخرى للدين الإسلامي.

كما رجال السياسة في المملكة، فإن رجال الدين الكبار من المعمرين، كثير منهم ناهز الثمانين أو التسعين عاماً، لم يسافروا طيلة حياتهم خارج المملكة، إذ لا يجوز السفر الى بلاد الشرك والكفر (وهذا يشمل كل البلدان العربية والإسلامية)، والعائلة المالكة من جانبها لا تختار ـ كما لاحظ عديد من المراقبين ـ إلا ذوي العاهات من العمي وضعيفي السمع، وأجلى مثال يمكن الإستشهاد به، أن منصب الإفتاء منذ ان وضع تولاّه ثلاثة مشايخ عميان.. وأرجع جهيمان العتيبي سبب تعيينهم حتى لا يرون المفاسد بأنفسهم وحتى يمكن خداعهم والإحاطة بهم عبر الجواسيس والمخبرين. أمثال هؤلاء المشايخ الذين يعيشون في بيئة مغلقة متعصّبة، لا يمكنهم أن يتقبلوا إصلاحاً سياسياً يمنح أحدهم صوتاً مساوياً لأي مواطن عادي.

من المسائل شديدة الوضوح، ان رجال المؤسسة الدينية لم يتركوا أمراً إلاّ وطرقوه مطالبين رجال الحكم بتعديله وفق طريقتهم ورؤيتهم (وبينها الإنسحاب من الأمم المتحدة) ولكن لم يظهر منهم في تاريخهم كلّه من يطالب للمواطنين بحق سياسي، أو إصلاح شأنٍ من أمور الحكم المباشرة، كإقرار منهج الشورى الملزمة، وحريات المواطنين الأساسية. cKa هذه الأمور ليست موجودة على أجندتهم، لا خوفاً من رجال الحكم بل لعدم إيمان منهم بها.

السبب الثالث: ضآلة الضغوط الشعبية الداخلية، بسبب ضعف الثقافة السياسية في المجتمع السعودي، وبسبب نجاح العائلة المالكة، وحتى عقد مضى، في استيعاب النخب المتعلمة ضمن جهاز الدولة، إضافة الى توافر الغطاء الدولي الغربي الأميركي المعادي لتحرر شعب المملكة، الذي كان يرى في الحريات نقيضاً لسيطرة أميركا واستنزافها لثروات الشعب، فوفرت الحماية للعائلة المالكة ورجالها، ودافعت عن استبدادها، وامتنعت عن توجيه النقد لها، وافتعلت التبريرات لها لتقمع خصومها.

لكن هذا العامل أخذ يعمل في غير صالح العائلة المالكة. فعلى الصعيد المحلي تطور الوعي السياسي المحلي الى أبعد الحدود بفعل الأزمات السياسية التي مرت بها المنطقة العربية والخليجية بوجه خاص، كما بدأ مفعول الأزمة الإقتصادية بالتصاعد السريع، مما جعل الإدارات الحكومية غير قادرة على امتصاص فائض النخب، وغير قادرة على إرضاء عامّة الشعب.

أما الوضع الدولي، فقد انقلب بكامله ضد العائلة المالكة بسبب تداعيات تفجيرات نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001، مما جعل الإصلاح السياسي مطلباً دولياً بعد أن فرّخت الديكتاتورية وأحادية الرأي الإرهاب كما يقولون.

إذا كانت العائلة المالكة قد استطاعت تجنّب خيار الإصلاح لظروفها الموضوعية واعتماداً على غياب الإرادة الحرّة المحلية، وعلى الدعم الأميركي، فإنها اليوم غير قادرة على المضي الى ما لا نهاية، وستشرع في الأشهر القليلة القادمة ـ كما يتوقع عدد من المطلعين ـ في تبني التغيير، وإن كان بطيئاً متدرجاً. على الأقل لكي تخفف الضغوط عن نفسها، وتستبق الأحداث حتى لا تتطور الأمور الى تقسيم المملكة أو إنهاء الحكم السعودي نفسه. وهذا الأمر إن حدث، فإنه سيلزم المؤسسة الدينية بقبول الإصلاحات، وفي حال رفض أطرافها الراديكاليون فإنهم سيتعرضون لقمع السلطة نفسها، هذا إن لم يكن إضعاف المؤسسة الدينية مقدمة للإصلاح نفسه.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة